العدد 96 - 97 -

السنة الثامنة – ذو القعدة وذو الحجة 1415هـ -نيسان وأيار 1995م

من مباحث التشريع

أصول الفقه

بقلم: أسامة مطر

بعد أن غابت أحكام الإسلام عن حياة المسلمين وطبق مكانها أنظمة مستوردة من مبادئ الكفر، قل اهتمام المسلمين بدراسة علوم التشريع الإسلامية، فانشغلوا عنها بدراسة ما لدى الأمم الأخرى من قوانين وأنظمة وأسس تشريع واستنباط، فقد أخذت الجامعات في العالم الإسلامي تخرج سنوياً أعداداً كبيرة من طلبة الحقوق ودارسي التشريع الغربي ممن يجدون لهم عملاً وممارسة لدراستهم بسبب أن هذا الذي يدرسونه هو المطبق عملياً في ديار المسلمين. وما يتعلمونه من الأحكام الشرعية إنما هو منحصر في ما يسمى بالأحوال الشخصية، أي أحكام الزواج والطلاق وبعض أحكام الفرائض، والذين يلتحقون بالمعاهد الشرعية كثير منهم يفعل ذلك أنه لم يتيسر لهم دراسة غيرها، والبقية الباقية ممن يوجد عندهم الاهتمام بدراسة الإسلام لا يتلقونه بشكل الصحيح، أي بوصفه معالجات لوقائع الحياة لسوء المناهج الموضوعة للتدريس في هذه المعاهد من جهة أنها تتعرض بشكل أساسي للنواحي الفردية من أحكام الإسلام في حياة الإنسان ولا تعني نفسها كثيراً بأحكام الجماعة والدولة، ومن جهة أن الإسلام إنما يدرس فيها كتراث قديم جميل، ويقتصر فيه على حفظ النصوص وأقوال الفقهاء واختلافهم دون فهم لحقائق هذا الاختلاف وأسبابه الموضوعية، فيتخرج الملتحق بهذه المعاهد وكأ،ه كتاب متحرك أو جهاز كمبيوتر تضغط على أزراره فيعطيك الجواب الذي برمج بحسبه، وتجدع عاجزاً عن معالجات الوقائع المتجددة من خلال ما تلقاه من العلم.

في ظل هذا الغياب لأحكام الإسلام من حياة المسلمين وفي ظل الأوضاع المتردية إلى تعيشها الأمة الإسلامية قامت دعوات بين المسلمين تطالبهم بالعودة إلى الإسلام بوصفه الملجأ الوحيد الذي سيخرجهم مما هم فيه، ولما لاحظ بعضهم وجود اختلاف بين المسلمين في فهم الإسلام دعوا الناس إلى الرجوع إلى المنبع الأساسي للإسلام أي إلى الكتاب والسنة والاقتصار عليهما دون الاستعانة بالعلوم التي نشأت عند المسلمين بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وقد أوردوا حججاً لتبرير هذه الدعوة فقالوا:

1- إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد علم الصحابة الإسلام وأنشأ خير جيل دون الحاجة إلى مثل هذه ا لعلوم، وبما أن الرسول قدوتنا ويسعنا ما يسعه فلا حاجة لنا إذن في هذه العلوم.

2- إن الله أمرنا حين الاختلاف بالعودة إلى الكتاب والسنة وكذلك الرسول عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)، وقال عليه الصلاة والسلام: «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما، كتاب الله وسنتي» وهذه العلوم ليست الكتاب والسنة اللذان أمرنا بالعودة إليهما، فالقرآن لم يقل مثلاً بأن الحقيقة الشرعية مقدمة على الحقيقة اللغوية، والسنة لم تقل مثلاً بأن الإجارة هي عقد على المنفعة بعوض، وإنما هذه أقوال أشخاص، ونحن غير ملزمين بالرجوع إليها وهكذا يمضون في استدلالهم ليقولوا بالتالي بأننا لا نحتاج إلى جانب الكتاب والسنة شيئاً.

3- إن انشغال المسلم بهذه العلوم يؤدي إلى قسوة القلب والبعد عن المنبع الأصلي، أي ا لكتاب والسنة وعدم الأخذ عنها مباشرة، وهذا ما يجدر بالمسلم أن يبتعد عنه.

1- وقبل الشروع في الرد على ما أورده هؤلاء من أوله -وما أسهل ذلك- أود أن أشير إلى أمرين:

إن القول بمثل هذا الرأي لا يصدر إلا عن شخص ليس لديه إدراك لواقع النصوص التشريعية ولما يتطلبه البحث التشريعي من إلمام بكثير من المعارف الغير موجودة بشكل ظاهر في النصوص –وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى فيما بعد- ولا يصدر إلا عن شخص لم يمارس عملياً تطبيق الأحكام واستنباطها، ولذلك لم تظهر مثل هذه الآراء إلا في العصر الحالي حيث أبعد الإسلام عن الحكم، وطرح هذه الأفكار إن هو إلا من قبيل الكلام العام غير القابل للتطبيق في أرض الواقع.

2- إن معنى هذا الكلام إلغاء وإهمال كل ما أنتجه المسلمون من المعارف الضرورية لفهم التشريع الإسلامي ولفهم الكتاب والسنة طوال تاريخ الإسلام، ومعنا أيضاً التنكر لعلماء المسلمين ولنقلهم، وهذا ما يتناسب مع ما يريده الكافر من أجل إبقاء المسلمين بعيدين عن إسلامهم، لأننا إذا لم نستعن بهذه العلوم فسنقف أمام نصوص الكتاب والسنة حيارى لا نستطيع فهمهما ورد التعارض المتوهم بينها أو ترجيح نص منها على نص، وبالتالي فسيبرز عجز الإسلام كما يقولون في معالجة أمور الحياة.

وللرد على حججهم نقول:

أ- بالنسبة للحجة الأولى فإن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يثقف أصحابه بثقافة الإسلام ويعلمهم ما في الكتاب والسنة ويشرح لهم ذلك، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: “كان رسول الله A يعلمنا الإيمان ثم يعلمنا القرآن” وقد كانت المادة التي تدرس من قبل الرسول لأصحابه هي النصوص القرآنية فكان يبينها حق البيان لأصحابه ليعوا واقعها وليعالجوا أمور حياتهم بحسبها والدليل على ذلك أنهم في جملتهم أصبحوا مجتهدين في الإسلام، وما كان لهم أن يحققوا ذلك لولا إدراكهم لمعاني القرآن والسنة. وما هذه العلوم التي أنتجها العلماء والمسلمون في معظمها إلا شروح لمعاني الكتاب والسنة وصياغة هذه المعاني صياغة فنية اصطلاحية تيسر لدارسها الفهم الواضح السريع المنضبط إضافة إلى أن اللسان العربي قد فسد بعد وفاة الرسول وابتعد الناس عن فهم النواحي التشريعية بسليقتهم، فكان لا بد من وضع الضوابط للغة وللشرع وإلحاقها بدراسة الكتاب والسنة.

ب- وبالنسبة للحجة الثانية فإننا لا نعترض على الاحتكام إلى الكتاب والسنة وفقط إليهما فإن هذا حق لا يكابر فيه إلا ضال، ولكن الرجوع إلى الكتاب والسنة يعني الرجوع إلى معانيهما واستنباط الأحكام منهما وهذا لا يتيسر لكل إنسان بل لا بد للمرء من أن يملك الأدوات ليتأتى له التعامل مع هذه النصوص. فقد قال الله تعالى في كتابه: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)، وقال عليه الصلاة والسلام: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» وقال حين دعا لعبد الله بن عباس «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» ولذلك فإنه لا تعارض بين الرد إلى الكتاب والسنة وبين الرجوع إلى هذه العلوم لأنها ليست إلا توضيح وتبيين لمعاني الكتاب والسنة بل هي من معاني الكتاب والسنة أو ما تستلزمه هذه المعاني.

ج- وأما بالنسبة للحجة الثالثة فإنها تسقط عن مستوى الاستدلال بمجردها إذ هي تعني أن علماء المسلمين الأفاضل كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة ومالك وسائر علماء المسلمين كانوا أصحاب قلوب قاسية لانشغالهم بمثل هذه العلوم بل بتأسيسهم لها وهذا طعن أيما طعن في سلف هذه الأمة. إن الانشغال بمثل هذه العلوم ييسر للمسلم فهم الإسلام فيدرك من خلالها عظمة هذا الدين ومدى صحته وصحة تسييره لشؤون الناس ويلمس لمساً واقعياً لا مشاعرياً صدق أحكام الإسلام ومعالجاته، فيلين قلبه وجسده لله عز وجل ولأوامره. ثم إن الالتزام بأوامر الله لا يمكن أن يحصل إلا بعد معرفة هذه الأوامر، وهذا لا يتأتى إلا بالعلم فقد قال عليه السلام: «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة».

إن الرجوع إلى الكتاب والسنة أمر ضروري لا غنى للمسلمين عنه، لأنهما مصدر الإسلام الوحيد، وإن الأفكار والأحكام غير الإسلامية التي تسربت إلى أدمغة المسلمين وحياتهم لا سبيل إلى إقصائها وإلى تنقية الإسلام وتصفيته منها إلا بهذا الرجوع، ولكن ليس المقصود بذلك مطلقاً استبعاد ما أنتجه المسلمون من معارف شرعية ساعدتهم في استنباط الأحكام الشرعية، كأصول الفقه وعلم التفسير وأبحاث اللغة وعلوم القرآن ومباحث الفقه وعلم الحديث، وما إلى ذلك، لأن هذه المعارف ضرورية للمجتهد ضرورة الماء للحياة حينما يريد الاجتهاد في النصوص الشرعية من أجل استنباط الأحكام للوقائع المتجددة، وخصوصاً في هذا الزمان الذي بدأت معالم الصحوة الإسلامية تظهر فيه بشكل واضح، وصار التوجه نحو الإسلام توجهاً عاماً يشمل كافة قطاعات الأمة الإسلامية. فإن الحياة الإسلامية التي ستستأنف بإذن الله في القريب العاجل والعمل لاستئناف هذه الحياة قبل ذلك يلحان على المسلمين ويدفعاهم إلى البحث في الثروة العظيمة التي تركها أجدادنا عندما كانت أحكام الإسلام مطبقة للاستعانة بها في فهم مراد الله عز وجل ومعاني ا لنصوص الشرعية. إلا أن هذه الثروة الضخمة اختلط فيها الغث بالسمين والقوي بالضعيف والراجح بالمرجوح، بل وخالطتها مفاهيم وآراء لا يقبلها الإسلام الصادق بحال من الأحوال، ولذلك وجب أن تكون دراسة هذه المعارف دراسة البصير الممحص المتثبت، لا الأخذ بكل ما فيها حتى يخلص باللبن السائغ.

وفي هذا الباب من مجلة الوعي “من مباحث التشريع” سيتم بإذن الله التعرض لقضايا تشريعية ولجملة من هذه المعارف، ليس لدراستها دراسة أكاديمية، وليس لمجرد نشر الثقافة الإسلامية إنما هو من أجل الناحية العملية فيها أي حتى يدرك المسلمون الواقع التشريعي في الإسلام ويهبوا من أجل إيجاده حياً متحكماً في علاقاتهم، فنسأله تعالى التوفيق والتحقيق وسيقف إن شاء الله على رأس هذه المباحث على أصول الفقه، ولكنه لن يتناول حسب الترتيب الوارد في كتب الأصول، بل ستطرح قضاياه منفصلة، وتبحث بحثاً متكاملاً على حلقة أو أكثر، بحيث يخرج المطالع لها برأي وتصور حول الموضوع، مع محاولة عرض المواضيع بشكل مبسط وسلس بعيداً عن الأسلوب الصعب المتبع في كتب الأصول ما استطيع إلى ذلك سبيلا دون الخروج عن طبيعة المباحث الأصولية ودون الإخلال فيها. وفي البداية لا بد من التعريف بأصول الفقه حتى يعرف القارئ أين موقع هذا العلم وفي أي شيء يبحث.

– التعريف بأصول الفقه: أصول الفقه مركب إضافي من جزءين، وأي مركب إضافي نريد فهمه فلا بد من فهم أجزائه بداية، لأنها تعتبر بمثابة اللبنات في البناء فحتى نفهم مثلاً معنى قولهم “تحقيق المناط” علينا أن نعرف معنى كلمة تحقيق ومعنى كلمة مناط، ثم بعد ذلك يتسنى لنا معرفة معنى تحقيق المناط، وكذلك الأمر بالنسبة لأصول الفقه فعليان أن نعرف معنى كلمة أصول ومعنى كلمة فقه.

الأصول: الأصل في اللغة ما ينبني عليه غيره أي يكون أساساً لغيره وهذا البناء قد يكون حسياً كبناء البيت على أسس من الأسمنت والحديد في الأرض فتكون هذه أصول البيت، أو يكون هذا البناء معنوياً ذهنياً وذلك كبناء الحكم على الدليل، كبناء التفكير على البديهيات العقلية، فالدليل بالنسبة للحكم الذي بني عليه يعتبر أساساً وأصلاً، وكذلك البديهيات العقلية بالنسبة للتفكير تعتبر أساساً له، والمعنى اللغوي هو المراد من كلمة “أصول” الواردة في لفظ أصول الفقه فليس لها معنى اصطلاحي خاص غير هذا المعنى اللغوي.

الفقه: الفقه كما ورد في أصل اللغة أي كما وضعه العرب ابتداء الفهم والعلم، وربما زاد عليهما بأن الفقه هو ليس مطلق الفهم والعلم، وإنما هو فهم المراد من كلام المتحدث. قال تعالى على لسان الكفار في التعليق على نبيهم: (مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ) وبالطبع فليس المقصود بذلك معرفة معاني الألفاظ التي يتحدث بها بل المقصود هو مراده مما يقول، ونظيره قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» ولا يكون ذلك بمجرد معرفة النصوص الشرعية وحفظها إذ لو كان الأمر كذلك لكان سهلاً، فلا يكون هذا الفقه إلا بفهم مراد الشارع من هذه النصوص، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها عني وأداها فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» مما يدل على أن المقصود بكلمة الفقه ليس مجرد الفهم بل فهم المراد من كلام المتكلم، هذا في اللغة، وأما في الاصطلاح وهو أكثر استعمالاً في كلام الناس فقد اختلف العلماء في تعريفه اختلافاً لفظياً لا جوهرياً بحسب الصياغات المختلفة لنفس المعنى، فقد عرفه الغزالي في المستصفي بأنه [العلم بالأحكام الشرعية الثابتة لأفعال المكلفين خاصة] واختار الأستاذ تقي الدين النبهاني تعريفاً آخر، فذكر في كتاب الشخصية الإسلامية الجزء الثالث [هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبطة من الأدلة التفصيلية]، وأما الأستاذ محمد أبو زهرة فاختار تعريفاً مشابهاً إذ ذكر بأن الفقه [هو العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية].

وكما ترى فليس هنالك من اختلاف ذي بال يستحق التنويه في هذه التعريفات وهي تحتوي على أمرين أساسيين هما:

1- العلم بالأحكام الشرعية العملية أي المتعلقة بأفعال العباد فلا يدخل فيها أمور الاعتقاد، كالإيمان بالله والرسول أو بالمغيبات وكأخبار الأمم السابقة وقصص الأنبياء الواردة في القرآن الكريم والسنة المطهرة، أو المعاني الأخرى غير المتعلقة مباشرة بأفعال العباد، كتعريف التفكير المأخوذ من قوله تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) وكتفصيل تطور الجنين في رحم أمه الوارد في أكثر من موضع في القرآن.

2- أن هذا العلم هو علم بالأحكام من أدلتها التفصيلية وهذا فيه جانبان:

الأول: المعرفة التفصيلية بالأحكام.

الثاني: المعرفة التفصيلية بأدلة هذه الأحكام.

ومثال ذلك العمل بفرضية الحج المأخوذة من قوله تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) والعلم بأن البيع مباح من قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) والعلم بأن أكل الميتة حرام من قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ).

فوجوب الحج وإباحة البيع وحرمة الميتة هي الأحكام التفصيلية لأن كل منها يتعلق بمسألة تفصيلية معينة. وآيات الحج والبيع والميتة هي الأدلة التفصيلية لكل حكم من هذه الأحكام المذكورة.

وعلى ذلك فالفقه هو العمل بهذه الأحكام التفصيلية وأدلتها التي استنبطت منها مباشرة. وأما أصول  الفقه فهي الأسس الذي يبنى عليها هذا العلم التفصيلي للأحكام الشرعية، ولقد عرفه كمال الدين بن الهمام بأنه [إدراك القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الفقه] وعُرف أيضاً بأنه [معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية] فالمجتهد عندما يريد أن يستنبط حكماً شرعياً من الأدلة الشرعية يحتاج إلى ضوابط ومقاييس يلتزم بها ويسير بحسبها عند الاستنباط وهذه الضوابط والمقاييس يجدها في علم الأصول، فمثلاً إذا أراد المجتهد أن يستنبط حكم الأحزاب السياسية في الإسلام ورجع إلى قوله تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) عليه أن يعرف أن الأمر يفيد مجرد الطلب وانصرافه نحو الوجوب أو  الندب أو الإباحة يحتاج إلى قرينة -وليس هذا رأي كل الأصوليين- فيلتزم هذا الضابط ويبحث عن القرينة ليعرف معنى الأمر الوارد في قوله: (وَلْتَكُن) للوجوب أم الندب أم الإباحة، فيحدها في تتمة الآية، إذ أن تعلق عمل الجماعة التي ورد الأمر بإيجادها بفروض وهي “الدعوة إلى الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” هو قرينة تصرف الأمر الوارد في الآية من مجرد الطلب إلى الوجوب كذلك. ومثلاً إذا أراد المجتهد أن يستنبط حكم النفط -أهو ملكة خاصة أم ملكية دولة أم ملكية عامة- من قوله عليه الصلاة والسلام: «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» ومن استعادة الرسول عليه الصلاة والسلام لأرض كان أقطعها لأبيض بن حمال حين أخبره الصحابة بأن فيها الملح… العد الذي لا ينقطع -أي أن الملح موجود بكميات كبيرة جداً في باطنها- فإنه عليه أن يعرف وجوه استفادة العلة، وأن الحكم يدور مع علته، فالعلة في عدم تملك أبيض للأرض وجود الملح بكميات ضخمة وهذه العلة موجودة في النفط فيقاس عليها، فإذا كان النفط موجوداً بكميات ضخمة فإنه لا يجوز تملكه من قبل الأفراد، أي لا يكون ملكية خاصة بل يكون ملكية عامة فيأخذ حكم الأرض التي استردها الرسول من أبيض بن حمال، وإذا زالت هذه العلة زال الحكم، فلو وجد النفط جدلاً بكميات بسيطة في أرض ما جاز تملكه من قبل الأفراد.

فوجوب وجود جماعة من المسلمين تدعو إلى الإسلام وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وحرمة تملك الأفراد للنفط الموجود بكميات كبيرة في الأرض هي أحكام شرعية وهي تدخل في مسمى الفقه.

وكون الأمر يفيد مجرد الطلب ولا ينصرف إلى الوجوب أو الندب أو الإباحة إلا بقرينة ومعرفة وجوه استخراج العلة وأن الحكم يدور مع العلة، كل هذه ضوابط وقواعد استعملت عند استنباط الأحكام الشرعية سالفة الذكر، وهي تدخل في مسمى أصول الفقه.

فعلم أصول الفقه يبحث في الأدلة بشكل إجمالي لا بشكل تفصيلي والأصولي لا يهتم بالأحكام التفصيلية، وإذا ما أوردها في بحثه فإنما يمثل بها من أجل تيسير الفهم ولا يقصدها لذاتها.

موضوع أصول الفقه: لقد أورد الغزالي تمثيلاً جميلاً بَيَّن من خلاله المواضيع التي يتناولها أصول الفقه، أنقله من  المستصفي، يقول: [إذا فهمت أن نظر ا لأصولي في وجوه دلالة الأدلة السمعية على الأحكام الشرعية لم يخف عليك أن المقصود معرفة كيفية اقتباس الأحكام من الأدلة، فوجب النظر في الأحكام ثم في الأدلة وأقسامها، ثم في كيفية اقتباس الأحكام من الأدلة، فوجب النظر في الأحكام ثم في الأدلة وأقسامها، ثم في كيفية اقتباس الأحكام من الأدلة، ثم في صفات المقتبس الذي له أن يقتبس الأحكام، فإن الأحكام ثمرات وكل ثمرة فلها صفة وحقيقة في نفسها ولها مثمر ومستثمر وطريق في الاستثمار، والثمرة هي الأحكام أعني الوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة والحسن والقبيح والقضاء والأداء والصحة والفساد وغيرها، والمثمر هي الأدلة وهي ثلاثة الكتاب والسنة والإجماع فقط، وطرق الاستثمار هي وجوه دلالة الأدلة وهي أربعة إذ الأقوال إما أن تدل على الشيء بصيغتها ومنطوقها أو بفحواها ومفهومها، وباقتضائها وضرورتها أو بمعقولها ومعناها المستنبط منها.

والمستثمر هو المجتهد ولا بد من معرفة صفاته وشروطه وأحكامه فإذا جملة الأصول تدور على أربعة أقطاب].

ففي هذا التمثيل الرائع من قبل الغزالي يظهر بوضوح ما هي المواضيع التي يتعرض لها علم أصول الفقه، فقد شبه الأحكام الشرعية التي يريد المجتهد الحصول عليها بالثمرة المرجو قطفها، وهذه الثمرة لها صفاتها وحقيقتها من لون وطعم ورائحة وتركيب، والنبتة التي نتجت عنها هذه الثمرة هي بمثابة الأدلة بالنسبة للأحكام. ثم لا بد من معرفة الكيفية التي تقطف بها هذه ا لثمرة، وهنا قصد التشبيه بكيفية الاستنباط وأوجه الدلالات، كذلك فإنه لا بد للثمرة من قاطف وهو المجتهد، وعليه فتكون مباحث الأصول دائرة  على أربعة محاور:

  • الحكم ومتعلقاته.

  • الأدلة الشرعية الإجمالية كالكتاب والسنة والإجماع والقياس.

  • وجوه دلالات الأدلة.

  • الاجتهاد وأحوال المجتهدين.

بهذا البيان نكون قد أعطينا تصوراً عن أصول الفقه، والحمد لله على توفيقه ومَنِّه.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *