العدد 119 -

السنة الحادية عشرة – ذو الحجة 1417هـ – نيسان 1997م

معنى إعجاز القرآن الكريم

معنى إعجاز القرآن الكريم

بقلم: عبد اللطيف زهد

«وقد صاحب تأدية المعاني بهذه الكيفية من التعبير التي تصور المعاني مراعاة للألفاظ ذات الجرس الذي يحرّك النفس عند تصوّرها لهذه المعاني وإدراكها لها، ولذلك كانت تبعث في السامع المدرِك لعمق هذه المعاني وبلاغة التعبير خشوعاً عظيماً حتى كاد بعض المفكرين العرب من البلغاء أن يَسجدوا لها مع كفرهم وعنادهم.

ثم إن المدقّق في ألفاظ القرآن وجمله يجد أنه يراعي عند وضع الحروف مع بعضها، الأصوات التي تحدث منها عند خروجها من مخارجها فيجعل الحروف المتقاربة المخارج متقاربة الوضع في الكلمة أو الجملة، وإذا حصل تباعد بين مخارجها فَصَلَ بينها بحرف يزيل وحشة الانتقال. وفي الوقت نفسه يجعل حرفاً محبَّباً مِن مَخرج خفيف على الأذن يتكرر كاللازمة في الموسيقى، فلا يقول (كالباعق المتدفق) وإنما يقول ]كَصَيِّب[ ولا يقول (الهُعْخع) وإنما يقول (سندس خضر). وإذا لزم أن يَستعمل الحروف المتباعدة وضعَها في المعنى الذي يليق بها ولا يؤدي المعنى غيرها مثل كلمة «ضيزى» فإنه لا ينفع مكانها كلمة ظالمة ولا جائرة مع أن المعنى واحد. ومع هذه الدقة في الاستعمال، فإن الحرف الذي يجعله لازمة يرد في الآيات واضحاً في التردد، فآية الكرسي مثلاً ترددت اللام فيها ثلاثاً وعشرين مرة بشكل محبَّب يؤثر على الأذُن حتى ترهف للسماع وللاستزادة من هذا السماع.

وهكذا تجد القرآن طرازاً خاصاً، وتجده يُنْزِل كُلَّ معنى من المعاني في اللفظ الذي يليق به والألفاظ التي حوله، والمعاني التي معه، ولا تجد ذلك يتخلف في آية من آياته. فكان إعجازه واضحاً في أسلوبه من حيث كونه طرازاً خاصاً من القول لا يشبه كلامَ البشر ولا يشبهه كلامُ البشر، ومن حيث إنزال المعاني في الألفاظ والجمل اللائقة بها، ومن حيث وقع ألفاظه على أسماع من يدرك بلاغتها ويتعمق في معانيها فيخشع حتى يكاد يسجد لها، وعلى أسماع من لا يُدرِك ذلك فيأسره جرس هذه الألفاظ في نسق معجز يخشع له السامع قسراً ولو لم يدرك معانيه، ولذلك كان معجزة وسيظل معجزة حتى قيام الساعة».

هذه الفقرات مأخوذة من موضوع إعجاز القرآن الموجود في كتاب الشخصية الإسلامية الجزء الأول للشيخ تقي الدين النبهاني رحمه اللـه. رأيت أن أثبتها في بداية هذا الموضوع كي يسيل لعاب من لم يقرأ الموضوع من كتاب الشخصية فيسعى لقراءته.

ومن يقرأ الموضوع في كتاب الشخصية يبهره بيان ما في أسلوب القرآن من وضوح وقوّة وجمال. إلا أن هذا البيان هو لزيادة إيمان المؤمنين بأن القرآن هو كلام اللـه مع إيمانهم، أي لتقوية إيمانهم. ولا يصلح الموضوع كما هو في كتاب الشخصية لإلزام من ليس بليغاً فصيحاً من العرب، كما لا يصلح لإلزام من ليس عربياً من الناس. لذلك رأيت التركيز على هذه الناحية في هذا الموضوع، ناحية الدلالة الفكرية للإعجاز من حيث هو إعجاز. أي معنى الإعجاز كبرهان عقلي ملزِم ومسكِت لغير البليغ ولغير العرب، أي معنى عجز بلغاء العرب عن تقليد القرآن بحيث يشتبه على البليغ، أيّهما القرآن هذا الكلام أم ذاك. فإنّ معنى إعجاز بلغاء العرب هو عجز العرب. وعجز العرب في حقبة نزول القرآن هو عجز العرب مِن بَعدهم، وعجز العرب يعني عجز البشر. وعجز البشر يعني تفرّد واحد من البشر عن البشر، وهذا أمر لا يصدّقه العقل، أي أن العقل لا يصدّق أن ينفرد واحد من البشر عن البشر، لأنه منهم، والذي يتفرد على البشر لا يمكن أن يكون منهم، لأن المتفرّد هو واحد، وليس له ثانٍ، ومن كانت هذه حقيقته لا يمكن أن يكون بشراً.

هذا المعنى الذي سأتعرض له بقوة واستفاضة في هذا الموضوع أعتبره استكمالاً للموضوع في كتاب الشخصية المذكور، ولا أدّعي أنني سابق في إيراد هذا المعنى، فهو موجود في الثقافة الإسلامية وفي كتب الشيخ – رحمه اللـه -، لكن ما أعنيه أنه غير موجود في المكان الذي ينبغي أن يكون موجوداً فيه وهو موضوع إعجاز القرآن في كتاب «الشخصية الإسلامية». وهذا المعنى لا يقل أهمية عن إدراك الدلالة الفكرية لمحدودية الكون والإنسان والحياة من كون أن المحدود يعني أنه بدأه غيرُه، أي بدأه الذي حدّده. وقد اطّلعتُ في حياتي على الكثير من الآراء التي تعتمد التقليد في مسألة الإيمان بأن القرآن من اللـه، بدلاً من الاعتماد على البرهان العقلي، نتيجة الغموض في معنى الإعجاز عند هؤلاء. ولإزالة هذا الغموض وبيان معنى الإعجاز وما يتعلق به من أفكار، أكتبُ هذا الموضوع راجياً من اللـه التوفيق.

لقد ظهر هذا الكلام الموجود في القرآن في الوقت الذي بلغ فيه نتاج بلغاء العرب وفصحائهم من خطابة وشعر وأمثال وغير ذلك، بلغ نتاجهم آخر مداه، أي آخر قدرتهم، بل وتُعتبَر هذه الحقبة التي ظهر فيها هذا الكلام مقياساً للبلاغة والفصاحة عند علماء اللغة ونقّاد الشعر والنثر من العرب. إنها الحقبة التي كان يقدَّر فيها الكلام فيُكتب بماء الذهب ويعلَّق على جدار أشهر مكان عند العرب وهو الكعبة، ولا يُعرَف عن شعب كان للبلاغة عنده مثل هذا التقدير. كما لا يُعرَف عن شعب بلغ اهتمامه بالبلاغة والفصاحة أن ينظم لأهلها أسواقاً يتباروْن فيها أمام الحشود من الناس وعلى مسمع من خبراء البلاغة والفصاحة. لا يُعرَف ذلك عن شعب كما عُرِف عن العرب في هذه الحقبة من الزمان. فهي الحقبة التي نضج فيها التعبير في اللغة العربية، بعد أن استعمل أهلُها ألفاظَها السنين الطوال. وتزامن هذا النضج مع اهتمام لن يتكرر بالبلاغة والفصاحة.

أقول إنّ هذا الاهتمام بالبلاغة يعتبر حقيقة تاريخية لا مجال للتشكيك فيها. ومن المعلوم قطعاً أن الحقبة التي يغلب عليها الاهتمام بفنّ معيّن من قبل الناس لا بدّ وأن يظهر فيها المبدعون في هذا الفن أكثر من الحقبة التي لا يغلب عليها الاهتمام بهذا الفن بنفس الدرجة من العمق والاتساع. فمثلاً كان الاهتمام بالفلسفة عند اليونان أيام سقراط وأرسطو طاغياً، فمن الطبيعي أن يشكل هذا الاهتمام التربة التي تنبت الفلاسفة.

هذا من ناحية أن للاهتمام بفن من الفنون نتيجةً حتمية على معاصري ذلك الاهتمام ولا بد. وأما من ناحية أن هذا الاهتمام لن يتكرر قطعاً، لأنه لكي يحصل اهتمام مثله فإن ذلك يقتضي أن يتكرر وجود مجموعة عربية خالصة اللسان العربي، وهذا مستحيل لأن اللسان العربي فسد وانتهت القضية، وإن عاد الاهتمام فهو الاهتمام لتعليم اللغة العربية مِن قِبَل أفراد، ولكن هؤلاء الأفراد لن يكونوا قطعاً مساوين لأهل اللغة بلسانهم العربي الخالص سليقةً. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أيضاً فإن نفس درجة الاهتمام لن تتكرر لأنه استجد في حياة العرب ما يهتمون به ويشارك اهتمامهم بلغتهم وانتهت القضية. إذ إنّ الحقبة التي لم يكن للعرب فيها اهتمام في فكرهم وحياتهم يوازي اهتمامهم بالفصاحة والبلاغة، هذا الاهتمام الخالص الذي جعله ممكناً في وقت مضى هو عزلة العرب النسبية في جزيرتهم، هذه العزلة النسبية لن تتكرر، وإن تكررت فبنسبة أقل بعد أن أصبح العالم قرية صغيرة بفضل التقدم الهائل في الاتصالات.

أسوق هذا الكلام لكي أبرهن على أن المتحدّى، وهم بلغاء العرب، لن يأتي بعدهم مثلهم، فيثبت أن التحدي في تلك الحقبة هو التحدي المطلق.

خاطب محمد صلى الله عليه وسلم العرب بجمل مكوّنة من حروف وألفاظ ومعانٍ من وضع العرب أو مما كان يعرفه العرب (على أي رأي من الآراء في أصل اللغة)، إلا من بعض الألفاظ التي أصبح لها معان شرعية كالصلاة والصوم والحج…الخ، وخاطبهم بصور بلاغية يقرّون ويعرفون أنها بلاغية، فيما لو قيلت بهذا الأسلوب، ولكنهم لا يسبقون إليها. إذ لو كان فهْم هذه الصور البلاغية، صورة صورة فوق مستواهم لما كانت بلاغتهم.

ولكن ما بال كل خطيب وكل شاعر يستطيع البليغ أن يقول فيه: لو قال كذا أو لو وضع كلمة كذا أو لو وضع حرف كذا لكان أفضل إلا في هذا الكلام، فهو يمسك بناصية اللغة كلها حرفاً حرفاً وكلمة كلمة وناصية البلاغة صورة صورة، فهو يستعرض في وضع كل حرف كل حرف في اللغة مرة واحدة (فلا يستطيع بليغ أن يجد حرفاً أنسب)، الحرف الأمثل معنى وصوتاً وموسيقى، وسلاسة، وتأثيراً في النفس، ويستعرِض كلمات كل اللغة العربية كلمة كلمة فيضع الكلمة في مكان يسلّم البلغاء بأنه المكان الأمثل سلاسة وموسيقى ومعنى وتأثيراً وموافقة للموضوع المطروق، وكذلك الحال مع التراكيب.

إنه الاستعمال الأمثل لكل حرف ولكل كلمة ولكل تركيب ولكل معنى يعرفه العرب يتكرر هذا الاستعمال ويتكرر، وها هي الفرصة متاحة ليقلّدوا هذا الكلام ويستعدوا لمواجهة نقد البلغاء ولكن لا أحد يستطيع ذلك لأن الاستعمال الأمثل فوق طاقة الفرد البشري، إذ كيف يستطيع عقله أن يشمل كل الأحرف، فلا ينسى حرفاً واحداً، فيختار الحرف الأمثل منها حسب أعلى معايير البلاغة عند بلغاء العرب الأحياء، الواقفين بالمرصاد، كذلك يشمل كل كلمة من كلمات اللغة العربية مرة واحدة فيختار الأمثل معنى وجرساً و… وحسب أعلى معايير البلاغة التي يعرفها البلغاء المترقبون والمتربصون لأقل هفوة. كذلك يشمل كل الصور التي من الممكن أن تعبّر عنها هذه الكلمات بتراكيب هي الأمثل في الأداء والاستقامة (فلا تناقض، مع ضمانة عدم نسيانه لمعنى فيورد ما يناقضه) حسب أعلى المعايير عند البلغاء.

إن هذا الشمول فوق قدرة البشر.

وإن هذه الضمانة في عدم نسيان ما قاله ومناقضته فوق طاقة البشر.

إنه الكمال في التعبير والكمال ليس من صفات الإنسان.

إنه التفرّد.

وهذا التفرد يدركه البلغاء، فهم المعنيّون بإدراكه دون غيرهم، فهم الذين يدرِكون المستوى الأعلى من البلاغة في كل ما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم. ولكنهم بلغاء أيضاً، ولا يحصل لهم هذا، بل لا يمكن أن يكون البليغ الأمثل، بليغ البلغاء الأوحد، الذي لا يدانيه ولا يجاريه أو لا يجد عليه أي بليغ بل مجموع البلغاء سبيلاً من الضعف في وضع أي حرف أو كلمة أو صورة، لذلك فإن هؤلاء البلغاء يدركون ما في القرآن من إعجاز، وهم وحدهم المطلوب منهم هذا التسليم أي هذا الإيمان القائم على الحس. تماماً مثلما كان هذا الإيمان مطلوباً من السحرة الذين تحدّاهم سيدنا موسى. فلم يكن من شأن أحد من عامة الناس أن يدرك ما حصل إلا السحرة، فهم الذين يدرِكون مدى قدرة السحرة على اختلافهم، لذلك فهم أدركوا عندما تحدّاهم سيدنا موسى بعصاه أدركوا بأن ما يحدث ليس بالسحر، لأنهم هم السحرة، وها هم عاجزون بجمعهم عن التغلب على سحر واحد منهم. وهذا لا يكون من السحرة أبداً، لأنهم كلهم سحرة، وإذا تفرّد عنهم أحدهم فهو تفرّد عن البشر، لأن التفرّد على السحرة هو تفرّد على عامة الناس الذين ليسوا بسحرة، والتفرّد على البشر لا يكون من البشر، لأن واحد البشر لا يتفرّد على البشر لأنه من البشر.

هذا المعنى هو الملزِم لعامة الناس، إنه معنى إيمان السحرة وتسليمهم لموسى. وهو معنى عقلي راقٍ تُوُصِّل إليه بعد إعمال الذهن مِن قِبَل الشخص نفسه أو من قبل غيره. والإيمان بالمعجزة هو أساس من أسس العقيدة، والتي لا بد وأن تُبذل فيها المعاناة الفكرية، لأنها أساس لغيرها، ومن لا يرتقي فكرياً بمعنى أن يبذل مجهوداً فكرياً في وصوله إلى النتائج في أساس الأفكار (وهو العقيدة) لا يمكن أن يعتبَر إنساناً راقياً.

وعلى كل حال فإن مسائل العقيدة ليست كثيرة، وهي محدودة جداً جداً إنها مسألة وجود اللـه ومنها معنى الإيمان بوجود اللـه، ومنها الإيمان بصفات الألوهية، أي الصفات التي تميز ذاتاً معينة عن كل الذوات المحسوسة، أي الصفات التي تقنع العقل ليسلّم بأن هذه ذات إلهية، ألا وهي صفات الكمال، والإيمان بأن القرآن هو كلام اللـه.

إذ لا معنى أن يخاطَب أحدهم ليؤمن بأن هذا الكلام هو كلام اللـه دون أن يسبِق هذا الخطاب البحث الذي يتعلق بوجود اللـه والذي يُنسب هذا الكلام له. أي البحث الذي يتعلق بوجود مادة الكون والإنسان والحياة من أين هي؟ هل هي أثر لنفسها أم أثر لغيرها؟ البحث الذي ينتهي ولا بد بالتسليم بحقيقة أن هناك خالقاً قادراً خلق الإنسان والكون والحياة.

فالخالق سبحانه لا يعبَث، وهذه حقيقة، إلى جانب ما هو مركوز بفطرة مخلوقه الإنساني من استقرار غريزي تجاه هذه الحقيقة، حقيقة أن هناك خالقاً، مما يجعل النفس البشرية تطمئن وترتاح لما يأتي بعد ذلك، فهي تعاني من قصور ولا يخلّصها من هذه المعاناة القصورية إلا اعتمادها على قوة أكمل منها. لذلك تجد هذه النفس (وهي التي عبدت كل شيء في محاولاتها لإشباع هذا القصور) لذلك تجد هذه النفس قد وجدت بغيتها، قد وجدت الإشباع الحقيقي حين تضاف صفة الكمال لهذا المعبود. ومن مقتضيات هذا الكمال أن لا يَترك الكامل هذه النفس محتارة كيف تعبده؟ كيف ترضيه؟ وقد آمنت بوجوده، فهو لا يمكن أن يتركها في حيرة من أمرها، وهو عَلِمَ أن النفس البشرية آمنت بوجوده وخاصة أن الفرد الإنساني فيه الغرائز والحاجات العضوية التي خلقها اللـه فيه، وهي تتطلب الإشباع بنظام معيّن مريح والإنسان قاصر عن وضع هذا النظام الذي ينظّم علاقته مع خالقه ومع نفسه ومع الآخرين بما فيهم من غرائز وحاجات عضوية.

فالخالق ((مسؤول)) عن مخلوقه، والمخلوق مسؤول من خالقه، فهذا معنى علاقة الخلق، فهناك خالق وهناك إنسان مخلوق يرتبط بخالقه بهذه العلاقة، والعقل يقرر أن هذا الخالق الكامل لا يترك مخلوقه وقد أوجده محتاجاً لنظام، لا يتركه بدون هذا النظام.

هذه الحقيقة تتكشف للإنسان منذ أن يرسل له اللـه رسلاً، وقد أرسل، وعندما يثبت أحد الناس بأنه رسول، بإظهاره أمراً غير بشري ويبلغ الناس رسالة اللـه، تلتقي هذه الحقيقة وتنسجم مع الإيمان بوجود اللـه وحاجة الإنسان إلى الرسل، فالإيمان بالرسول يختلف عن الإيمان بوجود اللـه، فلربما يكون هناك إنسان يؤمن بخالق كامل ويؤمن بأن فلاناً هو رسول لهذا الخالق ولكنه يرفض عبادة اللـه كما يقول هذا الرسول ويرفض الدخول في طاعة هذا الفرد من البشر في كل ما يقول عن الخالق عناداً أو حسداً أو باتخاذه قراراً بعدم التفريط بمصلحة ما، يطلب إليه الرسول التفريط فيها، وغير ذلك من الأسباب وهي كثيرة. فهو لا يُظهر السبب الحقيقي الكامن خلف قراره ولا يصرّح به في عدم اتباعه لهذا الرسول بل يظهر تبريرات وادّعاءات مختلفة.

لذلك تجد القرآن يرد إيمان من لم يجعل محمداً صلى الله عليه وسلم الحكَم الأوحد في الحياة بوصفه الرسول الذي يبلّغ عن اللـه في هذا الوقت، وهو الرابطة الحالية بين اللـه وكل البشر.

(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم) الآية 65 من سورة النساء.

ويبقى هذا الرسول هو الرابطة الحالية (بدون مراعاة للزمان أو المكان) حتى يأتي رسول يبلّغ الناس أمراً مختلفاً، ولا رسول بعد محمد صلى الله عليه وسلم.

لذلك فهو الرابطة الحالية بين اللـه وكل الناس ممثلاً بكتاب اللـه وسنة نبيه.

فمحمد صلى الله عليه وسلم خاطب الناس بكلام من اللـه وهذا الكلام يطلب الإيمان باللـه كما هو موصوف في القرآن، كما وأن هذا الكلام يحدد العلاقة باللـه كما هي في القرآن.

والقرآن يقول: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) الآية 7 من سورة الحشر.

فالمقرر للناس هو محمد صلى الله عليه وسلم بوصفه رسولاً.

فالقرآن جاء على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يحدد الإيمان باللـه كما هو في القرآن ويحدد العلاقة به كما هي في القرآن. وهذا الإيمان الذي يوافق الفطرة يحتاج إلى التفكير المستنير والتسليم به بعد طرح كل المعوقات النفسية الناشئة عن حياة الإنسان مع غيره في المجتمع، إذ لا يوجد إنسان صاحب فطرة سليمة خالية من تأثيرات الحياة مع غيره في المجتمع، وأن موافقة العقيدة الإسلامية للفطرة الإنسانية هي من حيث كون الإنسان مؤمناً بوجود الخالق المدبّر، وتبقى العلاقة باللـه، هذه العلاقة يجب أن تتم من خلال بشر يجب التسليم له بالقيادة وطاعة ما يقول من أوامر قد تتعارض مع المصالح والمشاعر والميول، وإن قرار طاعة شخص في كل ما يقول بل والتضحية في كل شيء في سبيل الاستمرار بهذه الطاعة هو من أشق الأمور على النفس.

وهكذا كانت آيات القرآن تتضمن ما يتعارض مع ما في أذهان العرب ومشاعر العرب تجاه آلهتهم كما يتعارض مع نفسياتهم.

إن الفطرة على اختلاف معانيها تتعلق فيما هو مركوز في الإنسان تجاه القوة الأكبر أو الأعلى ولا تتعلق باتباع شخص معين والتسليم له.

وقفة…

وقفة للتدليل على هذا المعنى. وقفة مع سبب رفض إبليس السجود لآدم وعصيانه لأمر اللـه. مع أن إيمان إبليس بوجود اللـه هو إيمان محقق، ولكن رفضه آتٍ من ناحية نفسية، فقد امتلأت نفسه بالكراهية والغيظ والحسد والحنق والتكبّر على السجود لآدم. وهذه الدوافع سمح لها إبليس أن تطغى على الحقيقة، الحقيقة التي يعرفها ويجب أن يقرّر بناء عليها، أنه يجب أن يؤمن باللـه كذات لا تحاسَب ولا يُحتَج عليها، بافتراض أنه انتبه لأمر غفلت الذات الإلهية عنه وذلك في قوله: (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) الآية 12 من سورة الأعراف. يقول ذلك للـه الذي خلق الاثنين. إنه الإيمان الذي لا يَقْدُر صاحبه اللـه حق قَدْرِه برفضه لأمره، إنه إيمان بإله يقرّر صاحب الإيمان هذا صفات اللـه كما يريد وكما يهوى لا كما يعرف، أي عندما كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يُنذِر أهل مكة بالقرآن، فإن البلغاء والفصحاء الذين يُدرِكون بلاغة القرآن ويدرِكون أنها فوق قدرة البشر، فإن هؤلاء هم الحلقة الأولى الذين تستهدفهم المعجزة. وهم كسحرة فرعون من حيث كونهم الحلقة الأولى المباشرة في إدراك المعجزة. وبقية الناس تَبَع للحلقة الأولى هذه. (لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين) الآية 40 من سورة الشعراء. لأن عامة الناس لا تملك القدرة على تمييز المعجزة بشكل مباشر بل تبني قناعتها بناء على موقف الحلقة الأولى من المعجزة. ومسؤولية هذه العامة مبنية على تفكيرهم بهذا الموقف، والتفكير بعلاقة البلغاء والفصحاء بمعجزة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو في مقدور هذه العامة، لذلك فإن حال البلغاء والفصحاء من المعجزة تُلزِم العامة. وحال العجز هذه هي الحجة والبرهان على هؤلاء العامة. فالبليغ يفكر ببلاغة القرآن ومَنْ بَعْدَه يرقب فعله ويفكر بقدرته على مواجهة التحدي. وهذه هي الحلقة الثانية في علاقة الناس بمعجزة القرآن.

أما علاقة هذه الحقائق بإيمان عامة العرب بالقرآن فهي:

إن عقول عامة الناس تدرك حقيقة استحالة تفرّد إنسان على بقية البشر، وهذه الحقيقة يدركها من يمتلك الحد الأدنى من القدرة على التفكير، ولا تتطلب معرفتها اختصاصاً في ناحية ما. فالعامة تدرِك أن تفرّد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على بلغاء العرب هو تفرّد على هؤلاء البلغاء، والتفرّد على بلغاء العرب هو تفرّد على العرب، والتفرّد على العرب هو تفرّد على البشر، والتفرّد على البشر، من قِبَل فرد بشري منهم، دعوى يرفضها العقل.

والحلقة الثالثة في علاقة الناس بمعجزة القرآن هي إيمان عامة الناس. فعامة الناس من غير العرب بمقدورهم التفكير في معنى أن يتفرّد عربي على العرب، وعقولهم ترفض هذه الدعوى. والحجة تقوم على الناس بتبليغهم الإسلام تبليغاً لافتاً للنظر.

فإيمان العرب أو أي قوم آخرين فيما لو نزل كلام اللـه بلغتهم وآمنوا، أقول: فإيمان العرب والتزامهم أحكام الإسلام في حياتهم وفي علاقتهم ممثلين بدولتهم، دولة الإسلام، مع غير المسلمين يشكل قضية فكرية لافتة للنظر للبشر الذين تصل إليهم هذه الدعوة.

لأن التزام العرب بالإسلام في علاقتهم مع الآخرين يتعارض مع السلوك الطبيعي لأية مجموعة بشرية، لأن الطبيعي في السلوك البشري هو استغلال الآخرين والتغلب عليهم لنهب خيراتهم والسيطرة عليهم واستعبادهم. وإن حصول عكس ذلك من العرب الملتزمين بالإسلام الحاملين له للآخرين يشكّل ويبرز ويظهِر حقيقةً تخاطِب عقول الناس وهي علاقة الأخوة أو الرعاية. ما الذي يدعو هؤلاء إلى مخالفة السلوك الطبيعي. هذا ما يظهر على العرب المسلمين أو على الفرد العربي المسلم وبالتالي أي مسلم في علاقته مع الآخرين. إنه يشكل حقيقة متحركة لافتة للنظر من خلال سلوكه غير الطبيعي.. لماذا يستطيع السرقة ولا يسرق؟ لماذا يستطيع الغش ولا يغش؟ لماذا يستطيع الاستغلال ولا يستغل؟ لماذا يستطيع الزنا ولا يزني؟ لماذا يستطيع أخذ الربا ولا يأخذه؟ لماذا يصدق ويستمر في الصدق، ولو كان في ذلك خسارة مادية أو معنوية، ولا يسعى للربح من خلال الكذب؟…الخ.

صورة بشرية حية للحقيقة تؤثر في أفراد البشر الآخرين، إذ ما الذي يدعوهم إلى هذا السلوك؟ تماماً كما كان سلوك الصحابي في قوة حبه والتصاقه برسول اللـه صلى اللـه عليه وآله وسلم مثار تساؤل لافت للنظر لغير المؤمنين في مكة.

إنها الخيرية الإنسانية..

إذ من المفروض أن يتميز العرب المسلمون تميزاً، تميزاً يفرض نفسه، فإنه من غير الطبيعي إذا انتصرت جماعة بشرية على جماعة أخرى أن تكون علاقتها بها بعد الانتصار علاقة أخوية أو رعوية، أو كليهما.

إن مديح القرآن لأتباعه في إطعامهم الطعام للأسير لَهُوَ حكم لافت للنظر، هذا الحكم النظري إذا صاغ أشخاصاً جسّدوه في الواقع، فلا بد وأن يُشهِروا حقائق جديدة لافتة لنظر البشر.

(ويطعِمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيرا) الآية 8 من سورة الإنسان.

لأن إطعام عدو الأمس، ومن الممكن أن يكون عدو المستقبل، وتغذيته ليحافظ على قوته تتعارض مع السلوك الطبيعي، هذا الأسير، المحارِب والقاتل قبل أن يُؤسر يعامَل وكأنه جاء إلى بلادهم زائراً.

وبفضل الإسلام يقدّم العرب المسلمون صورة مسلكية مخالفة للعادة، بوصفهم جماعة تتمثل كلام اللـه في حياتها وهي صورة «الخيرية» المطلوبة منهم.

(كنتم خير أمة أخرجت للناس) الآية 110 من سورة البقرة.

صورة تحفظ لهم المصداقية وتجعل الناس يستمعون إليهم بآذان صاغية وهم يحملون لهم القرآن ويبرهنون لهم أنه كلام اللـه تعالى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *