العدد 269 -

العدد 269- السنة الثالثة والعشرون، جمادى الآخرة 1430هـ، الموافق حزيران 2009م

العلماء بين الأمس واليوم

العلماء بين الأمس واليوم

 

موسى الهدار

الحمد لله القائل: يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم منكم درجات، الحمد لله الذي خلق القلم وعلم الإنسان ما لم يعلم وفضله على سائر مخلوقاته بالعقل والعلم، الحمد لله الذي علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فكرمه عليهم بالعلم عندما قالت الملائكة: (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة 32]، والصلاة والسلام على النبي الأميّ الذي علم المتعلمين والذي أول ما أوحي إليه كان (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) [العلق 1-2]، القائل: «إذا مررتم بحلق العلم فارتعوا».

الناس بلا علماء جهال تتخطفهم شياطين الإنس والجن من كل حدب وصوب، وتعسف بهم الضلالات والأهواء من كل جانب. من هنا كان العلماء من نعم الله تعالى على أهل الأرض، فهم مصابيح الدجى وأئمة الهدى وحجة الله في أرضه، بهم تمحق الضلالة وتنقشع غيوم الشك من القلوب والنفوس، فهم غيض الشيطان وركيزة الإيمان وقوام الأمة، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء يُهتدى بها في ظلمات الحياة في البر والبحر. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنَّ مَثَلَ الْعُلَمَاءِ فِي الأَرْضِ كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَإِذَا انْطَمَسَتْ النُّجُومُ أَوْشَكَ أَنْ تَضِلَّ الْهُدَاةُ» (أخرجه أحمد)، هم ورثة الأنبياء قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «… وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ…» (رواه الترمذي). وقد فضل الرسول عليه الصلاة والسلام العالم على العابد حيث قال، «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ» (رواه الترمذي).

كل هذا الفضل هو للعلماء العاملين، الجريئين في الحق، المحبين للخير، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، المحاسبين للحكام الناصحين لهم، والساهرين على مصالح المسلمين المهتمين بأمور الأمة المتحملين كل أذى ومشقة في هذا السبيل.

نعم كل هذا الإكرام هو للعلماء الذين يحرسون الإسلام، الأمناء على دين الله، الداعين إلى تطبيقه بلسان صدق، وجنان ثابت، الذين اتصفوا بخلق المرسلين، الذين أدركوا معنى قوله سبحانه وتعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران 187] فكانوا لا يسكتون عن حق ولا يرضون بظلم، لسان حالهم يقول: الساكت عن الحق شيطان أخرس.

لقد بنوا علمهم على أساس الإسلام فكانوا علماء دنيا ودين، فسادوا الدنيا بعلمهم فبرعوا في كل مجالات العلوم في الفلك والكيمياء والفيزياء الجبر والحساب والطب وعلم الطيران والبصريات، وبرز منهم علماء أمثال أبي حنيفة والرازي وابن الهيثم وجابر بن حيان وغيرهم الكثير الكثير ممن لا يتسع المجال لذكرهم، وأريد أن أسرد لكم مقارنة بين علماء السلف الصالح ونظرتهم للعلم والعلماء، ومحاسبتهم للحكام وبين علماء اليوم ورضوخهم للذل والهوان والرضى بما عليه الحكام، قال الإمام علي كرم الله وجه ورضي عنه: «قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك، فالجاهل يغر الناس بتنسكه والعالم بتهتكه».

يقول الإمام حجة الإسلام الغزالي: العلماء ثلاثة، إما مهلك نفسه وغيره، وهم المصرحون بطلب الدنيا المقبلون عليها، وإما مسعد نفسه وغيره وهم الداعون الخلق إلى الله ظاهراً وباطناً، وإما مسعد غيره ومهلك نفسه، وهو الذي يدعو إلى الآخرة وقد رفض الدنيا في ظاهره، وقصدُه في الباطن قَبولُ الخَلق وإقامة الجاه.

وليعلم علماء اليوم أن التبعة الكبرى في كل فساد يظهر في البلاد الإسلامية تقع على عاتق العلماء، وهم من الأسباب الرئيسية في فساد الأوضاع.

يا معشرَ القرّاء يا ملحَ البلدْ                            ما يُصلح الملحَ إذا الملحُ فَسَدْ

والأصل في علماء اليوم أن يسيروا على نهج علماء السلف الصالح، وأن لا يبيعوا دينهم بدنيا غيرهم، وأن يكونوا عوناً لأمتهم لا سيفاً مسلطاً على رقبتها، وإليكم بعض الأمثلة من أولئك العلماء الذين تخرجوا من مدرسة النبي الأكرم سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، حيث وقف ابن الخطاب يوماً خطيباً قائلاً: من رأى منكم فيَّ اعوجاجاً فليقومه، فقام أعرابي من وسط المسجد وقال: والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا، فقال عمر (رضي الله عنه): «الحمد لله الذي جعل في أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من يقوم اعوجاج عمر بسيفه». هؤلاء فهموا أن المحاسبة فرض على أمة الإسلام وقالوا: لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نسمعها.

وهذا العز بن عبد السلام سلطان العلماء، يُعزل من خطابة جامع دمشق من قبل الملك الصالح إسماعيل على أثر محاسبة العز له بعد حادثة الخيانة المشهورة، لأن العز لم يرضَ أن تدنس قدسية منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمداهنة والسكوت عن الحق، فكان جزاؤه أن عزل وحبس، فما بال علماء اليوم يرون ويسمعون بطائرات الكفار تضرب أهلنا في العراق وهم لا ينكرون ذلك، بل أفظع من ذلك يفتون بجواز الاستعانة بهؤلاء الكفار وهم يعلمون أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إنا لا نستعين بمشرك… ما بال علماء اليوم يفتون بعدم جواز قيام مظاهرات ومسيرات لنصرة آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وأبنائهم الذين يقتلون بغزة شر قتلة بحجة الأمن، ذلك الأمن المزيف القائم على عدم طاعة الله ورضاه. على علماء اليوم أن يتعلموا من الفضيل بن عياض، حيث دخل عليه هارون الرشيد ووزيره الفضل بن الربيع ذات ليلة، فإذا هو قائم يصلي في غرفته وهو يقرأ قوله تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [الجاثية 21]، فقال الرشيد: إن انتفعنا بشيء فبهذه، يقول ابن الربيع، فقرعت الباب، فقال الفضيل: من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فقال: مالي ولأمير المؤمنين. قلت: سبحان الله، أما عليك طاعته؟ فقال الفضيل: أوليس قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «أنه ليس للمؤمن أن يذل نفسه» فنـزل وفتح الباب، ثم ارتقى الغرفة فأطفأ السراج ثم التجأ إلى زاوية من زوايا الغرفة، فجعلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت كف الرشيد كفي إليه، فقال أواه من كف ما ألينها إن نجت من عذاب الله، قال الربيع: فقلت في نفسي ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب تقي، قال الرشيد: خذ فيما جئناك له، يرحمك الله، فقال الفضيل بن عياض: وفيما جئت وقد حملت نفسك ذنوب الرعية، وجميع من معك من بطانتك وولاتك تضاف ذنوبهم إليك يوم القيامة، فبك بغوا، وبك جاروا، وهم مع هذا أبغض الناس لك وأسرعهم فراراً منك يوم الحساب، حتى لو سألتهم عند انكشاف الغطاء عنك وعنهم أن يحملوا عنك قسطاً من ذنب ما فعلوه، وسيكون أشدهم حباً لك أشدهم هرباً منك. ثم قال: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب ورجاء بن حياة، وهم ثلاثة من العلماء الصالحين، فقال لهم: إني قد  ابتليت بهذا البلاء فأشيروا علي، فعد الخلافة بلاءً وعددتها أنت وأصحابك نعمة.

فقال له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فصم عن الدنيا وليكن إفطارك عليها الموت.

وقال محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أباً وأوسطهم أخاً وأصغرهم ابناً، فوقر أباك وأكرم أخاك وتحنن على ولدك.

وقال رجاء بن حياة: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فأحبَّ للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إن شئت.

وإني أقول لك: يا هارون، إني أخاف أشد الخوف يوماً تزل فيه الأقدام، فبكى هارون.

قال ابن الربيع: فقلت: ارفق بأمير المؤمنين، فقال: تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا.

ثم قال: يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه فافعل، وإياك أن تصبح أو تمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة» فبكى هارون الرشيد.

هكذا تكون المحاسبة من قبل العلماء للحكام الذين يطبقون أحكام الإسلام، ولم يتآمروا مع أعداء الإسلام على أمة الإسلام، ولم يخونوا أمتهم، بل كانوا أحرص الناس على مصالح المسلمين والذين كان يقول أمثلهم: «والله، لو أن بغلة عثرت في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها يوم القيامة» فكيف بهؤلاء العلماء لو عاشوا في هذا الزمان الذي أصبحت الخيانة فيه حكمة، والتنازل عن أرض المسلمين حسن دراية وتدبير، والسكوت عن تدنيس مقدسات الإسلام حلماً وأناة.

فيا علماء هذا الزمان إن الله شرفكم بهذا الاسم فكونوا حقاً أهلاً لهذا الشرف، كونوا عوناً لأمتكم، علموها الحلال والحرام، بينوا لها أن أعمال هؤلاء الحكام خيانة لله ورسوله، وأنه يجب على الأمة إزالة أنظمتهم وإقامة دولة الخلافة التي تحكم بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) التي تذود عن المسلمين، وتحافظ على مقدراتهم، وتصون أعراضهم، وتجاهد بهم عدوهم، فتحرر فلسطين والعراق والشيشان وأفغانستان وكشمير… فلا تبقي أثراً للكفار في أرض المسلمين. عندها ستكتب أسماؤكم بأحرف من ذهب على صحائف من نور، وتخلد أسماؤكم في تاريخ الأمة العريق.

إن علماء اليوم، يقع على كاهلهم عبء العلم والعمل لتصحيح أوضاع المسلمين كافة، وإقامة الدين على طريقته الصحيحة. وإن مكانهم في مواجهة الحكام الذين يمنعون المسلمين من خير الحكم بما أنزل الله، بل يحاربون ويشوهون صورة المسلمين العاملين ويرمونهم بمختلف الأوصاف التي أطلقها الغرب الكافر عليهم. وليس مكانهم إلى جانب هؤلاء الحكام يزيّنون لهم باطلهم، ويزيّفون الحقائق، ويقلبون المفاهيم. فبئس العلماء هم العلماء الذين يجلسون إلى جانب هؤلاء الحكام. ونعم العلماء هم من ناوأهم وعمل على تغييرهم بعلم شرعي صحيح وبطريقة شرعية صحيحة.

نسأل الله أن يعلمنا ما جهلنا وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعل في الأمة علماء يخشون الله، ولا يخشون أحداً في الله، وأن يكونوا في مقدمة الصفوف، ألسنتهم لا ترضي إلا الله، وأسنتهم لا تتحول إلا إلى صدور أعداء الله. إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *