العدد 103 -

السنة التاسعة – جمادى الآخرة 1416هـ – تشرين الثاني 1995م

المجتمع بين التعريف والمشروع

بقلم: المهندس أبو العلاء عبد النور

عقدت أخيراً في التلفزيون الحكومي الجزائري في إطار حصة (آفاق) ندوة ذات أهمية كبيرة وخطيرة جداً إذا أخذنا بعين الاعتبار الطروحات العديدة التي يروج لها أصحابها والوسائل الإعلامية على حد سواء، فتحت عنوان (مشروع المجتمع) قام المشاركون في هذه الندوة بمحاولة لتعريف هذين الاصطلاحين، أي مفهوم المجتمع ومفهوم مشروع المجتمع، مع أن المشاركين كانوا في المستوى الفكري من خلال تحليل الأزمة التي تعيشها الجزائر اليوم، إلا أن كل النقاش قد افتقر إلى الحلول الجذرية والعملية التي يتعطش لها شعب هذا البلد المسلم بل الأمة الإسلامية برمتها.

لذلك نر ى أن نؤدي الأمانة ونوضح بعض وجوه الغموض في ما يتعلق ببعض المفاهيم التي ذكرت في هذه الندوة وندعو الله الرشد لأمتنا المسلمة ولمن تبقى من علماءها ومفكريها المخلصين.

صحيح أن المفكرين قد اختلفوا في تعريف ماهية المجتمع وأن الإنسان البسيط إذا أراد أن يتفقه في هذا الميدان سيجد نفسه حائراً أمام عدة تعاريف منها المجتمع البدائي والمجتمع المتحضر والمجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي والمجتمع الصناعي والمجتمع الاستهلاكي. والمسلم الذي يبحث عن هويته قد مليء ذهنه بهذه التعاريف دون أن يدرك أن الفلاسفة والمفكرين الغربيين وكذلك الشيوعيين ما وصلوا إلى هذه التعاريف إلا بعد دراسة واقعهم وواقع شعوبهم وتاريخها. إلا أن هذه الدراسة لم تكن خالية قط من معتقداتهم ولا من تأثير بيئتهم، وكل محاولة إنزال حكم ما أو نظرية، سواء أكانت غربية أو شيوعية، على أي مجتمع في بلاد المسلمين قد يؤدي حتماً إلى محاولة معالجة قضية إسلامية بمنظور رأسمالي أو شيوعي وهذا بعينه البلاد الذي يعاني منه المسلمون منذ أكثر من قرن.

في الحقيقة إذا أردنا أن نعرف المجتمع فلا بد لنا أن ندرك أن هناك واقعاً وأننا نريد من خلال فهمه إيجاد تعبير صحيح يترجم هذا الواقع، أو بعبارة أخرى نريد أن نصف هذا الواقع. فتعريف المجتمع هو إذن وصف لواقع مدرك، أي واقع محسوس أو على الأقل له أثر محسوس، دون أي حكم مسبق ولا وجهة نظر معينة، كما أننا لسنا بحاجة إلى أي معايير فلسفية ولا مفاهيم رأسمالية أو شيوعية التي عقدت أجيالاً من أبناء الأمة الإسلامية وعكرت طريقتهم الطبيعية في التفكير، علاوة على ذلك فإن هذا البحث دراسة أمر يقع تحت الحس، فهو واقع يدركه كل عاقل.

الإنسان كائن حي في حاجات عضوية (حاجته إلى الأكل والشرب والمسكن والملبس والنوم… ) لا بد له من إشباعها حتى يبقى على قيد الحياة، وفيه غرائز (غريزة البقاء والنوع والتدين أو غريزة التقديس) لها ظواهر مختلفة مثل الخوف وحب التملك وحب السيادة والميل الجنسي وتقديس ما يشعره بأنه أقوى وأكمل منه (تقديس الخالق، وتقديس الكواكب أو الرعد أو البرق… الخ). هذه الطاقة الحيوية هي التي تدفع الإنسان إلى أن يؤانس الإنسان الآخر الذي لديه نفس الدوافع من أجل إشباعها وهكذا.

إلا أن الإشباع لا ولن يحصل بطريقة عشوائية وإلا سادت الفوضى، فالكل يحاول إشباع حاجاته حسب تصوراته عن كيفية تحقيق هذا الإشباع. فتكون العلاقات القائمة بين الناس مبنية على تلك التصورات والأفكار.

وبعبارة أخرى تكون كيفية تحقيق إشباع هذه الحاجات هي المصلحة المشتركة التي تبنى عليها هذه العلاقات لكن إذا تركت هذه العلاقات دون تنظيم كامل ومنسق فيفتح الباب على مصراعيه أمام اصطدام المصالح بعضها ببعضه بسبب التفاوت الطبيعي في الحاجات وفي تقديرها وبسبب تفاوت قوة الدافع الغَرَزيّ لدى كل إنسان، فمن الطبيعي أن الدافع المادي عند فرد ما أقوى من الذي يشعر به فرد ثانٍ، وحب السيادة عند فرد ثالث يفوق نفس الدافع عند إنسان آخر، وهكذا، فالإنسان يواجه إذن سلسلة من الدوافع سواء أكان أصلها من الحاجات العضوية أو الغرَزية ويريد تحقيها وهذا لا يتم إلا بناء على نظام كامل يحقق الطمأنينة لكل إنسان وبذلك استقرار هذه “المجموعة من الناس”. لذلك يصبح النظام جزءاً لا يتجزأ من مقومات هذا الواقع وهو الذي يوجد العرف العام الذي تدور مشاعر الناس (الرضى والسخط) حوله. فإذا توحدت الأفكار مع المشاعر أصبحت هذه “المجموعة البشرية” مجتمعاً مكوناً من ناس تربطهم علاقات مبنية على أفكار وأنظمة ومشاعر. إذا وجدت هذه المقومات الأربعة وجد المجتمع.

وإذا كان الناس يعتنقون عقيدة معينة لها أحكام تنظم كل جوانب الحياة الإنسانية وإذا كانت أفكارهم وأنظمتهم ومشاعرهم منبثقة عن هذه العقيدة فيكون المجتمع مجتمعاً مبدئياً له هوية خاصة به وطرازٌ في العيش خاص به ورسالة عالمية لذلك نجد أن المجتمعين الرأسمالي والشيوعي السابق مجتمعان مبدئيان.

أما المجتمع الإسلامي فهو مجتمع مركب من ناس مسلمين يأخذون أفكارهم وأنظمتهم من عقيدتهم أو يبنونها عليها ومشاعرهم هي التي ترضى بما يرضي الله وتغضب لما يغضب الله.

إذا ألقينا نظرة إلى واقع المجتمعات في بلاد المسلمين المفككة، نرى للأسف أن ليس هناك أي مجتمع يعتبر مجتمعاً إسلامياً. نعم إن الأغلبية الساحقة في هذه البلاد مسلمون ولكن المشكلة تكمن في أفكارهم وبذلك في أنظمتهم ومشاعرهم والعلاقات القائمة بين الناس، ولتبيان ذلك نشير إلى بعض الأمثلة البسيطة من حياة المسلمين.

فالمسلم في البلاد الإسلامية يؤمن بما تقتضيه العقيدة الإسلامية بأن الله سبحانه وتعالى هو الحق وأن القرآن الكريم وكل ما جاء فيه حق وأن الرسول صلى الله عليه وسلم حق وأن سنته المطهرة جزء لا يتجزأ من الوحي، ومن هنا نجد أن عقيدة المسلم عقيدة سليمة لا شبهة عليها.

إلا أنه إذا نظرنا إلى طريقة التفكير وإلى الناحية العملية التي تقتضيها عقيدة المسلم (وهي في التشريع والمعاملات والعقوبات علاوة على العبادات والأخلاق) نجد التناقضات التي أصبحت من مميزات المجتمعات القائمة في بلادنا، وطريقة التفكير التي عكرت عقيدة المسلمين بكثير من الأفكار الغريبة عنها.

المسلمون يغضبون إذا نال أي إنسان من عقيدتهم أو سفه صلتهم بالله، ولكنهم يسكتون على أن تحكمهم امرأة (تركيا، باكستان، بنغلادش)، المسلمون يعلمون أن كل من دعى إلى عصبية الجاهلية (مثل القومية والوطنية) وإلى الكفر البواح (مثل العلمانية وهي العقيدة الرأسمالية) والمادة والإلحاد وهي العقيدة الشيوعية كافر، ولكنهم يسكتون على تطبيق الأنظمة والأفكار المنبثقة عن مثل هذه العقائد الباطلة، بل فيهم من قد أفتى بجواز تطبيقها في حياة المسلمين (مثل من ادعى زوراً وبهتاناً أن الاشتراكية من الإسلام، ومن المضللين الذين يدعون أن الديمقراطية من الإسلام) ومن هذا القبيل يمكن أن نقول إن المجتمعات القائمة في بلاد المسلمين ليست إسلامية بسبب عدم تحكم الأحكام الشرعية في كل مجالات الحياة، بل إننا نجد بعض العلاقات ترجع إلى الشرع مثل الزواج والطلاق… وبعضها الآخر يرجع إلى النظام الرأسمالي كأنظمة الحكم، وقوانين التجارة والشركات والسياسة والخارجية وسياسة التربية والتعليم والسياسة الاقتصادية وقوانين الأحزاب والدساتير وما شابه ذلك.

ولهذا نقول إن المجتمع الإسلامي فريد من نوعه ومتميز عن غيره في معتقدات أفراده (عقيدتهم عقلية تقر ما في فطرة الإنسان)، وفي أفكاره (مصدرها الروح وهي العقيدة الإسلامية وأنظمة الإسلام ومقياسه في الأعمال الحلال والحرام فقط)، وفي علاقات أفراده وسلوكهم (هو التقيد بالحكم الشرعي في كل عمل يريد المسلم الشروع به)، وفي حضارته (أي في كل مفاهيمه عن الحياة ووجهة نظره فيها) وفي فلسفة حياته حيث يمزج المادة (الفعل) بالروح أي بإدراك الصلة بالله حين القيام بالعمل (أي أوامر الله ونواهيه).

وإن كانت الأولوية الآن هي في إيجاد هذا المجتمع الإسلامي في أي قطر من أقطار البلاد الإسلامية حتى يكون نواة لدولة الإسلام، أي للخلافة الراشدة على منهاج النبوة، إلا أنه يجب التنبيه إلى أن الهدف من ذلك ليس هو تحقيق مصلحة آنية مثل الرفاهية والتنمية والاقتصادية بالدرجة الأولى، وإن كان ذلك من الضروريات، وهذا سيحصل بإذنه الله تعالى إذا عرفت الأمة الإسلامية النهضة الصحيحة، وهو مما لا يشك فيه أحد، بل الهدف الأساسي الذي هو أسمى الغايات هو نوال رضوان الله باستئناف الحياة الإسلامية في بلاد المسلمين وتوحيد الشعوب الإسلامية وصهرها في دار الإسلام تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتطبيق أحكام الإسلام عليهم من قبل خليفة واحد ومن ثم حمل هذه الرسالة الخالدة إلى العالم بأسره عن طريق الدعوة بشكل لافت للنظر وعن طريق الجهاد حتى يظهر الله دينه على الدين كله ولو كره المشركون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *