العدد 263 -

العدد 263- السنة الثالثة والعشرون، ذو الحجة 1429هـ، الموافق كانون الاول 2008م

حمل الدعوة بين الوضوح والغموض

حمل الدعوة بين الوضوح والغموض

 

الدعوة هي فعل إمالة وترغيب، وتكون بلسان الحال كما بلسان المقال، أي تكون بالفعل كما بالقول، قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت 33] وقال: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) [الشورى 15] والدعوة تكون إلى الإسلام أي إلى مجموعة أفكار الإسلام وأحكامه، والحمل هو التبليغ، فيكون بذلك حمل الدعوة هو استمالة الناس وترغيبهم بأفكار الإسلام وأحكامه بالفعل والقول.

وحمل الدعوة هو عمل الأنبياء والرسل عليهم السلام ومن سار على دربهم واتبع هداهم ،قال تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) [الأحزاب 45-46] وقال: (يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [المائدة 67]، ولهذا كان حمل الدعوة أعظم عمل وأشرفه على الإطلاق، وهو واجب من أعظم الواجبات، فلا يتصور وجود للإسلام من غير دعوة تحمله وتنشره وتحافظ عليه، ولولا الدعوة لما انتشر الإسلام خارج الجزيرة، ولما شاع ذكر الإسلام حتى عم القارات الخمس، ومن هنا كانت الدعوة ركناً وأمراً حيوياً في الإسلام تماماً كالقلب بالنسبة للجسد.

لقد عبّرت النصوص الشرعية عن حمل الدعوة بكثير من الألفاظ والمعاني كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالتبليغ وبالنصيحة… وغيرها من الألفاظ الدالة على حمل الدعوة.

ويشمل حمل الدعوة ويستغرق الجميع، فيشمل الأفراد والأمة كما يشمل التكتلات والدولة، فهو فرض على الجميع. ففي حق الأفراد قال تعالى (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل 125] وقال عليه الصلاة والسلام: »لئن يهدي الله رجلاً على يديك خير لك مما طلعـت عليه الشـمس« وقال: «بلغـوا عني ولو آية» (رواه البخاري). وفي حـق الأمــة قــال تعــالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران] وقال (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة 71]. وفي حق التكتلات قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران 104]. وفي حق الدولة قال تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج 41] وقال عليه الصلاة والسلام »أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله» (رواه البخاري) بالإضافة إلى أفعال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بوصفه رئيساً للدولة من غزوات وفتوحات وبعث رسل إلى الملوك والرؤساء يدعوهم فيها إلى الإسلام، فهذه كلها تظهر بشكل واضح جلي أن عمل الدولة الإسلامية الأصلي هو حمل الدعوة.

لقد بيّن الشرع طريقة حمل الدعوة في قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل 125] ففي هذه الآية الكريمة بيّن الله سبحانه وتعالى طريقة دعوة الناس إلى الإسلام بثلاث طرق: الأولى بالحكمة وهي البرهان العقلي والحجة الدامغة والقول المقنع مما يؤثر بالنفوس؛ ولذلك نجد القرآن يخاطب العقول ويحثها، وأحياناً يستفزها للتدبر في آياته الكونية الدالة والموصلة للإيمان. والثانية هي الموعظة الحسنة وتعني التذكير الجميل بإثارة مشاعر الناس حين مخاطبة عقولهم وإثارة أفكارهم وذلك حتى يصاحب العمل حماساً له. والطريقة الثالثة هي الجدال بالتي هي أحسن، وتعني النقاش الذي يحصر بالفكرة، ويأخذ دور نقض الحجج الباطلة وبيان زيف الأفكار الفاسدة والمفاهيم المغلوطة والعقائد الباطلة، وقد وردت أساليب كثيرة من الجدل في القرآن الكريم.

