العدد 101 -

السنة التاسعة – ربيع الآخر 1416هـ -أيلول 1995م

الحضارات… صدام أم صراع أم حوار

بقلم: محمد حسين عبد الله

في أوائل شهر تموز لعام 1995، عقد في عمان مؤتمر بحوث الحضارة الإسلامية، تحت عنوان “المسلمون وحوار الحضارات في العالم المعاصر”، حضره مندوبون مسلمون من عدة دول، وشارك فيه وفد من جامعة درم البريطانية، ومدير مركز دراسات الشرق الأوسط في الجامعة المذكورة، وخرج المؤتمرون بعدة أفكار وتوصيات، كان من أهمها:

إن المسلمون يتجهون إلى الحوار وفاء لرسالة الإسلام.

إن الحضارة الإنسانية أصلاً ومسؤولية ومصيراً… ولذلك لا يجوز أن تصنف عدوة لأي حضارة أخرى.

إجراء بحوث مستفيضة، وتأسيس تقاليد أكاديمية راسخة، لدراسات الأديان والحضارات المختلفة، ولا سيما الحضارة الغربية، لتعميق فهمنا لها، وبناء الحوار معها، على أسس سلمية متكافئة.

فعلماء المسلمين ومفكروهم، مع وفد جامعة درم البريطانية، في هذا المؤتمر الذي ترعاه الحكومة الأردنية، يرون أن واقع المسلمين السيئ، وحالة الضعف والهوان التي أصابتنا، والمشكلات الصعبة التي تواجهنا، علاجها الشافي، وحلها الأمثل يكون بدراسة وحوار الحضارات، ولا سيما الحضارة الغربية التي استعمرتنا وتسلطت علينا منذ ثمانية عقود.

ولتعبيد طريق الحوار الذي اقترحوه، حاول المؤتمرون المسلمون أن يقنعوا أصحاب الحضارة التي أذلتنا، ونهبت خيراتنا، بأن الإسلام دين التسامح والرحمة، ودين الرفق والوسطية والاعتدال، وأن هذه “التجليات” – كما ذكروا – لا بد من إيصالها إلى الخارج.

فهم يريدون أن يطمئنوا الغرب باستكانة المسلمين واستسلامهم الوديع للنظام العالمي الجديد، الذي تقوده الحضارة الغربية، فهم ديمقراطيون يدعون إلى الحريات ويؤمنون بحوار الحضارات، وينبذون العنف والتطرف والتغيير، الذي تدعو إليه الحركات الإسلامية، بل يحاربونها ويقفون في وجهها بكل قوة، لأن قضية المسلمين عندهم – كما جاء في المؤتمر – هي القاسم المشترك بين الحضارات، والمتطرفون والأصوليون قد شوهوا هذه القضية.

إن الغربيين بعد أن هدموا دولة الخلافة، وانتصروا على المسلمين بقواهم المادية العسكرية والاقتصادية، رأوا الآن أن يجهزوا على عقيدة المسلمين ودينهم، وفأنشأوا المعاهد المتخصصة بذلك، ورصدوا لها الأموال، وزودوها بالرجال، ثم اشتروا ذمم بعض المسلمين من حكام وعلماء ومفكرين، وحملوهم مصطلحات وأفكار يدعون لها، ويتصرفون على أساسها، مثل: وحدة الأديان، وحوار الحضارات، والأسرة الدولية الواحدة، وذلك لتمييع أفكار الإسلام المتميزة، ولحرف المسلمين عنها، ليحولوا دون نهضتهم الصحيحة.

إن الغربيين الذين اختلقوا هذه الطروحات، لاشغال المسلمين واستنزاف حماسهم ووعيهم، قد طرحوا في نفس الوقت طروحات أخرى معاكسة لأبناء جلدتهم، إذ حذروهم من الإسلام والمسلمين، واعتبروه التحدي الرئيسي الذي يواجههم، وبينوا لهم أن الصدام بين الحضارات المختلفة حتمي الوقوع… فهم يدعون المسلمين لحوار الحضارات ووحدة الأديان، بينما يعدون شعوبهم لمجابهة الحضارات الأخرى وللصدام مع الأديان… فهذا صمويل هنتينجتون، أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد ومدير مؤسسة للدراسات الاستراتيجية، نشر محاضرة طويلة بعنوان “صدام الحضارات” في مجلة الشؤون الخارجية الأميركية في حزيران عام 1993م، يحذر فيها الغرب من الصراع الحضاري القادم، لا سيما الصراع الذي ستدور رحاه بين الإسلام والرأسمالية، فهو يقول: [إن التصادم بين الحضارات سوف يهيمن على السياسة الخارجية، والخطوط الفاصلة بين الحضارات سوف تكون خطوط المجابهة في المستقبل… فالحضارات تتميز من بعضها البعض بالتاريخ واللغة والثقافة والعادات، والأهم من ذلك هو الدين… فإن الدين يميز بشدة ووضوح بين الناس، فقد يكون الإنسان نصف فرنسي ونصف عربي، أو حتى أن يكون مواطناً في دولتين، إلا أنه من الصعب أن يصبح المرء نصف كاثوليكي ونصف مسلم… ].

وهم رغم هذا الاعتراف الواضح، يصفون الصراع في البوسنة والهرسك وغيرها بأنه صراع عرقي، إغراقاً منهم في تضليل المسلمين. وهو يقول: [إن الاختلافات في الثقافة والدين تولد الاختلافات حول السياسة]. فأي وحدة الأديان التي يدعوننا لها، وأين شعارات الحضارة الإنسانية التي يرفعونها، ثم يقول بوضوح: [وعند الحدود الشمالية للإسلام، فإن الصراع ازداد تفجراً بين الأرثوذكس والمسلمين في البوسنة والعنف يغلي ببطء بين الصرب والألبان… والمذابح المتبادلة بين الأرمن والأذريين، والعلاقات المتوترة بين الروس المسلمين…]، ويقول: [إن الاستنفار الحضاري لا يزال محدوداً حتى الآن، إلا أنه ينمو…].

فأين حوار الحضارات الذي يسوقونه لنا، ويروج له بعض أبنائنا من المضبوعين والمأجورين والجهلة!

إنهم يعتزون بحضارتهم الرأسمالية ويدافعون عنها بأنفسهم وأموالهم، بل ويسخروننا للدفاع عنها، ويقول عنها أستاذ العلوم السياسية: [إن الحضارة الغربية هي الحضارة العالمية التي تلائم البشر… ]. أما الحضارة الإسلامية النابعة من الإسلام، الدين الذي أنزل هدى ورحمة للعالمين، فهو غير ملائم للبشر على حد زعمهم، وأحكامه غير حضارية، ويجب الخوف من عودته للحياة. وبهذا الصدد يقول الكاتب عن تركيا: [وبينما تعتبر النخبة في تركيا، البلد مجتمعاً قريباً من الغرب، فإن النخبة في الغرب ترفض قبول هذا الوصف لتركيا، وترفض أن تصبح عضواً في المجموعة الأوروبية، والسبب الحقيقي كما قال الرئيس التركي أوزال: [إننا مسلمون، وهم مسيحيون، لكنهم لا يعلنون ذلك]. هكذا ينظرون إلى تركيا، التي يقدس نظامها العلمانية التي أرساها مصطفى كمال هادم دولة الخلافة، فكيف ينظرون إذن إلى الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق، مهد الحضارة الإسلامية! ثم ينهي الكاتب مقاله بتوجيهات ونصائح للغرب، حتى يظل قوياً ومنتصراً في معارك تصادم الحضارات، قائلاً: [علينا استغلال الخلافات والصراعات بين الدول الإسلامية – الكونفوشية، ودعم المجموعات ضمن الحضارات الأخرى، التي تتعاطف مع الغرب ومصالحه، وتقوية المؤسسات الدولية التي تعكس الشريعة على مصالح الغرب وقيمه، وتشجيع انضمام واشتراك الدول غير الغربية في هذه المؤسسات… وأن يحافظ الغرب على القوة العسكرية والاقتصادية لحماية مصالحه]، ثم يقرر: [سوف لن يكون هناك في المستقبل المنظور حضارة عالمية، ولكن بدلاً من ذلك عالم متعدد الحضارات… كل واحدة عليها أن تتعلم كيف تتعايش مع الأخريات].

فالغربيون بقوتهم العسكرية والاقتصادية، وبالتضليل السياسي والفكري، يريدون من المسلمين أن يقبلوا الحضارة الغربية على علاتها، وأن يتعايشوا رغماً عنهم معها، مع أنهم يدركون أن الحضارات تتصادم، وأن الحضارتين متناقضتان ومختلفتان عقيدة ونظاماً، وأن زعيمتهم أميركا تسخر الأمم المتحدة لخدمة حضارتهم فقط، لضرب الحضارات الأخرى، فقد جاء على لسان بيكر وزير خارجية أميركا في حرب الخليج ما نصه: [استخدام الأمم المتحدة لم يكن نتيجة لالتزام قوي بفكرة التعددية الدولية، بل كان ناتجاً عن إدراك عميق لفائدة الأمم المتحدة كوسيلة للقيادة الأميركية].

إن الحضارة، أية حضارة، هي مجموعة المفاهيم عن الحياة من وجهة نظر معينة، وبذلك تكون الحضارة الإسلامية، هي مجموعة المفاهيم عن الحياة من وجهة نظر الإسلام، وهي طراز خاص، ونمط معين لحياة المجتمع الإسلامي، ولسلوك أفراده وقد نتجت هذه الحضارة عن تنظيم الإسلام لعلاقة الإنسان بربه وبنفسه وبغيره، تنظيماً شاملاُ لكل شيء أو فعل. بينما الحضارة الغربية الحالية، هي مجموعة المفاهيم عن الحياة من وجهة نظر المبدأ الرأسمالي، الذي أساسه عقيدة فصل الدين عن الحياة، وهما مبدآن مختلفان، فالإسلام بني على الإيمان بالله، خالق الكون والإنسان والحياة، وعلى الإيمان بأن محمداً رسول الله، بعثه الله بالإسلام إلى جميع الناس وإلى يوم القيامة، لرعاية جميع شؤونهم في الحياة الدنيا بأحكامه، فمن اعتقد بذلك فهو مؤمن، ومن أنكر ذلك فهو كافر (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ). وأما الرأسمالية، فقد بنيت على الاعتقاد بفصل الدين عن الحياة، وأن الدين لا دخل له بالحياة الدنيا، وأن البشر هم الذين يشرعون نظامهم الذي يرعى شؤونهم، فنتج عن ذلك الديمقراطية التي هي حكم الشعب للشعب بنظام من الشعب، ونتج عن فكرة الحريات العامة التي تبيح لكل إنسان أن يعتقد ما يريد ويعمل ما يريد.

فهل يمكن التوفيق بين الحضارتين، وهل يمكن التوفيق بين ما هو من عند الله وبين ما هو من عند البشر، وهل يمكن الجمع بين الحق والباطل، وبين النور والظلام معاً!… إن هذا المستحيل يحاول الغرب وعملاؤه وأبواقه أن يقنعوا المسلمين بإمكانهم، لا لأنه ممكن، ولكن ليصرفوهم به عن طريق نهضتهم، وليشغلوهم عن أسباب قوتهم.

إنهم يحرمون علينا ما يحلونه لأنفسهم، يمنعوننا من امتلاك أو صنع الأسلحة الاستراتيجية، يدمرونها إن وجدت، بينما هم يكدسونها في ترسانتهم، ويجرون التجارب لتطويرها، يسوون المشكلات التي تعترضهم بقوة السلاح، ويحرمون علينا استخدام القوة أو التهديد بها، ويلزموننا بتسوية المنازعات بالطرق السلمية والمفاوضات، يتبنون صدام الحضارات، ويستعدون لهذا الصدام، ويدعوننا إلى حوار الحضارات والحلول السلمية، إنهم (إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) إنها جاهلية القرن العشرين.

فعلى المسلمين أن يعوا على هذا المقياس الأعوج، وعلى هذه الحضارة الفاسدة المضللة، وعلى مصدرها العدواني الحاقد. فلا يلتفتوا لهذه الأفكار والشعارات إلا لنقضها ونبذها (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ)، وأن يركزوا جهودهم على أوجب الواجبات ورأس الأولويات، وهو العمل الجاد الواعي لاستئناف الحياة الإسلامية، بإعادة دولة الخلافة، فإن أمر المسلمين الآن لا يصلح إلا بما صلح به أوله.

وما فكرة حوار الحضارات، وغيرها من الأفكار الدخيلة المستوردة، إلا ألهية، المقصود منها استنزاف الأموال والجهود وإضاعة الأوقات، لخدمة الحضارة الغربية الكافرة واستمرارها، ولصرف المسلمين عن العمل الصحيح المنتج. وإلا كيف يبينون لشعوبهم حتمية صدام الحضارات، ويدعوننا نحن لحوار الحضارات!… إنهم كما يحاربوننا مادياً، يضلوننا فكرياً، لأن صراع الحضارات حق، لا بد منه، وهو واقع لا محالة بين الحضارات، لأنه صراع بين أضداد.

وصراع الحضارات، ليس صداماً ولا حواراً، وإنما هو صراع فكري ومادية، صراع فكري بين أفكار الإسلام وغيرها من الأفكار، يكشف به المسلمون زيف وأفكار الكفر الفاسدة المغلوطة، ويبينون أفكار الإسلام، حتى يهيئوا المجتمع لاحتضان مبدأ الإسلام، ثم إقامة دولة الخلافة، التي ستخوض غمار الصراع الفكري مع الحضارات الأخرى لبيان صلاحية الإسلام لحياة الإنسان، ولتخوض أيضاً إلى جانبه الصراع الدموي لتحطيم الحواجز المادية التي تعترض نشر الإسلام، وإيصاله إلى جميع البشر وتطبيقه عليهم، ليحق الحق، ويزهق الباطل (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ * لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *