العدد 269 -

العدد 269- السنة الثالثة والعشرون، جمادى الآخرة 1430هـ، الموافق حزيران 2009م

صرخة: ضع بصمتك

صرخة:

ضع بصمتك

 

عباد الله

عندما نرى واقع أمتنا المرير وانحدارها السريع…

عندما نتأمل حالها وما آل إليه أمرها من ذل وهوان وتخبط وضياع…

وعندما نراها تُقاد بعد أن كانت تقود…

عند ذلك يعترينا الألم وتعتصرنا الحسرة لوضعها البائس، ونعلم أننا لن تبرأ ذمتنا وتعتق رقابنا من ميتةٍ جاهليةٍ إن لم نعمل جاهدين للتغيير تغييراً شرعياً صحيحاً…

إن هذه الأمة التي أرادها الله أن تقود الأمم الأخرى، وتحمل لها الرسالة، وتوجه العالم لتنقله من الظلمات إلى النور… نراها اليوم ممزقة مغلوبة ذليلة مقلدة تلهث وراء الأمم الكافرة… واقع مخزي يحرك شعور الإيمان ونخوة الإسلام في كل مسلم ليرفض ما أراده له الكفار، ويسعى لأن تتبوأ أمته المنـزلة التي أرادها الله له ولأمته بحيث تكون واسطة العقد وقائدة الأمم. قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة 143].

عباد الله

اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل، والله سائلنا عمّا استرعانا واستخلفنا فيه، فما الذي سنتركه من أثر بعد رحيلنا؟ وأين هو ما غيرناه في هذه الحياة الدنيا؟ هل حاولنا أن نغذ السير نحو التغيير الجذري لنرتقي بهذه الأمة؟ هل بلّغنا رسالة ربنا بالطريقة التي أمرنا بها الله عز وجل؟… فلنعد لأمتنا نبضها، وليترك كل مسلم منا بصمته المميزة له في تغييرها، وليخلف وراءه أثراً باقياً يذكر فيه عند ربه وعند أمته…

ولو تأملنا في سِيَر سلفنا الصالح لرأينا أن أهدافهم كانت متجددة، فكلما وصلوا إلى هدف طمحوا إلى غيره إلى أن وصلوا إلى القمة وانتهت رحلتهم هناك، لكن بقيت آثارهم وما غيروه شاهداً لهم حتى يومنا هذا… لقد كانت الغاية عظيمة (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات 56] ونصرة الإسلام لا تفارق مخيلتهم، فهذا الحسن البصري رحمه الله يقول: «أرى الإسلام يوم القيامة ينظر في وجوه الناس ويقول: هذا نصرني، وهذا خذلني، هذا نصرني، وهذا خذلني… حتى يرى عمر بن الخطاب فيأخذ بيده ويقول: يا رب لقد كنت غريباً حتى أسلم هذا الرجل».

هذا هو الفاروق عمر (رضي الله عنه) ، ترك الدنيا وراءه وقد عمّرها بالعدل والحق… وشهدت له البشرية جمعاء بالخيرية، يقف الإسلام شاهداً على بصمته وأعماله ومواقفه للإسلام ونصرة أهله، وكفى بالله شهيداً.

عباد الله

ما ظنكم بالموقف يوم الحشر، إنه موقف كربٍ وذلٍ يثير الفزع الأكبر… ما ظنكم بمن يؤخذ بناصيته ويقاد، وفؤاده مضطرب، ولبه طائر، وفرائصه ترتعد، وجوارحه تنتفض، ولونه متغير، ولسانه وشفتاه قد نشفا، وقد عضّ على يديه، وضاقت عليه أرض المحشر كأضيق من سَمّ الخياط، مملوء من الرعب والخجل من علاّم الغيوب، وقد أُتِيَ به يتخطى رقاب الناس ويخترق الصفوف، يُقاد كما يُقاد الفرس المجنوب، وقد رفع الخلائق إليه أبصارهم حتى انتهِيَ به إلى عرش الرحمن، فرموه من أيديهم، وناداه الموحد الديان فدنا بقلب محزون خائف وجل، وطرف خاشع ذليل، وفؤاد متحطم متكسر، وأعطي كتابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فكم من حكم بما أنزل الله عُطّل وهو ساكت عنه فتذكّره، وكم من منكر رآه فلم ينكره، وسفيان الثوري رحمه الله تعالى يقول: «إني لأرى المنكر فلا أتكلم، فأبول دماً»، رحمه الله تعالى، اشتغل بإنكار المنكر واهتم له، فصاحبه في أكله وشربه ونومه وقعوده وفي كل شؤونه؛ حتى بال الدم من شدة الهَمِّ والغَمِّ لوجود هذا المنكر من غير إنكار. وكم من صرخة “وامعتصماه” خرجت من أفواه نساء المسلمين في فلسطين والعراق ولبنان وأفغانستان والشيشان فكان عنها أعمى وأصم، وكم من أعراضٍ انتهكت تحت سمعه وبصره فلم يفكر في نصرتها، وقال لا أرى لا أسمع لا أتكلم، وكم وكم وكم… فليت شعري بأي قدم يقف بين يدي الله، وبأي لسان يجيب، وبأي قلب يعقل ما يقول، وبأي يد يتناول كتابه، قال تعالى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا ءَاتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا، لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا، وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا).

عباد الله

ما كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أن يفر منه الشيطان لولا جرأته في قول الحق ولو كان مراً…

وما كان لصهيب الرومي (رضي الله عنه) أن ينال وسام قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) له: «ربح البيع أبا يحيى» لولا تضحيات جمة عظيمة.

وما كان لسمية (رضي الله عنهما) أن تشم رائحة الجنة لولا ثباتها على الحق في وجوه الظلمة.

وما كان لأنس بن النضر (رضي الله عنه) أن يبرَّ الله بقسمه لولا ثباته على تقطيع قريش لجسده الطاهر.

وما كان بلال (رضي الله عنه) لينال شرف السيادة في قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «بلال سيدنا» لولا صبره على رمضاء حمها أذاب ظهره.

وما كان لسعد بن معاذ (رضي الله عنه) أن يهتز عرش الرحمن لموته، لولا نصرته لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأنه سيد الأنصار، قال الله عز وجل: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد 7].

من بعد كل ذلك الخير انطبق على الأمة قول ربها عز وجل: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا، إِلَّا مَنْ تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا) [مريم 59-60]، نعم خلف ضاع الدين معهم، وتم الاحتكام إلى غير شرع الله فيهم… خلف تفرقت جماعتهم، ومزقت بلادهم، وعطل الجهاد فيهم، وعربد الكافر في بلادهم وصال وجال. وما استأسد البغل إلا لما خبت رؤوس الضياغم، لقد عاث في الأرض فساداً وتقتيلاً وسام المسلمين سوء العذاب… وضاعت بيت المقدس وأفغانستان وكشمير والشيشان والعراق والصومال، ولا ندري أين المصيبة ستكون غداً.

ولكن بقي من بين هذا الخلف شباب تتوقد عزيمتهم للأمجاد والانتصارات، وتتوق نفوسهم لرضى الرحمن وللفوز بالجنان، يريدون أن يضعوا بصمتهم بتحرير الأمة من هيمنة شرعة الطاغوت والانعتاق من ربقة الكافر المستعمر… يريدون أن يحكموا المسلمين بالإسلام وأن يحملوه منارة هدى للعالم كافة… فهؤلاء نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكونوا عنده من الذين ينطبق عليهم ما ذكرته الآية الكريمة من بعد ذكر الخلف: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا).

عباد الله

أنتم لستم شعباً يتيماً، بل أنتم جزء عريق كريم من أمة عظيمة كريمة، هي خير أمة أُخرجت للناس، وهي أمة قادرة على التحرير وعلى ما فوق التحرير، قادرة على تحقيق السعادة للبشرية جمعاء من خلال مبدأ الإسلام العظيم. فاعملوا لتحقيق وعد الله تعالى وبشرى رسوله الكريم «ثم تكون خلافة على منهاج النبوة»، فإن خليفة المسلمين هو الذي سيقود جحافل الفتح والتحرير قريباً بإذن الله تعالى وسيضع بصمة الأمة على سطح الأرض برّها وبحرها ومشارقها ومغاربها.

فكن أخي المسلم ممن يضعون بصماتهم في تغيير هذه الحقبة الزمنية العسيرة، وليسبق عملك فكر واع على الأحكام الشرعية، ووعي سياسي يرعى شؤون الأمة كي لا يقطف ثمار بصماتك أعداء الأمة، وانفض عنك أخي المسلم غبار اليأس، وثق بأنك إن كنت مع الله كان الله معك: قال تعالى: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) [الحج 40] واخلع عنك رداء الشهوات، واعلم أن مصلحتك الحقيقية هي بالتضحية في سبيل الله. وأقلع عن كل تبعية لأي فكر غير الفكر الإسلامي، وتحدَّ أفكار الكفر ولا تسكت، قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام 153]. لا تبقَ وحيداً في عملك، بل لابد أن تضع يدك بيد الفئة المؤمنة العاملة للعمل معاً، فالعمل الفردي لا ينتج، قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف 28]. والعمل لا يكون لأجل العمل فقط، بل لأجل تحقيق غاية واضحة محددة وهي إعادة الإسلام إلى واقع الحياة.

فاختر لنفسك أخي المسلم، إما أن تعيش بلا معنى أو غاية، وتكون مجرد زيادة عدد في هذه الدنيا، ليس لديك هدف ولا إنجاز، فتذهب عنها وكأنك لم تكن، أو تعيش لهدف سام وغاية نبيلة، تسعى لاستئناف الحياة الإسلامية من جديد بإقامة دولة الخلافة الإسلامية، فتكون كعمر وسعد وخالد وصلاح الدين أولئك الأخيار الأبرار الذين حُفرت بصماتهم في تاريخنا حفراً إلى يوم الدين، وعندها إن مت تكن آثارك بيّنة وبصمتك واضحة وسيرتك محمودة عطرة تتخللها رحمة يرسلها إليك داعٍ لك ممن يذكرك وأنت تحت التراب، وقد انقطع عملك وصرت بين يدي الله عز وجل يسألك عن شبابك فيما أضعته وعمرك فيما أفنيته… وقل اعملوا وتيقنوا فلسوف يحصُدُ من بَذَرَ.

قال تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة 105].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *