العدد 103 -

السنة التاسعة – جمادى الآخرة 1416هـ – تشرين الثاني 1995م

استراتيجية الاقتصاد الأميركي وسياسة واشنطن الدولية

السيد: أبو غازي محمد سليم

هذا الجزء الثاني من المقال، أما الجزء الأول فوصل للوعي غير كامل ولذا تعتذر «الوعي» عن نشره في هذا العدد وتأمل في أن يعاد إرساله إليها.

ما أن انتهت الحرب الباردة وسقطت الشيوعية وانفرط عقد الاتحاد السوفيتي وتفسخت كتلته، حتى أصبحت أميركا تواجه عدواً جديداً هو المجموعة الأوروبية ككتلة سياسية ووحدة اقتصادية، حيث أنها تمتلك القدرة على المنافسة التجارية في السوق العالمي من جهة، وتتطلع إلى ضم دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي بعد أن تخلت عن الاشتراكية، وتبنت فكرة الاقتصاد الغربي وسارت في طريق الرأسمالية.

هذا التبدل في الموقف الدولي والتغير في الهيكلية العالمية دفع أميركا إلى أن تعلن عن ميلاد نظام عالمي جديد. فمن ناحية القاعدة الأولى لاستراتيجيتها الاقتصادية وهي: حرية التجارة وحرية السوق، ولتضمن انفتاح الأسواق العالمية أمام تجارتها وصادراتها عملت على تطويق تحركات مجموعة السوق الأوروبية ببناء تكتلات وتجمعات تجارية جديدة وإحياء الاتفاقيات القديمة وتنشيطها، فأوجدت اتفاقية (نافتا) وهي اتفاقية بين كندا والولايات المتحدة والمكسيك، ثم عمدت إلى إيجاد اتفاقية (الأبيك).

ففي نوفمبر 1992 عقد في مدينة سياتل الأميركية وبناء على دعوة من الرئيس الأميركي كلينتون اجتماع قمة لمنظمة التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي المعروفة اختصاراً باسم (أبيك).

هذه المنظمة تسعى أميركا من وراء إقامتها إلى إيجاد مناطق للتجارة الحرة بفتح الأسواق وتخفيض الجمارك، وليس المقصود من إقامتها إيجاد وحدة اقتصادية نقدية على غرار السوق الأوروبية المشتركة، لتباين الأوضاع والسياسات بين دولها، ولما كانت منظمة (نافتا) خاصة أميركا الشمالية وبها ثبتت أميركا هيمنتها، فإنها تعني بقاء هذه السوق في مأمن من مزاحمة السوق الأوروبية المشتركة.

ثم عمدت أميركا إلى العمل في الجانب السياسي فأوجدت مشكلة البلقان وأشعلت الحرائق فيها، وكان تحركها لا عن طريق هيئة الأمم وإنما أمسكت القضية بيدها سياسياً، وفرضت الحل السياسي وعملت على تنفيذه بواسطة حلف الأطلسي، وستبقى منطقة البلقان بما فيها اليونان ومقدونيا وقبرص وتركيا بؤرة قابلة للاشتعال.

ومن المسلمات السياسية أن أي توجه اقتصادي لا يأخذ طابع الاستقرار والتركيز إلا إذا أحيط بتركيز واستقرار سياسي.

ولذا فإن أميركا ترى في المجموعة الأوروبية المنافس الأول الذي يستطيع أن يتحدى ويزاحم تحرك أميركا الاقتصادي لأمور:

أولاً: كون الوحدة الأوروبية كادت أن تكتمل سياسياً واقتصادياً.

ثانياً: كونها تمتلك القدرة على المنافسة التجارية بوجود الفائض الإنتاجي من السلع والخدمات.

ثالثاً: انتهاء الحرب الباردة وتفتت الاتحاد السوفيتي أزال من وجه أوروبا الشبح الذي كانت أميركا تهدد به أوروبا، فانصرفت بكليتها إلى أن تصب اهتمامها وتكرس جهودها في المجال الاقتصادي عالمياً.

فمجموعة السوق الأوروبية كلها بلدان صناعية ومنتجة أزالت الحواجز الجمركية فيما بينها، وفتحت الحدود لتنقل الأيدي العاملة، وهي بصدد إيجاد وحدة نقد خاصة بها، كل هذه العوامل تدفع بها إلى تخرج إلى الأسواق الآسيوية والأفريقية، لاسيما ولديها القدرة على المنافسة في الأسواق الحرة.

فكان على أميركا أن تربك أوروبا سياسياً فأشعلت مشكلة البلقان، وأن تطوق الأسواق الآسيوية والأوروبية بإيجاد تكتلات اقتصادية فأوجدت منظمة (الأبيك)، وبعد ذلك كله نجحت في إيجاد منظمة التجارة العالمية.

وجدير بنا ونحن بصدد الحديث عن التنظيمات التجارية الدولية أن نأتي بنبذة عن كل من منظمة (أسيان) ومنظمة (أبيك).

منظمة (أسيان) تأسست عام 1967 من اتحاد جنوب شرق آسيا كحصن آنذاك ضد التوسع الشيوعي، ومنذ ذلك الحين وعضوية الاتحاد تضم ست دول هي: ماليزيا، إندونيسيا، بروناي، الفلبين، تايلاند وسنغافورة،. والأسيان تكتل اقتصادي محدد واضح المعالم، ونستطيع القول بأنه تكتل لم ينجح في تحقيق أهدافه منذ إنشائه.

أما منظمة (أبيك) فقد ظهرت إلى الوجود سنة 1989 بناء على دعوة من استراليا، وهي تضم سبع عشرة دولة موزعة على ثلاث قارات، وهذه الدول هي: الولايات المتحدة، كندا، المكسيك، استراليا، نيوزلندا، الصين، اليابان، هونج كونج، غينيا الجديدة، تايوان، بروناي، ماليزيا، إندونيسيا، سنغافورة، الفلبين، كوريا الجنوبية وتايلاند.

هذه المنظمة الاقتصادية الدولية تدمج في عضويتها تكتلين اقتصاديين كبيرين هما منظمة (نافتا) لدول أميركا الشمالية، و(الآسيان) لدول جنوب شرق آسيا. وتمثل الأبيك بدولها نحو 40% من التجارة العالمية وسوقاً يصل عدد مستهلكيها إلى ما يزيد عن الملياري نسمة، وسنفرد لمنظمة الجات بحثاً مطولاً خاصاً بها.

بهذا كله تكون أميركا قد سارت شوطاً بعيداً في تحقيق القواعد الأساسية التي ينبني عليها اقتصادها وستستمر في دعمها وتبنيها حتى تستقر وتصل إلى مرحلة التركيز وتصبح من المسلمات الدولية.

ولكن بتحقيق حرية السوق وانفتاحها دولياً ستزداد روح القدرة على المنافسة، وسيدفع الفائض من الإنتاج عند كثير من الدول والمجموعات الاقتصادية إلى الاستمرار في المزاحمة والتسابق المدعوم بالقوة والهيمنة وبسط النفوذ لضمان حماية الاحتكارات العملاقة.

ولما كانت أوروبا القرن التاسع عشر هي مصدر المعاناة والحروب، ومنها تولدت فكرة الاستعمار الذي شمل مناطق شاسعة من العالم، وجر على الإنسانية الشقاء والبلاء، وحتى أواخر القرن العشرين صار هذا البلاء والشقاء يقدم للشعوب ملفوفاً بغلالة من التنمية والإنسانية والتقدمية والمشاركة لا سيما وأن أميركا قد غيرت وجه الاستعمار القديم وألبسته ثوب الإنسانية والدولية أي جعلت تلك الجرائم ترتكب بقوانين دولية، ويحتمي مرتكبوها بقوات دولية، وباسم القروض والمساعدات الدولية.

حصل كل هذا انطلاقاً من وجهة النظر الغربية وبالمقاييس النفعية، وتحت ممارسة الحريات الأربع التي هي قواعد الفكر الرأسمالي الغربي.

وبعد أن تهاوت الاشتراكية وتفتت كيانات الدول القائمة عليها، لعدم صلاحيتها لمعالجة مشاكل هذا الإنسان ورعاية شؤونه، جاء دور الرأسمالية، فها هي تتآكل من داخلها، وبؤرة فنائها كامنة في الأسس والقواعد التي تقوم عليها حضارتها، لأن الاستعمار هو الطريقة لنشرها، والتنافس والتصارع والمزاحمة هي الأساليب التي تحقق بها المكاسب، وعلى ضوء المقياس الحقيقي عندهم للقيام بالأعمال وهو المنفعة كان لا بد من أن يظل أصحاب هذا النظام مستعبدين لغيرهم، متصارعين مع بعضهم حتى يسقطوا جميعاً دون أي مقدمات كما سقطت الاشتراكية دون أي مقدمات.

فلا بد من علاج مشكلة هذا العالم بأسره بتعرية وجهة النظر الغربية، وتبيان زيفها وخطئها، وتحطيم المقاييس والقيم التي توزن بها مثل هذه المعالجات والتصرفات التي أدت إلى انتكاسة البشرية. وعلاجها واستئصالها يكون بوضع وجهة النظر الإسلامية موضع التنفيذ، وجعل العقيدة الإسلامية وما ينبثق عنها من أحكام وأفكار هي التي تعالج الأمور تحل المشاكل وترعى الشؤون.

كما أنه لا بد من إبراز الأمور التالية:

1- العودة إلى قاعدة نظام الذهب عالمياً.

2- تقييد الحرية الاقتصادية وحرية التملك وتبيان بشاعة الغش والاحتكار والربا وحرمتها.

3- تبيان خطورة التكتلات الدولية سواء الأحلاف العسكرية أو التنظيمات الاقتصادية.

4- الانسلاخ من هيئة الأمم، وما يتفرع عنها من منظمات، وبيان أنها أداة تفرض بها مشروعية تسلط القوي على الضعيف وابتزاز الغني للفقير.

وقيام دولة الخلافة هو الذي يبدل المقاييس في العالم، وتطبيقها للإسلام في الداخل هو الذي يظهر عدالته للناس بشكل ملموس، وإعلانها للجهاد في سبيل الله وحمل الإسلام إلى الخارج هو الذي يجعل أفكار الإسلام وأحكامه مع أدلتها تملأُ على المفكرين جوانب تفكيرهم في ندواتهم ومحاضراتهم، وهو الذي يفرض على أجهزة الإعلام العالمي أن تفسح له حيزاً واسعاً ليكون شغل الناس الشاغل.

فينبلج فجر الحقيقة، ويتضح الصبح لكل ذي عينين وتخفق راية الإسلام عالية، ويدخل الناس في دين الله أفواجاً، ويتم الله هذا الدين حتى يبلغ ما بلغ الليل والنهار، وعندئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم.

ملحق توضحي:

1- تسيطر 37 ألف شرطة متعددة الجنسية ومخالبها 170 ألف فرع في الخارج على الاقتصاد العالمي، ويتقاسمه خمسة بلدان هي: الولايات المتحدة، اليابان، فرنسا، ألمانيا وبريطانيا، فيما بينها 172 شركة من أكبر الشركات في العالم، وارتفعت المبيعات فيما بين 1982 – 1992 من 3000 مليار دولار إلى 5900 مليار دولار.

2- تسعى كل من بولندا والمجر التشيك وسلوفاكيا ورومانيا ودول البلقان وسلوفينيا إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

3- قررت دول الاتحاد الأوروبي التي اجتمعت في جزيرة مايوركا الأسبانية عدم حضور أميركا وروسيا إلى مؤتمر برشلونه الذي سيعقد في أواخر تشرين الثاني 95.

4- قررت شركتا بوينغ وماكدونل دوغلاس الأميركيتان لصناعة الطائرات دخول سوق فيتنام ضد شركة إيرباص الأوروبية لصناعة الطائرات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *