العدد 113 -

السنة العاشرة – جمادى الثانية 1417هـ – تشرين الثاني 1996م

وَصِيَّةُ العَجُوزِ

وَصِيَّةُ العَجُوزِ

 

                                                         الشاعر: أيمن القادري

مَن العجوزُ؟ تُواري الدمعَ في المقلِ *** تُخفي الوجومَ بأطيافٍ من الأملِِ
من العجوزُ التي من دارها خرجتْ
***لتقتفي خبرَ الفُرسانِ في عجلِِ
تسرّحُ الطرفَ في البيداء شاخصةً
***إلى البعيدِ، ولكنْ ليس مِنْ رجلِِ
حتى إذا سئمتْ من طول ما انتظرتْ
***جثتْ على قلق أقسى من الأجلِِ
وأسلمتْ خدَّها البالي إلى يدها
***وخاطبتْ صُوراً في البالِ لم تزلِِ
وطال ما ردَّدَتْ والجفنُ منكسرٌ
***حزناً على أخويها دونما مللِِ:
«لولا التجلّدُ بالباكين إذ كَثُروا،
*** قتلْتُ نفسي، وما بدَّلْتُ من حُللِِ»
ماتا، ولم تبدُ شمسُ الدينِ في أفقٍ
***أرخى به الكفر ستراً جِدَّ منسدلِِ

واليومَ.. ها هي ذي «الخنساءُ» ناظرةً ***أبناءَها بفؤادٍ ليس بالوَجِلِِ
«القادسيةُ» نادتهمْ، فما وهنوا
***بل وافق الأمرُ منهمْ نخوةَ البطَلِِ
صاحوا: «أيا أمّتا، لبّيك نحن هنا
***ونَصدق الله عهداً ليس ذا دَخَلِِ»(1)
«للزحف منا اصطبارٌ لا مثيلَ له
***وما لنا عن غمار الحربِ من بدلِِ»
«من كان غايتَه إرضاءُ خالقه،
***وجنةُ الخلد يُبغِضْ وصمة الوَجَلِِ»
شدّوا الرحالَ إلى الميدان فانتصبت
***تلك العجوزُ بعزمٍ ليس في الجبلِِ
تالله، ما يعلم الرائي إذا وقفتْ
***قربَ الفوارس: من للخيل والجَملِِ؟
قالت لهم: «لست أوصيكمْ، وإن يكُ لي
***بكمْ جوىً، أن تقوا الأجساد من أَسَلِِ»(2)
«لكن أريد جهاداً تستضيء به
***من بعدكمْ أممٌ ترويه كالمثلِِ»
«لا يُبصرنّ عدوٌّ ظهر واحدكم،
*** إن الصدور محلُّ السيف والنبلِِ»

مَضَوْا.. وهذا أوان الأَوْب ***فانطلقت جموعُ قومٍ تُوافي ملتقى السبلِِ
أمٌّ هناك، وزوجٌ ههنا وقفتْ
***وخلْف تَيْنِك بنتٌ بَعْدُ لم تصلِِ
وكلُّ واحدة منهن في قلق
***إلا العجوزَ فقد قامت على مهلِِ
وأرجعت طرفها في الأفْق ثانيةً
***فلاحَ طيفٌ يُهادي الخَطْوِ في ثقلِِ
هفا الفؤاد، وضجّتْ فيه بارقة
***من الرجاء تريدُ الفتك بالفشلِِ
الطيفُ يدنو، وخلف الطيف راحلةٌ
***يجرُّها، غير أنّ الرِجْل في زللِِ
ها قد أحاط به الأقوام في لهفٍ
***قالوا: «أمِن جيش سعدٍ جئتَ؟ لم تُنَلِِ»
أجاب: «بل نحن نلنا النصرَ، فافتخري
***نواصيَ الخيل.. هذي سُنّةُ الرسلِِ»
«سبقت سائر جند الجيشِ أُعلمكمْ
***كيف السيادةُ للإسلام في المللِِ»
«وكيف كلُّ جحودٍ نال مصرعه
***وفرّ من سلمت رجلاه كالحملِِ»
«تمرَّغ الكفر أرضاً وارتمى نزِقاً
***وكان يطمح أن يرقى إلى زحلِِ»

«قد لُطّختْ بالدم المسفوكِ رايتُه ***ومُزّقتْ، وانزوت في الوحل، في خجلِِ»
«ورايتي، راية الإسلام، رايتكمْ،
***تعلو الغبار وتهدي قادة الثِللِِ»(3)
«تلقى الأكفّ تَبَارى من يعانقُها،
***من يستظلّ من الرمضاء بالظُللِِ»
«سنابكُ الخيل تُوري تحتها شرراً
***وأعينُ الجند إشراق من الأملِِ»
«لا يعلمُ المرءُ من مِنْهُمْ أشدّ رضاً:
***أداحرُ الكفر، أم مدمىً ولم يَئِلِِ؟»(4)
«هذا يُعِدُّ، لنصرٍ قادمٍ، سُرُجاً،
***وذاك يرقب أنهاراً من العسلِِ».

هنا توقّف، وامتدت لواحظه ***إلى العجوز فغصّ الحلقُ بالجُمَلِِ
أمال عينيه، لكن بعد أن
***قرأتْ عبارةً فيهما مرَّتْ على عجلِِ.
تَردّدت: أتناديه فيفجعَها؟
***أم تؤثر الصمت يُنجيها.. إلى أجلِِ؟
وقبل أن تصطفي ردّاً، تملّكها
***عزمٌ تدفّق سيلاً غير منخزلِِ.(5)
نادته: «أقبلْ، أخا الإسلام، في ثقةٍ،
***فلست أرهب، مهما حلّ من جللِِ»
قال: «الشهادة، يا أمّاه، فابتهجي،
***فالأرضُ قد رُويتْ بالماطر الهطِلِِ»
«قد كنت تبكين من في النار مسكنُه،
***واليوم، بُشراكِ بالأبرار، فابتهلِي»
«هذا سيمسحُ من عينيك دمعَهُما.
***طوبى لأرواحهمْ في المَورد الخضِلِِ»(6)

قالت: «أفي الصدر نالوا الطعن يا ولدي؟*** لا تُخْفِ عني، أجبني، قبل مُنْتَقَلِي».
أجاب: «كنا
إذا ما ثغرةٌ خُرقت ***لدى العدوّ- نراهم أوّل الثِللِِ».
«ومن تأخّر في جرْحٍ يضمّده،
***لاموه: هل أنت عن مولاك في شُغُلِِ؟»
«وإن كبتْ ضربةٌ في سيف واحدهمْ،
***صاحوا: «تذكّرْ..»، فتذكو النار في المقلِِ
«قد صافحوا القتل حتى نال بُغيتَه
***وغيّر الدم لون البِيض والحُللِِ».
قالت وقامتها كالطود راسخةٌ:
***«لا حُزْنَ، لا دَمْعَ، لا آهاتِ مُكْتهلِِ».(7)
«الحمدُ لله إذ قد شاء لي شرفاً
***وقرّت العين فيهمْ قبل مُرتَحَلي»
«وأسأل الله جَمْعَ الشمل، يوم غدٍ،
***في جنة الخلد، في النعماء والظللِِ».
ثم استدارتْ لتمضي حيثُ خيمتها
***فقال من جاء بالأنباء، في مهلِِ:
«يا خالتا، ما الذي عدّوا تذكُّرَه
***مثار عزمٍ يُعيد البأس في الرجلِِ؟»
قالت: «وصيةُ أمّ، طال ما جهدوا
***أن يكتبوها بحبْرٍ سال من نَبَلِِ»
«ها هم جنودُك، جند الحق، فافتخري
***يا أمة ورثتْ وحياً من الرسلِِ»
«إذا الوصيةُ لم تُحْيِ النساءُ بها
***عقيدةَ النَشْءِ، لا ترقبْ سوى الفشلِِ».

 

(1) دخل: شوائب. – (2) الأسل: النبال. – (3) الثلل: المجموعات.

    (4)لم يئل: لم يرجع. – (5) منخزل: منقطع. – (6) الخضِل: النديّ. (7) المكتهل: العجوز.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *