أنزلوا الناس منازلهم
2009/06/28م
المقالات
3,585 زيارة
أنزلوا الناس منازلهم
يكتسب الإنسان مكانة اجتماعية أو علمية أو ثقافية أو غيرها، إما من نسب وحسب ومال أو جاه بأن كان متخرجاً من كبرى الجامعات، أو كان عالماً أو نابغاً في أحد المجالات العلمية أو الثقافية، أو نتيجة توليه لمنصب رفيع المستوى، أو نتيجة حدث ما استهوى قلوب الناس فتحدث به الركبان، أو كان ابن لأي واحد من هؤلاء فأصبح ابن الأكرمين، أو لمنقبة أو عدة مناقب أوصفات عظيمة كأن يكون نبياً أو رسولاً أو صدّيقاً أو صحابياً أو تقياً أو كان بطلاً أو أي صفة تجعله من أصحاب الصيت والسمعة مما يقدمه الناس ويحترمونه ويسودونه عليهم.
اعتاد الناس على تقديم كرام الناس على غيرهم ممن هم دونهم واحترامهم وتبجيلهم والتقرب إليهم وخطب ودهم وتكريمهم والسماع لهم والتنازل عن حقوقهم نزولاً عند رغبة الكرام، فهم مقدمون على غيرهم إذا ما ساروا في وجاهة لخطبة عروس، فكيف لو كانت لصاحب الجاه أو لأحد من ولده أو أقاربه، أو لإصلاح بين الناس؟ فطلباتهم مجابة وتشفّعهم مقبول وأمرهم مطاع وكلامهم مسموع وعثراتهم مقالة.
كان الناس قبل الإسلام، ولازال البعض، يعتبرون من له مال وولد كثير أو نسب رفيع هم أصحاب هيئات ومقامات وأصحاب وجاهات لاعتبارات عرقية و قبلية أو مادية، كأن يكون من لب قبيلة معروفة بالقوة و المال والولد، أو لهم ضياع وأموال كثيرة، فجاء الإسلام وهدم هذه الاعتبارات وجعل التقوى والقرب من الله ورسوله والاتصاف بصفات الإسلام العظيم والتجمل بأخلاقه والتقيد بأحكام الإسلام والقيام بالأعمال الصالحة هي التي تقربه من الله فتجعله عبداً متميزاً عن غيره. فكم من عبد أو فقير أصبح بالإسلام وبصحبة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وجيهاً قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات 13] وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنَّ مِنْ أَخْيَرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ خُلُقًا». (صحيح البخاري)، وعن أبي هريرة (رضي الله عنه): «سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مَنْ أكرمُ الناسِ؟ قال أتقاهُمْ للهِ. قالوا: ليس عن هذا نسألُكَ. قال: فأكرمُ الناسِ يوسفُ نبيُّ اللهِ ابنُ نبيِّ اللهِ ابنُ نبيِّ اللهِ ابنُ خليلِ اللهِ. قالوا: ليس عن هذا نسألُكَ. قال: فعن معادنِ العربِ تسألوني؟ الناسُ معادِنُ، خيارُهُمْ في الجاهليةِ خيارُهُمْ في الإسلامِ إذا فَقِهُوا»، وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم, فقالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): نزوج بناتنا موالينا؟ فأنزل الله عز وجل: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). كذلك قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لثابت حينما قال في الرجل الذي لم يتفسح له: ابن فلانة, فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَنِ الذاكرُ فلانةُ؟» قال ثابت: أنا يا رسول الله, فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «انظرْ في وجوهِ القومِ» فنظر فقال: «ما رأيتَ؟» قال رأيت أبيض وأسود وأحمر, فقال: «فإنك لا تفضُلُهم إلا بالتقوى». نعم إن الله ورسوله زجرهم عن التفاخر بالأنساب, والتكاثر بالأموال, والازدراء بالفقراء, وأكد أن الفضل لا يكون إلا بالتقوى. وقد أخرج الطبري في كتاب (آداب النفوس) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب بمنى في وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال: «أيها الناس، ألا إن ربَّكم واحدٌ وإن أباكم واحدٌ، ألا لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ ولا عجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأسودَ على أحمرَ ولا لأحمرَ على أسودَ، إلا بالتقوى، ألا هل بلَّغتَ؟ -قالوا: نعم قال- ليبلغ الشاهدُ الغائبَ». وفيه عن مالك الأشعري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن الله لا ينظرُ إلى أحسابِكُمْ ولا إلى أنسابِكُمْ ولا إلى أجسامِكُمْ ولا إلى أموالِكُمْ ولكن ينظُرُ إلى قلوبِكُمْ، فمن كان له قلبٌ صالحٌ تحنَّنَ اللهُ عليه، وإنما أنتم بنو آدم وأحبُّكُمْ إليه أتقاكُمْ».
ولقد فضل الله الصحابة الكرام (رضي الله عنه) على غيرهم من المسلمين، ذلك بأنهم صّدقوا الرسول وأيدوه ونصروه يوم تخلى الناس عنه، ويكفيهم مكانة أنهم أصحاب نبي الله ورسوله، حمَوه ونصروه حتى بلغ عن الله وحكم بشرعه، في المنشط والمكره والعسر واليسر، في السر والعلن، قبل الدولة وبعدها، قبل الفتح وبعده، قال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) [النساء 69] وقوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح 29] ويكفيهم فضلاً أن ذكرهم في القرآن وثناء الرسول لهم يتلى إلى يوم الدين، فعن سهل بن مالك عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «يا أيُّها الناسُ أحفظوني في أَخْتاني وأَصْهاري وأَصْحابي، لا يطالبنَّكم اللهُ بمظلِمَةِ أحدٍ منهم، فإنها ليست مما يوهب،يا أيها الناسُ ارفعوا ألسنتكم عن المسلمين؛ وإذا مات الرجل فلا تقفوا فيه إلا خيراً» أخرجه الخلعي والحافظ الدمشقي في معجمه، وعن عبد الرحيم بن زيد العمي قال: أخبرني أبي قال: أدركت أربعين شيخاً من التابعين كلهم حدثونا عن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «مَنْ أحبَّ جميعَ أصحابي وتولاَّهم و استغفَرَ لهم جعله اللهُ يومَ القيامةِ معهم في الجنة» أخرجه ابن عرفة العبدي. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أحبَّ أصحابي وأزواجي وأهلَ بيتي ولم يطعنْ في أحدٍ منهم وخرج من الدنيا على محبتهم، كان معي في درجتي يوم القيامة» أخرجه الملاء في سيرته. وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «اللهَ اللهَ في أصحابي، لا تتخذوهم غَرَضاً من بعدي، من أحبَّهم فقد أحبَّني، ومن أبغضَهم فقد أبغضني، ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله أوشك أن يأخذه» أخرجه المخلص الذهبي وأخرجه الحافظ أبو القاسم الدمشقي في معجمه. وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث إلى بني جذيمة بعثاً، فحصلت مشاجرة بعد الفتح فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فأمر خالد بقتلهم وقتل من أسر منهم، فخالفه عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمر وغيرهما، فاختصم خالد وعبد الرحمن بسبب ذلك، والذي في الصحيح عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ».
ولقد فضل الإسلام العاملين والمجتهدين في الطاعات وحملة الدعوة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر و العلماء وجعل لهم مكانة مميزة قال تعالى: (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ، قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر 9-10] وقوله: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر 17-18] وقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» رواه الشيخان والترمذي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم. وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «سيدُ الشهداءِ حمزةُ بنُ عبدِ المطَّلب ورجلٌ قام إلى إمامٍ ظالمٍ فأمره ونهاه فقتله» رواه الحاكم بسند صحيح.
والإسلام جعل المكانة للإنسان بالنسب، بنسبه إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلى الصحابة الأطهار إن كان تقياً، فان من قصر به عمله لم يسرع به نسبه، فقد روي أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) حين أراد وضع الديوان قال: بمن أبدأ؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف: إبدأ بنفسك، فقال عمر أذكرتني، حضرت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يبدأ ببني هاشم وبني المطلب، فبدأ بهم عمر، ثم بمن يليهم من قبائل قريش بطناً بعد بطن، حتى استوفى جميع قريش، ثم انتهى إلى الأنصار، فقال عمر: ابتدئوا برهط سعد بن معاذ من الأوس، ثم الأقرب فالأقرب لسعد. ويروى أن عمر قال في نقاشه مع أقاربه: «إن لي صاحبين سلكا طريقاً، فإن خالفتهما خولف بي، والله ما أدركنا الفضل في الدنيا، ولا نرجو الثواب في الآخرة على عملنا، إلا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو شرفنا، وقومه أشرف العرب، ثم الأقرب فالأقرب، ووالله لئن جاءت الأعاجم بعمل وجئنا بغير عمل، لهم أولى برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منا يوم القيامة، فإن من قصر به عمله لم يسرع به نسبه». ولما استقر ترتيب الناس في الديوان على تعدد النسب المتصل برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فضل بينهم في العطاء على قدر السابقة في الإسلام والقربى من الرسول الكريم. وكان أبو بكر يرى التسوية بينهم في العطاء ولا يرى التفاضل بالسابقة، وكذلك علي كرم الله وجهه وبه أخذ الشافعي ومالك، وكان رأي عمر التفضيل بالسابقة في الدين، وكذلك كان رأي عثمان من بعده، وبه أخذ أحمد وأبو حنيفة وفقهاء العراق، وقد ناظر عمر أبا بكر حين سوى بين الناس، فقال أتسوي بين من هاجر الهجرتين وصلى القبلتين، ومن أسلم عام الفتح خوف السيف؟ فقال له أبو بكر: إنما عملوا لله وأجورهم على الله، وإنما الدنيا دار بلاغ، فقال عمر: لا أجعل من قاتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كمن قاتل معه، فلما وضع الديوان فضل بالسابقة، وفرض للناس على منازلهم وقراءتهم القرآن وجهادهم في سبيل الله. ويروى أنه حضر بعض الناس باب عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وفيهم سهيل بن عمرو، وأبو سفيان بن الحارث، وبعض الشيوخ، فخرج آذن عمر فجعل يأذن لأهل بدر، لصهيب وبلال وأهل بدر، وكان يحبهم وكان قد أوصى بهم، فقال أبو سفيان بن الحارث: ما رأيت كاليوم، أنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا، فقال سهيل بن عمرو: أيها القوم! قد أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضاباً فاغضبوا على أنفسكم، دعي القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم، أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشّد عليكم فوتاً من بابكم هذا الذي تتنافسون عليه، أيها القوم! إن هؤلاء قد سبقوكم بما ترون ولا سبيل لكم إلى ما سبقوكم إليه، فانظروا هذا الجهاد فالزموه عسى أن يرزقكم الله الشهادة.
فالمؤمن المقدَّم هو من اتصف بالتقوى والأعمال الصالحة، وكان كريم النسب والحسب يتقي الله في كل عمل، ويكون عالي الهمة والهامة، قوياً في نصرة الإسلام بإعلاء رايته وحمل دعوته والصدع بالحق لا يخشى في الله لومة لائم، شامخاً متحدياً الدنيا، طالباً رضا الله، متواضعاً لإخوانه، قانعاً بما آتاه الله من المال الحلال والحسب والنسب، مؤمناً بأن كل شيء هالك إلا وجه الله تعالى، وأنه لن يغني عنه ماله إذا تردى ولن يدخل به الجنة أو بولده أو حسبه أو نسبه أو سلطانه إلا إذا سخّر كل هذا في سبيل مرضاة الله وإعلاء كلمته قال تعالى: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) [الحاقة 28-29] أي لم يدفع عني مالي ولا جاهي عذاب الله وبأسه، بل خلص الأمر إليَّ وحدي فلا معين لي ولا مجير. وقال تعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء 88-89]. فلا المال ينفع صاحبه ولا الولد ولا الوالد ولا الزوج لزوجته ولا الزوجة لزوجها، لا ينفع إلا العمل الصالح هذا الذي سيقابل به الله. فالمال والجاه والولد والحسب والنسب والسلطان سيكون عبئاً على صاحبه يوم الدين إن لم يحسن استخدامها وتوظيفها في مرضاة الله ونصرة هذا الدين القويم وحمل رسالته والذود عن حياضه، وسيسأل عنها ويحاسب عليها وستكون عبئاً وندامةً على المفرطين والمستهترين والمتخاذلين والمضيعين لها طاعة للشيطان ومعصية للرحمن واتباعاً لأهوائه وشهواته. وأما من اتقى الله و وفّى وسخر ما أعطاه الله إياه من جاه ومال وسلطان وعز في خدمة هذا الدين، وكان صادقاً مخلصاً فإن الجنة هي المأوى، نعم الجنة لمن وفّى وكان من السبّاقين العاملين لهذا الدين لقول الله تعالى: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا) [الحديد 10] أكثر المفسرين على أن المراد بالفتح فتح مكة. وقال الشعبي والزهري: فتح الحديبية. قال قتادة: كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر, ونفقتان إحداها أفضل من الأخرى, كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك، وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم, لأن حاجة الناس كانت أكثر لضعف الإسلام, وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق والأجر على قدر المشقة والنصب. و ينبغي أن يقدم أهل الفضل والعزم, وقال الكلبي: نزلت في أبي بكر (رضي الله عنه), ففيها دليل واضح على تفضيل أبي بكر (رضي الله عنه) وتقديمه, لأنه أول من أسلم و أول من أنفق على نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وعن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال: كنت عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعنده أبو بكر، وعليه عباءة قد خللها في صدره بخلال، فنـزل جبريل فقال: يا نبيَّ اللهِ! ما لي أرى أبا بكر عليه عباءةٌ قد خلَّلها في صدرِهِ بِخِلال؟ فقال: «قد أنفق عليَّ مالَه قبل الفتح» قال: فإن الله يقول لك: اقرأ على أبي بكر السلام، وقل له أراضٍ أنت في فقرِكَ هذا أم ساخطٌ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «يا أبا بكرٍ، إن اللهَ عزَّ وجلَ يقرأُ عليكَ السلامَ ويقولُ أراضٍ أنت في فقرِكَ هذا أم ساخِطٌ؟» فقال أبو بكر: أأسخَطُ على ربي؟ إني عن ربي لراضٍ! إني عن ربي لراضٍ! إني عن ربي لراضٍ! قال: «فإن اللهَ يقولُ لك قد رضيتُ عنْكَ كما أنتَ عنِّي راضٍ» فبكى أبو بكر، فقال جبريل عليه السلام: والذي بعثَكَ يا محمدُ بالحق, لقد تخلَّلَتْ حملةُ العرشِ بالعَبِيِّ منذ تخلَّلَ صاحبُك هذا بالعباءةِ. ولهذا قدمته الصحابة على أنفسهم, وأقروا له بالتقدم والسبق. وقال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)… فلو أوتى برجل فضلني على أبي بكر إلا جلدته حد المفتري ثمانين جلدة وطرح الشهادة. فنال المتقدمون من المشقة أكثر مما نال من بعدهم, وكانت بصائرهم أيضاً أنفذ ومكانتهم أكرم وأعز وكانوا يقدرونهم ويوقرونهم ويبجلونهم ويحترمونهم لأجل هذا.
قالت عائشة (رضي الله عنهما): أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ننـزل الناس منازلهم. وأعظم المنازل مرتبة الصلاة. وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم) في مرضه: «مُرُوا أبا بكرٍ فليصلِّ بالناسِ» الحديث. وقال: «يؤُمُّ القومَ أقرؤُهُمْ لكتابِ الله» وقال: «وليؤمكما أكبركما» وفهم منه البخاري وغيره من العلماء أنه أراد كبر المنـزلة, وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «… لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الأَحْلامِ وَالنُّهَى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ…» أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه، أي صاحب العقل الناهي عن القبائح، أي ليدنُ مني البالغون العقلاء لشرفهم ومزيد تفطنهم وتيقظهم وضبطهم لصلاته، وإن حدث به عارض يخلفوه في الإمامة «… ثُمَّ الّذِينَ يَلُونَهُمْ…» قال النووي: في هذا الحديث تقديم الأفضل فالأفضل إلى الإمام لأنه أولى بالإكرام كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «الوَلاَءُ لِلْكِبَرِ» ولم يعن كبر السن. وقد قال مالك وغيره: إن للسن حقاً. وراعاه الشافعي وأبو حنيفة وهو أحق بالمراعاة, لأنه إذا اجتمع العلماء والسن في خيرين قدم العلم, وفي الآثار: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه». ومن الحديث الثابت في الأفراد: «ما أكرَمَ شابٌ شيخاً لسنِّهِ إلا قيَّضَ اللهُ له عند سنِّه من يكرِمُه». وقد روي أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يجلس أبا بكر عن يمينه وعمر عن يساره وعثمان وعلي وعبد الرحمن ابن عوف أمامه، ثم البدريين، ثم الذين يلونهم، ولم يكن هذا الإدناء من الرسول الكريم ولا ترتيب محبته لهم مبنيّاً على الهوى، فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيّ يوحى. فحبه للمهاجرين والأنصار والبدريين وأصحاب بيعة الرضوان مكانتهم عنده في الإسلام والمتأخرون واللاحقون إن كانوا مثلهم سّباقين لفعل الخيرات والصالحات, وعدهم الله جميعاً الجنة مع تفاوت الدرجات إن كانوا علماء أو حملة للدعوة أتقياء أنقياء أصحاب فضل في الإسلام، ولهم قدم صدق في حمل الدعوة، وضحوا بالكثير من وقتهم وحياتهم وأعمالهم على حساب أهليهم وأبنائهم ووظائفهم وأموالهم.
هؤلاء هم الذين يجب أن ننـزلهم منازلهم التي يستحقونها: نحترمهم ونبجلهم ونكرمهم ونحييهم ونستقبلهم بحفاوة واحترام، لا الزعامات العميلة المأجورة، وأصحاب الأموال المشبوهة والمحرمة، أو مناصب الشر من حكام ووزراء. علينا أن نكرم الكريم ونحترم المحترم ونوقر صاحب القدر في الإسلام.
ونوالي الصالحين ولا نعاديهم، فالحذر الحذر من إيذاء الصالحين. فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: « إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ…» أخرجه البخاري. فبيَّن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه من عادى ولياً لله فقد بارز الله بالمحاربة. وفي حديث آخر «إني لأَثْأَرُ لأوليائي كَمَا يَثْأَرُ اللَّيْثُ الحرب» أي: أخذ ثأرهم ممن عاداهم كما يأخذ الليث الحرب ثأره، وهذا لأن أولياء الله هم الذين آمنوا به ووالوه فأحبوا ما يحب وأبغضوا ما يبغض، ورضوا بما يرضى وسخطوا بما يسخط، وأمروا بما أمر، ونهوا عما نهى، وأعطوا لمن يحب أن يعطي ومنعوا من يحب أن يمنع، قال تعالى: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس 62].
2009-06-28