دمعة على علماء الحرمين
2009/02/04م
المقالات
1,738 زيارة
دمعة على علماء الحرمين
عبد القادر الحجازي
الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد،
فإن أشد ما ابتلينا به بعد غياب شمس الإسلام الساطعة عن أمتنا هو استقالة ورثة الأنبياء من مهمتهم العظمى وزهدهم بميراثهم الجليل وخوفهم المطبق من قول الحق والمجاهدة به.
وإن الجرح لهو الأغور إن كان في البلد الذي ضم سيرة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) ومهبط وحيه ودار هجرته، الدار التي سنت فيها الشرعة الأولى للصدح بالحق وبيانه ولو كان ذلك على حساب النفس أو المال أو الأهل والقربى.
وإنني لن أتناول بالتفصيل كامل فصول الدور الخطير الذي يلعبه علماء السلاطين في بلاد المسلمين وبخاصة بلاد الحرمين من لعب بالأحكام وتبديل للسنن وتضليل للمفاهيم ونكوص عن الثوابت والمبادئ، ولكنني سوف أسلط الضوء على غيض من فيض وأكتفي بسطر من كتاب.
فإن من المعلوم لكل ذي عينين مهما ضحل إلمامه الشرعي أن ثمة دوراً مفصلياً أناطه الله عز وجل بالعلماء ولا سيما في الملمات والنوازل، وهو توعية الأمة وترشيدها سبل السلام وتوضيح الطريق القويم للناس في زمن التيه والتخبط، هذا بالإضافة إلى واجبهم المحتم من قول الحق والجرأة فيه واستنهاض الهمم ومحاربة المخدرات الفكرية والسلوكية، وإلا فبأي شيء نال العلماء مرتبة (ورثة الأنبياء) كما روى أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه؟ وبأي تكليف استحقوا ذلك الشرف في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «العلماء أمناء الله على خلقه» كما أخرج السيوطي والنسائي عن أنس؟ وها نحن اليوم كلما ادلهمت على ديار المسلمين الخطوب وتقاطرت البلايا والمصائب التفت شباب الإسلام إلى علمائهم وفي عروقهم تغلي الهمم والتحرق لنصرة إخوانهم الذين استنصروهم، وفي مقلهم تبرق الثوابت وتقدح السؤالات «ما الحل؟ ما الطريق؟ ماذا نفعل؟…» فإنهم بهذا يصدمون ويصفعون بكلام ومواقف لا تنتمي إلى واقعهم، ولا إلى دينهم، ولا تمثل إرادتهم، بل هي أهزوجة أخرى من أهازيج الحكام التي مجتها الآذان ولفظتها النفوس الشريفة تأتيهم بعمامة وجبة أهل العلم. «لا نستطيع إلا الدعاء -دون عمل- لإخواننا» أو «انصروهم بالمال -دون جهاد-» أو لعلكم تتركون حتى الدعاء والإنفاق وتدخلون بيوتكم فتصلحوا أنفسكم بعبادة شعائرية -دون العبادة التعاملية-، عبادة لا جهاد فيها ولا نصرة ولا خلافة ولا بيعة.
لك الله يا غزة، لك الله فيمن يقطع الطريق بيننا وبينك، وفيمن يعبّد هذا القاطع ويشرعه تشريعاً. فأي دور هذا يا علماء الدين وأي عظيمة يا دعاة بلاد الحرمين الذين أسكتم صوت الشباب حتى في المظاهرات السلمية كما صرح بذلك رئيس المجلس الأعلى للقضاء في السعودية صالح اللحيدان في 1/1/2009م إذ قال «إ المظاهرات التي شهدها الشارع العربي ضد غارات (إسرائيل) على قطاع غزة هي من قبيل الفساد في الأرض وليست من الصلاح والإصلاح، حتى لو لم تشهد تلك المظاهرات أعمالاً تخريبية فهي تصد عن ذكر الله ولا تصلح…»؟ كما أكد (سماحته) على أن تعبير الجماهير عن مواقفها بالتظاهر هو «استنكار غوغائي ومسألة فوضى، إذ إن علماء النفس وصفوا جمهور المظاهرات بمن لا عقل له!!» أما كيف تكون نصرة غزة التي تطحنها دبابات (إسرائيل) وسط مليار ونصف مليار مسلم يملكون طاقات لو أرادت أن تقتلع الجبال لاقتلعتها، فهذه النصرة اللحيدانية بحسب (سماحته) تكون كما قال: «بالدعاء لأهل فلسطين في ظهر الغيب، أما الدعاء والقنوت في المساجد فعلى الناس التقيد بما يصدره ولي الأمر فيه!!!». وأخيراً ينصح رئيس مجلس القضاء الأعلى في السعودية طلاب العلم بأخذ العلم من (الجامعات والعلماء المشهود لهم بالخير)، وحتى لا يبقى الأمر عاماً وغير مفهوم أوضح (سماحته) من يكون هؤلاء العلماء المشهود لهم بالخير فقال محذراً: «يجب أن لا يؤخذ العلم عبر كل من هبّ ودبّ، أو عبر العلماء الذين يدخلون الدين في أمور السياسة، لا سيما الشباب الذين يعشقون الطموح ويفكرون في المناصب!!!». هكذا يفتي علماء بلاد الحرمين، وهكذا يقبضون على زمام الشارع ويقتلون الصحوة في أحفاد الصحابة الكرام وتلاميذ إمام الحرمين أبي المعالي الجويني الذي كتب رائعة مصنفاته (غياثُ الأمم في التياثِ الظُلَم) مفصلاً وجوب بيعة الإمام العادل ومحذراً من الأئمة المضللين ومن علمائهم الذين يمدونهم في غيهم ويعينون الشيطان على المؤمنين، أيعقل أن يتحرك الملايين من المؤمنين وغيرهم حتى البوذيين تحركوا وصرخوا بأعلى صوتهم في وجه الظلم والظالمين، وبلاد الحرمين محظور فيها حتى دعاء القنوت لإخواننا في العقيدة والدين إلا برخصة ولي الأمَرّ (بتشديد الراء)، وهل يصدق أحد أن الكفار قبل المسلمين يهبون منتفضين عندما أسيء إلى الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) وضج الشارع حتى كاد يتزلزل ووصل إلى الصين سخطاً على الاستهزاء بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الوقت الذي بقي فيه مهبط وحيه ودار هجرته وموطن سيرته العطرة صامتاً صمت القبور، أما من بقي فيه شيء من عزة أو بقية من غيرة فنطق بكلمة حق في شأن غزة أو حتى نصف كلمة حق مما يزعج فرعون وهامان وجنودهما، فالسجن موئله والتحقيق له بالمرصاد، وهذا ما حصل مع الشيخ الدكتور عوض القرني الذي كسر جدار الصمت وأفتى باستهداف المصالح (الإسرائيلية) في جميع أنحاء العالم، رداً على المجزرة التي ارتكبها الاحتلال (الإسرائيلي) وقال: «يجب أن يكونوا (الإسرائيليون) أهدافاً، وتسيل دماؤهم كما تسيل دماء إخواننا في فلسطين، ويجب أن يمسهم القرح أكثر مما مس إخواننا من القرح»، مضيفاً: «هذه فتوى أتحمل مسؤوليتها أمام الله تعالى». كما أكد أنه «لولا التخاذل العربي وضلوع بعض الحكومات العربية في هذه المؤامرة لما تجرأ الصهاينة على القيام بهذه المجزرة». وبُعيد إصدار هذه الفتوى التي تكاد تكون نادرة بين العلماء السعوديين احتجزت السلطات في 29/12/2009م هذا العالم واقتادته إلى الرياض لإخضاعه للتحقيق بشأن الفتوى التي أطلقها. ما هكذا أيها العلماء تورد الإبل، إنكم اليوم تقفون في الصف الأول قبل صف الحكام لتردوا الأذى عن (إسرائيل) وتمنعوا النصرة عن إخواننا، وما ذنب الكثير من شباب الإسلام الذين تنكبوا عن النصرة الحقيقية للدين ودعاته ممن قتله جهله أو قتله يأسه أو قتله جبنه إلا بأعناقكم وأنتم تتولون كبره. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عَرْفَ الجنة يوم القيامة» (صحيح ابن حبان). أما أنه لو وقف العلماء موقف الحق الذي يرضي الله لما استطاعت (إسرائيل) أن تسدر في غيها بهذه الوحشية، ولما استطاع حكام الضرار أن يمنعوا الصحوة من أن تصل مداها وتحقق مبتغاها. لكننا تعودنا عليهم لا ينسجون الفتوى إلا على مقياس حكامهم مهما ضاقت عليهم، ولا يتكلمون بكلمة أو يسكتون عنها إلا بما يرضيهم، رأيناهم وهم أهل محاربة البدع الذين يحرمون الاحتفال بذكرى المولد النبوي لأنه تشبه بالغرب ولم يفعله السلف الصالح، رأيناهم هم أنفسهم عندما ابتدع الملك عبد الله بدعة الاحتفال الوطني في 23 أيلول لم ينبسّوا ببنة شفة، علماً بأن هذا الأمر أيضاً لم يعمله السلف الصالح وفيه كل التشبه بالغرب، ما لكم كيف تحكمون! رأيناهم لم ينطقوا بكلمة إدانة لأميركا و(إسرائيل) في عدوانها على لبنان في تموز 2006م، رأيناهم كيف شرعوا الاستعانة بأميركا وحلفائها ضد إخواننا في العقيدة من أهل العراق في حرب الخليج الأولى، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «لأنا من غير الدّجّال أخوف عليكم من الدّجّال فقيل: وما ذلك؟ فقال: من الأئمة المضلّين» (رواه الحافظ بسند جيد)، رحم الله علماءنا الأفذاذ أمثال أبي حنيفة الذي سجن بسبب رفضه المشاركة في حكم فاسد. والإمام أحمد الذي ضرب وسجن بسبب قولة حق لم تعجب السلاطين. أو مالك الذي أوذي بسبب فتواه السياسية الجريئة (ليس لمستكره يمين) أو حطيط الزيات التابعي صاحب كلمة الحق عند سلطان جائر، إذ جيء به إلى الحجاج فلما دخل عليه قال: أنت حطيط؟ قال: نعم، سل عما بدا لك، فإني عاهدت الله -عند المقام- على ثلاث خصال: إن سُئلت لأصدقن، وإن ابتليت لأصبرنّ، وإن عوفيت لأشكرنّ، قال: فما تقول فيّ؟ قال: أقول إنك من أعداء الله في الأرض تنتهك المحارم وتقتل بالظنة. قال: فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان؟ قال: أقول: إنه أعظم جرماً منك، وإنما أنت خطيئة من خطاياه. قال: فقال الحجاج: ضعوا عليه العذاب، قال: فانتهى به العذاب إلى أن شقق له القصب، ثم جعلوه على لحمه وشدوه بالحبال، ثم جعلوا يمدون قصبة قصبة حتى انتحلوا لحمه، فما سمعوه يقول شيئاً. قال: فقيل للحجاج: إنه في آخر رمق فقال: أخرجوه فارموا به في السوق. قال جعفر: فأتيته أنا وصاحب له فقلنا له: يا حطيط ألك حاجة؟ قال: شربة ماء، فأتوه بشربة، ثم مات، وكان ابن ثمان عشرة سنة رحمة الله عليه. أولئك الذين صنعوا ويصنعون التغيير في كل عصر، ولولا وجود علماء حق كأمثال هؤلاء لافترق الناس بين متخبط ويائس.
إن غزة تنصر عندما ينصر علماؤنا الله ويتّقوه في أمتهم ويطلقون دعوة ربانية للتغيير، تغيير ما لا يتم النصر إلا به، ألا وهو تغيير هؤلاء الحكام الضرار الذين أهلكوا الحرث والنسل، ويدعون لتحريك جيوش النصرة تحت راية أمير الجهاد الذي يعقد له اللواء أمير المؤمنين الذي نقاتل من وارئه ونتقي به، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «… من أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد عبد من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً» (رواه أحمد بسند صحيح)، ويقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «إني أخاف على أمتي بعدي أعمالاً ثلاثة: زلة عالم، وحكم جائر، وهوًى متبع» (حسّنه الترمذي).
2009-02-04