وإنه وإن كان هناك من فرق بين الدعوة التي تحملها جماعة في أمة وبين الدعوة التي تحملها الدولة، فإنه تفريق من أجل معرفة نوع العمل الذي يجب القيام به. وكذلك وإن كان هناك من فرق بين الدعوة إلى الإسلام وبين الدعوة لاستئناف حياة إسلامية، فهو من أجل معرفة الغاية التي يسار إليها؛ إلا أن هناك كثيراً من الجوانب المشتركة بينها، وإن كان الضوء سيسلط هنا على الدعوة التي تحملها جماعة من أجل استئناف الحياة الإسلامية.

والمسألة ليست حمل دعوة فحسب، بل هي مسألة حمل دعوة من أجل غاية معينة بمواصفات معينة، ومن هذه المواصفات الوضوح: الوضوح في الغاية، وفي الفكرة، وفي الطريقة، وفي الأساليب… إلخ. والوضوح لغة من وضح الأمر إذا بان وظهر، فيقال: وضح الصبح إذا ظهر، ووضح الراكب إذا بدا وطلع، وأوضح فلان الأمر إذا أبانه وأظهره، والأواضح الأيام البيض، ويطلق على الشجة التي تبدي العظم الموضحة. هذا هو المعنى اللغوي للوضوح، وهو عكس الغموض، فالغامض من الأرض المنخفض منها، وغمض المكان أو الشيء إذا خفي، والغامض من الحسب غير المعروف، والغامض من الكلام خلاف الواضح.

والدعوة إلى الإسلام يجب أن تكون واضحة غير غامضة، قال تعالى (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف 108] فالدعوة يجب أن تكون على بصيرة، وكل التفاسير  المعتبرة تقول إن (بَصِيرَةٍ) تعني حجة واضحة غير عمياء… وحق ويقين… والمعرفة التي  يميز بها بين الحق والباطل، وهذا أيضاً ما تؤكده نصوص شرعية كثيرة تبين نوع البلاغ المطلوب، قال تعالى: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) [النور 54] وقال: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) [النحل 35] وقال: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) [النحل 82] وقال عليه الصلاة والسلام «نضر الله امرأً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (رواه الترمذي) فالبلاغ -كعمل من أعمال الدعوة- المطلوب إذاً هو الذي يبين عن معناه ويفهمه من أرسل إليه، أي هو البين الظاهر بالأدلة الواضحة  الذي يزال معه الشك والغموض، فالمبين هو الواضح ومنها قوله تعالى: (حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ) [الدخان 1-2]. وعليه فإن الدعوة المطلوبة يجب أن تكون واضحة وضوحاً يبعد عنها كل غموض ويزيل عنها كل إبهام، فهي أشبه بالمخطط الهندسي  الموضوع للتنفيذ، إذ يجب على جميع العاملين في المشروع فهم هذا المخطط فهماً دقيقاً واضحاً وإفهامه للأمة؛ لأنها بمثابة الأرض التي سيقام عليها المخطط. فلا يكفي أن تكون الدعوة واضحة عند القيادة دون الأتباع؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) ويسار في ذلك كما سار قدوتنا عليه الصلاة والسلام من خلال بناء جسم الجماعة وتثقيفها بالإسلام، عقيدة وأحكاماً، ثقافة مركزة صنعت منهم شخصيات إسلامية سامية لا نظير لها، أهلتهم لقيادة الأمة بل البشرية بعد التفاعل معها بالصراع الفكري والكفاح السياسي وذلك بشكل واضح جلي، فقد خاطب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس بحزم وثقة، وواجه الكفر بقوة وجرأة، وطرح دعوته متحدياً سافراً بشكل واضح المعالم محدد الألفاظ والمعاني لا مجال فيها للغموض، وليس للتردد فيها أثر ولا للخوف فيها تأثير، فقد سفه آلهتهم (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) وانتقد معاملاتهم الجارية (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين 1-3] وتصدى لأعمالهم التي يأباها العقل  السليم وتمجها الفطرة السليمة (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) [التكوير 8-9] وفضح زعامتهم وكبراءهم (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) [المسد 1]، وقال: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) [القلم 10-13] كما تصدى لليهود والنصارى وأجابهم عن أصحاب الكهف وقصة موسى عليه السلام وذي القرنين، وعن موقف اليهود من أنبيائهم  بشيء من التفصيل، وفند موقف النصارى من عيسى عليه السلام (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا) [مريم 88-89] فهل في هذه الآيات والمواقف شيء من الغموض أم أنها ناصعة واضحة ليلها كنهارها؟

وهكذا يجب على الجماعة التي تحمل الدعوة وتنشد التغيير أن تقتدي بصاحب القدوة، فتبني نفسها على أساس مبدئي إسلامي تكون الفكرة فيها نقية صافية مبلورة، والطريقة واضحة مستقيمة، والأساليب أيضا مباحة وواضحة، وحملة الدعوة من جنس الفكرة والطريقة في الوضوح والنقاء والصفاء، وإلا كان الفشل حليفهم والتقهقر والانكفاء مصيرهم، ولعل أحد أهم الأسباب التي أدت إلى فشل الحركات التي قامت لإنهاض الأمة يعود إلى الغموض وعدم الوضوح، فكانت تقوم على أفكار عامة غير محددة غامضة أو شبه غامضة، بالإضافة إلى سيرها بوسائل ارتجالية ملتوية.

إن للغموض آثاراً ونتائج سلبية على الدعوة لا تحمد عقباها، منها:

– تمييع أفكار الإسلام ومفاهيمه، فيمتزج الحق بالباطل، ويلتبس على الناس أمر دينهم، مثل المطالبة بالديمقراطية من أجل الوصول إلى الحكم بالإسلام، فتختلط أفكار الإسلام بغيرها من أفكار الكفر في أذهان الأمة. ورحم الله صاحب الظلال حين قال «إن حملة الدعوة يتميزون ولا يختلطون ولا يصطبغون بالمجتمع وما عليه من أدران يذهب صفاء فكرهم.» ويضيف: «وأصحاب دعوات الباطل يعلنون ويكشفون عن عناوينهم وواجهتهم ووجهتهم، فلماذا لا يكون أصحاب الدعوة الإسلامية واضحين متميزين؟ لأنهم لا يصلون إلى أهدافهم من خلال التميع والتدسس الناعم».

– إن الفكرة إذا كانت غامضة لن تهز الناس ولن تؤثر فيهم، بل ربما لا تلفت نظرهم، خاصة وأن إعطاء أفكار الإسلام لمعالجة مشاكل الحياة المعاصرة لا يمر بسهولة، بل يصطدم بعقول يائسة سطحية وبميول مختلطة متنوعة، ومن هنا كان لزاماً على حملة الدعوة أن يتعرفوا على جميع الأفكار والمعالجات والآراء والمفاهيم المخالفة للإسلام، وبيان زيفها وفسادها وكشف عوارها وبيان حكم الاسلام فيها بشكل واضح لا لبس فيه ولا غموض، كالوطنية، والاشتراكية، والديمقراطية، والقومية، والحريات، وحوار الأديان، والعولمة، وحقوق الإنسان، والعلمانية، وغيرها من الأفكار السائدة والبائدة، والتي تعج بها بلاد المسلمين كما كان يعج سوق عكاظ بالأشعار. حتى ولو كانت هذه الآراء والمواقف مستهجنة عند الناس، فإن نهج القرآن في الدعوة كان يقوم على التركيز على الأفكار المستهجنة والعقائد المستبعدة كالبعث والحساب والجنة والنار.

– إن الغموض يخدم أعداء الإسلام الذين يعملون ليل نهار لضرب الدعوة وتشويهها وإلصاق التهم بها، أو إدخال أفكارهم عليها بكل الوسائل والأساليب الماكرة والخبيثة؛ وذلك حتى يلبسوا على المسلمين أمر دينهم فلا يعودون يميزون بين الإسلام والكفر قال تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) [البقرة 217].

– إن الغموض يسهل ويمكن من إدخال أهداف أخرى تصرف عن تحقيق الهدف المنشود؛ فتتلهى الجماعة وأعضاؤها بأهداف جزئية لاتسمن ولا تغني من جوع.

– إن الجماعة التي تعجز عن إقامة الصورة الفكرية الواضحة لمشروعها في ذهنية أعضائها ومن ثم عند الأمة ستكون عند التطبيق أعجز، هذا إن وصلت إلى الحكم لأن فاقد الشيء لن يعطيه.

ولتجنب هذه المخاطر والآثار كان لابد من الوضوح في الدعوة وإلا كانت تشويهاً وتزويراً وتقوّلاً على الدين، قال تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) [الحاقة 44-46]، وهذا تحذير شديد من التلاعب بالدعوة بالتقول على الله ما لم يقل بإدخال حكم أو فكر في دين الله ليس منه، كما حذر رسوله (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [المائدة 49]، ويجب صياغة الأفكار بشكل محدد المعنى دون احتمال لأي فهم مغاير، والبعد عما يسمى باللغة الدبلوماسية لأنها لوثة غربية غريبة عن الإسلام وذوقه الصافي النقي.

إن حمل الدعوة يقتضي الجرأة والوضوح ولو خالف جمهور الناس وناقض عاداتهم وخالف تقاليدهم، فحامل الدعوة لا يتملق الشعب ولا يداهنه ولا يجامل ولا يعبأ بعادات الناس وتقاليدهم الفاسدة، وإنما يتمسك بفكرته ويحملها بشكل واضح محدد، فهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقبل من وفد ثقيف أن يدع لهم صنمهم ثلاث سنين لا يهدمه أو أن يعفيهم من الصلاة، وكذلك موقفه عليه الصلاة والسلام الواضح والمشهور «والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الامر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته» وذلك بعدما  عرضوا عليه المال والجاه والسلطان مقابل ترك الدعوة والتنازل عنها أو عن بعضها.

وحامل الدعوة يجب أن يكون كالدعوة التي يحملها في الوضوح والاستقامة، فالتلازم بين الدعوة وحاملها لازم والتجانس واجب، فيجب أن يكون صادق اللهجة فصيح اللسان لايعرف اللف ولا الدوران، ولا يخفي أنه حامل دعوة بل يجب أن يعرف الناس أنه من شباب الدعوة.

وحتى تصل  الجماعة إلى درجة البلاغ المبين والبصيرة في الدعوة يجب عليها أن تستعمل الوسائل والأساليب الكاشفة عن مرادها، وهذا يقتضي تقليب الوسائل والأساليب ودراستها بعمق واستنارة  لاختيار الأنجع والأفضل منها لنشر الفكرة.

فالأسلوب ليس شيئاً رخيصاً ولا هامشياً، إذ به تنشر الدعوة وتوضح الطريقة، وبحسن استخدامه تقاد الأمة، وبنجاح تنفيذه تبلغ الغاية المقصودة، كل ذلك شريطة أن يكون الأسلوب والوسيلة مشروعين، فلا يسار إلى غاية نبيلة بأساليب محرمة لأن الوسيلة إلى الحرام محرمة.

إن وضوح الدعوة وصفائها ونقائها هو الضمانة الوحيدة للنجاح ولاستمرارية النجاح. فالنصر يكون مع وضوح الدعوة، ولو رمي حملة الدعوة بكل ما في قاموس دول الضرار القذر من أوصاف جارحة أو نعوت قادحة، فالحق أحق أن يتبع، سيما ونحن في زمان سيطرة الكفار وأدواتهم من الحكام وجنودهم من علماء السوء على وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية، وقدرتهم على إلباس الباطل ثوب الحق والفساد ثوب الصلاح. وإذا سلك حملة الدعوة هذا الطريق الواضح فلينتظروا من الله سبحانه أن يحقق لهم وعده بالاستخلاف والتمكين، وينجز لهم نصره وهو القائل (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد 7].

أبو المأمون – فلسطين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *