الوضع السياسي في تركيا
2016/09/27م
المقالات
2,080 زيارة
الوضع السياسي في تركيا
بقلم: أحمد سيف الإسلام
22/01/98
المقال التالي يلقي ضوءاً على السياسة الداخلية والسياسة الخارجية للدول في تركيا. الجيش هو صاحب السلطة سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية. ويحاول هذا الجيش تصفية العصابات التي تشاركه النفوذ، ويقوم بالإجراءات الدستورية التي تبقي قبضته على السلطة. ويركز على محاربة الإسلام. ويهتم بتجارة المخدرات التي يجني منها عشرات المليارات من الدولارات.
وفي السياسة الخارجية يحلل المقال العلاقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي الذي رفض عضوية تركيا، كما يحلل العلاقة التركية الأميركية، والتركية الروسية، والتركية الإسرائيلية. ويخلص إلى أن تركيا تعيش فراغاً في القيادة السياسية.
أ – السياسة الداخلية:
تجري الأحداث السياسية في البلاد كنتيجة طبيعية للصراع الدائر على السلطة، وهذا الصراع تحوَّل إلى صراع (عِصَابات). وبحكم تمَتُّعِ الجيش بكافة الإمكانات المادية فإنه يقوم بما يلي:
1- تصفية وإنهاء شبكة العصابات: لهذا الغرض يعمل الجيش على استغلال حادث الـ (صوصور لوك) لحسابه. وبما أنه قام بالحادث فإنه يتحاشى كشف كل المعلومات الخاصة بالحادث، كما أنه يقوم بتغطية فضائح العسكريين المتورطين بالحادث بحجة عدم الإفشاء بـِ (أسرار الدولة).
لقد كان للجيش دور في ظهور ما يُسمى بـِ (العصابات). فقد دعم بعض الشخصيات لتشكيل فِرق اغتيالات سرية ضد حركة (أسالا) الأرمنية، وحزب العمال الكردستاني، وكذلك لبسط الهيمنة التامة على تجارة المخدرات. كما قام الجيش فعلاً بإجراء عدة عمليات سرية غير مشروعة مع هذه الفِرق. ويقال بأن مجلس الأمن القومي قد اتخذ قرارات لم يُعلن عنها في هذا الصدد. إن هذه الفرق أو الوحدات التي تم تشكيلها تحت عنوان مكافحة الإرهاب دخلت فيما بعد تحت النفوذ الأميركي كوحدات سرية منظمة، وأخذت تكتسب نفوذاً مهماً داخل مؤسسات الدولة خصوصاً في جهاز الأمن/البوليس، وبعض وحدات الاستخبارات. وكانت وظيفتها هي رعاية المصالح الأميركية. كما قامت هذه الوحدات المحسوبة على أميركا باغتيال عدة شخصيات مهمة، الأمر الذي أدّى إلى وضع الجيش في موضع لا يُحسد عليه. والسبب في عدم إقدام الجيش على فضح هذه الوحدات السرية وكشف ارتباطها هو ما أشرنا إليه آنفاً من أن الجيش يخشى قيام الطرف المقابل بفضح دوره المباشر في تأسيس مثل هذه الوحدات. ومع ذلك وبسبب الضغوط الإعلامية والنفسية فإنه يعمل على شلّ حركة هذه الوحدات (العصابات) من خلال إصدار قوانين تدينهم، الأمر الذي سيؤدي إلى حرق كافة الأوراق التي يقوم الطرف الثاني بتهديد الجيش بها، وبعدما يتم ذلك سيعمل على تصفيتهم جسدياً.
2 – العمل على توفير الجو الأمني اللازم للنظام: في هذه النقطة يقوم الجيش بالتالي:
-
إجراء تعديلات دستورية ومن خلالها القيام بـِ:
-
زيادة فاعلية وصلاحية مجلس الأمن القومي وإضفاء الصبغة الدستورية عليه.
-
إضفاء الصبغة الدستورية على ما يسمى بـِ (دائرة الأزمات). وهذا يتيح للجيش أن يتدخل، من دون أن يقوم بعملية انقلاب، في حالة حصول تطورات سياسية أو واجتماعية أو واقتصادية سلبية.
-
إلحاق جهاز الأمن والبوليس بالجيش. والغرض من ذلك هو القضاء على هذا الجهاز تماماً، والذي يعتبر قوة مسلحة منافسة تهدد الجيش. من جهة أخرى القضاء على الوحدات الخاصة وجهاز الاستخبارات التابعين لجهاز الأمن والبوليس.
-
وضع كافة الشركات المالية والأموال غير المسجّلة، والتي دخلت البلاد بطريق غير مشروع، تحت تصرفه وإحكام سيطرته عليها.
-
وضع كافة المدارس الأهلية والأوقاف الخيرية والجمعيات وما شابه ذلك تحت تصرفه التام. وقد يستولي على أموال بعض منها ويضعها في خزينة الدولة.
-
وضمن هذا الإطار ولإيجاد التغييرات الدستورية يقوم بالتالي:
-
إغلاق حزب الرفاه.
-
إبعاد تانصو شيلر من زعامة حزبها.
-
توفير الأجواء المناسبة لدخول أعضاء البرلمان المستقيلين من حزبي الرفاه والطريق الصحيح إلى حزب الوطن الأم لإيجاد الأغلبية المطلوبة، كي يتسنى القيام بتعديلات على الدستور وقانون الانتخابات.
وفي حال رفض أعضاء البرلمان ـ من حزبي الرفاه والطريق الصحيح ـ لهذا السيناريو فإن الجيش قد يمارس ضغوطاً نفسية عليهم ـ كإشاعته القيام بعملية انقلاب كما حصل في حكومة أربكان – شيلر.
أما في حال نفاد كافة الحلول وفشل الجيش بهذا كله فلا يُسْتبعد أن يقوم بعملية انقلاب عسكرية تحسم الأمر.
-
إخضاع مؤسسات الدولة كافة لوصاية الجيش فعلياً. ولهذا الغرض تم استحداث ما يسمى بـِ (الضابط المختص) أو (الضابط المستشار). وقد تم تطبيق ذلك فعلاً حيث تم تعيين قائد القوة البحرية السابق رئيس المستشارين في رئاسة الوزارة.
-
تشكيل وحدات خاصة لغرض التجسس (مثل وحدة شؤون الأعمال الغربية وشؤون الأعمال المدنية) على الناس في حياتهم العامة من جهة وفي الدوائر الرسمية من جهة أخرى وكذلك تسهيل وإيجاد الأرضية المناسبة لتطبيق قرارات مجلس الأمن القومي المعروفة بـِ 28/2/1997. ومن الجدير بالذكر أن هذه القرارات تعتبر مسألة مصيرية للسلطة (الجيش).
باختصار شديد فإن السلطة تريد أن تضمن مستقبلها من خلال القضاء على الوضع الليبرالي الذي جاءت به الديمقراطية بعد الخمسينيات وإحكام سيطرته على الوضع باتباع سياسة الحديد والنار. وصدق من قال: تركيا يحكمها العسكر.
3- الاعتماد على الذات في مجال السياسة الدولية: إن السلطة تعمل على تحقيق التالي:
-
تنفيذ مشروع الصناعات العسكرية المحلية، وإذا ما تحقق ذلك يكون قد أوجد عنصر الاكتفاء الذاتي في مجال التسلح والصناعة.
-
العمل على إحكام سيطرته على تجارة المخدرات وملحقاتها. يطمح الجيش من ذلك الحصول على حصة الأسد ناهيك أن تركيا تُـعتبر منطقة عبور المخدرات إلى أوروبا. إن تجارة المخدرات في العالم ليست عمل مافيا أو أشخاص كما يتصور البعض، بل هي تجارة تمارسها الدول بشكل مباشر وعلى رأسهم أميركا ودول أوروبا ودول المنطقة أيضاً. أما شبكة ألمانيا والأفراد المتعاونين معها فإنهم أداة طيِّـعة بيد تلك الدول التي بدأت تركيا تقاسمهم تجارة المخدرات، علاوة على أن هذا الأمر يعكس حقيقة الصراع الداخلي. والغرض من استصدار الجيش لقوانين تمنع الملاهي ومحلات القمار هو ليس الحد من هذه التجارة بل إحكام السيطرة عليها.
4- محاربة الإسلام: ترى السلطة بحكم غريزة البقاء أن محاربة الإسلام أمر يضمن بقاءها. كما أن الإسلام بمثابة عفريت في نظرها، لأنها لم يهدأ لها بالٌ إلا بعد أن هدمت كيان الإسلام السياسي.
في الوقت الذي تعلن المبادئ والعقائد البشرية إفلاسها نجد السلطة في البلاد -وخصوصاً بعد التسعينات – تعمل على حماية الرأسمالية من خلال عملية ترقيع الكمالية – العلمانية. وفي نظر هذا المبدأ فإن الخطر الوحيد الذي يهدده هو الإسلام، ولذلك نجده يتهم الإسلام بالأصولية تارة وبالتشدّد تارة أخرى كي يتسنّى له هدم الإسلام كلياً. وكما هو معلوم فإن الجمهورية التركية منذ أن تأسست وحتى يومنا هذا حاربت الإسلام وسعت في إبعاد الأمة عن الإسلام ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً من خلال القيام بعمليات الانقلاب واستصدار القوانين وما شابه ذلك. فمن الأعمال التي قامت بها:
-
هدمت الخلافة وأعلنت الجمهورية والعلمانية، وبهذا تم إقصاء الإسلام السياسي عن معترك الحياة وأنسوا الأمة ذلك.
-
كما قامت بتغيير الحروف من العربية إلى اليونانية – اللاتينية الأمر الذي أدّى إلى حرمان الأمة وإبعادها عن كل المصادر الإسلامية والثقافية والتاريخية التي كُتبت بالحروف العربية (اللغة العثمانية)، وأرغِمتْ في الوقت نفسه على التوجه إلى المصادر الغربية. وبهذا غُـزِيَـتْ عقول المسلمين الأتراك بالثقافة الغربية بحيث جعلوا منهم شعباً مضبوعاً بالغرب. ذلك أن الشعب الذي تكون حالته كذلك تسهل عملية قيادته وتوجيهه، ولذلك فإن السلطة ترى في عودة المسلمين إلى الإسلام خطراً حقيقياً على مستقبلها.
-
إبعاد الأمة عن الإسلام السياسي والروحي تحت عناوين (القرآن التركي) و (الأذان بالتركية) و (أداء العبادات بالتركية).
إلاّ أنّ الجمهورية يوم أعلنت لم تفلح في إنجاز مخططاتها، فالتطورات السياسية والعقائدية يومها أخّرت من ذلك. الرأسمالية وروسيا الشيوعية وسياسة المعسكرين (الشيوعي والرأسمالي) اضطر السلطة يومها إلى تأخير إنجاز تلك المخططات، إلاّ أن التطورات السياسية التي حصلت بعد عام 1990 كانت فرصة سانحة لإتمام ما تنوي عمله. في هذا الصدد تقوم السلطة بتنفيذ ما يلي:
-
تغيُّر في وجهة النظر الاستراتيجية العسكرية القومية للسلطة، فقد أعلن علناً عن أن العدو اللدود والأول هو الإسلام السياسي، كما حصل في أول أيام تأسيس الجمهورية، كما تعتبر السلطة الشعب عنصراً يهدد كيانها.
-
شن حملة إعلامية واسعة النطاق كي يلبس على الناس أمر دينهم وإيجاد أجواء الفتنة، وجعل ما يُعلَم من الدين بالضرورة موضع نقاش وبحث.
-
كما تسعى في فرض نظرية (إقامة العبادات باللغة التركية) بالقوة.
-
إلغاء حزب الرفاه. علماً أن السبب في ذلك ليس لهويته الإسلامية أو لأنه ضد العلمانية، فحزب الرفاه لم يقم بعمل يهدد العلمانية، والدليل على ذلك ما ورد في دفاعه أمام المحكمة، وأعماله أيام كان في السلطة. إن السبب الوحيد هو إجهاض أي محاولة أو عمل يصدر ممن له ولاء لحزب الرفاه – أي جماهير الحزب ومؤيديه – الذين تسيطر عليهم المشاعر الإسلامية. والغرض من هذه العملية هو إشاعة مفاهيم (المسلم الديمقراطي) و (المسلم العلماني) و (المسلم المعتدل) وما شابه ذلك. والحزب الذي سيحل محل حزب الرفاه سينفذ ذلك وسيجعل من الجماهير طاقة تصب في بوتقة النظام. نعم لكل هذه الأسباب المشار إليها تم إلغاء حزب الرفاه. فإلغاء حزب الرفاه ليس إلغاء حقيقياً بل عمل سياسي ليس غير.
ب- السياسة الخارجية:
تحتل تركيا في السياسة العالمية موقعاً مهماً وحيوياً جداً من الناحية الاستراتيجية والسياسية. فهي من جهة نقطة التقاء حيوية لمناطق الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقفقاس والبلقان، ومن جهة أخرى تعتبر جسراً مهماً بين أوروبا وآسيا وإفريقيا. وعلى هذا الاعتبار تتشكل السياسة التركية الخارجية:
-
تركيا والمجموعة الأوروبية: لقد رفضت دول المجموعة طلب تركيا الانضمام إلى المجموعة بكامل العضوية في أواخر الشهر الماضي. وكما هو معروف فإن الجمهورية التركية كانت وما زالت تولّي وجهها شطر الغرب وأوروبا، وتبرر ذلك أمام الشعب بالتمدن والتطور. وهذا التفسير جعل تركيا تتبع سياسة التغريب. ولهذا السبب أرغمت الشعب وقتها بقوة الحديد والنار على ارتداء الزي الغربي، كما أرغمته على تقبُّل وتبنِّي تطبيق أنظمة الغرب كالعلمانية والديمقراطية والليبرالية والجمهورية. ففي مجال التعليم نجد الثقافة الغربية هي الطاغية، ويطلق عليها (الثقافة الوطنية)، والشخصية الغربية تُعتبر الشخصية الفذة التي يجب أن تُحتَذى. هذه النظرة نجدها جلية لدى المثقفين والسياسيين إلى درجة أنهم ينظرون إلى الغرب نظرة انبهار وانضباع. ولذلك نجد توجهات هؤلاء نحو الغرب عاطفية ليس غير! بل وحتى ليست عقلية ولا مادية بدليل أن معاهدة المجموعة الجمركية لا يمكن أ تفسَّرَ لا من الناحية العقلية ولا من الناحية المادية. ولهذا السبب فإنها لا تُـردُّ وتقابل بالإيجاب.
إن رفض المجموعة طلب تركيا الانضمام الكامل للمجموعة كان سبباً في خلق ردَّة فعل عاطفية لدى السياسيين والمثقفين. وكونها عاطفية فإنها سرعان ما تتبخر مع الهواء ويعود الانبهار السابق بأوروبا من جديد.
أما عن السلطة (الجيش) فإنها لا تنظر إلى انضمام تركيا للمجموعة بِعَيْنِ الرضا والقبول. ذلك أنها لا تريد أن يشاركها أحد في السلطة، فالإدارة الحقيقية في البلاد تُديرُ دَفَّةَ السفينة إلى الوجهة التي تريد، وهي تقوم بمحاولة انقلاب، وتغتال من تريد متى تشاء، وهي تحتكر ما نسبته 80 بالمائة من موارد البلاد، فلماذا يشاركها الغير؟! فلا هي تريد التفريط بهذا كله، ولا هي تجرؤ على زجر المضبوعين بالغرب بالتخلي عنه. ذلك أن المضبوعين يخدعون الناس بهذا الانضباع.
أما عن علاقة المجموعة الأوروبية بتركيا فهي علاقة مصلحة ومنفعة، وعلى هذا الأساس ردّوا طلب تركيا. ويمكن تلخيص عدم موافقة المجموعة على انضمام تركيا بعضوية تامة لها بما يلي:
1- السبب الأول هو كون أهل تركيا مسلمين: ذلك أنه لا يوجد في القاموس الغربي مكان لـِ (الإسلام)، كما أن الغرب حرص على إبراز الإسلام كعفريت مخيف، فأوروبا لا ترغب في وجود بلد كتركيا بنفوسه الـ (90) مليون نسمة المسلمين. في العام الماضي عقد مؤتمر في أوروبا، نظَّـمَـهُ قادة الأحزاب الديمقراطية المسيحية في دول أوروبا المختلفة، وقد خرج المؤتمر بنتيجة مشتركة مفادها: أن عضوية تركيا لن تقبل طالما أهلها مسلمون.
إن انزعاج أوروبا من الإسلام كان ملموساً جلياً من موقفها من حرب البوسنة – الهرسك.
2- وضع تركيا الاقتصادي والاجتماعي: يعتبر اقتصاد تركيا بالنسبة لأوروبا اقتصاداً هشّـاً ونسبة البطالة تزيد على الـ 30 بالمائة. علاوة على أن نفوس تركيا في تزايد مستمر. وانضمام تركيا للمجموعة الأوروبية يعني نزوح ثلث الأتراك – العاطلين عن العمل – إلى أوروبا لإيجاد فرص عمل أفضل، ما سيؤدي إلى إيجاد مشاكل اجتماعية واقتصادية في أوروبا، علماً أنه يوجد ما لا يقل عن ثلاثة ملايين تركي عامل في أوروبا منذ الستينيات. هذه الكتلة الضخمة بالرغم من عدم تلقيها أي أسس تربوية وثقافية في تركيا فإنها لم تنصهر في بوتقة المجتمع الغربي، بالإضافة إلى هذا كله فإنها لم تتنكر لدينها الإسلام. هذا الأمر أوجد خَلَلاً في المعادلة التي تبنَّتها الدولة التركية، كما برهن على أن الشعب في تركيا – بطبيعة نزعاته الإسلامية – لا وَلَنْ ينسجم مع المجتمع الغربي، ولهذا السبب فإن الدول الأوروبية لا ترغب إلى انضمام تركيا في مجموعتها.
علاوة على ذلك فإن حصَّـة تركيا – في حال انضمامها للمجموعة – من المساعدات المستحقة وعدد المقاعد في مجلس البرلمان للمجموعة، سيزيد، بحيث تصبح تركيا الدولة الأكثر ممثلية من حيث المساعدات وعدد المقاعد. وهذا ما لا تريده أوروبا.
3- موقع تركيا الحساس: تقع تركيا في منطقة هي من أكثر مناطق العالم التي تنشر فيها الأزمات والمشاكل، فمشاكل الشرق الأوسط وأزمة الأكراد وأزمة قبرص وأزمة بحر إيجه والنـزاع الأرمني – الأذري، وما شابه ذلك، فهذه المشاكل تجعل من تركيا طرفاً مباشراً أحياناً وغير مباشر أحياناً، أخرى. ووجهة نظر الدول الأوروبية الأعضاء في المجموعة متباينة حول هذه الأزمات. وفي حال انضمام تركيا للمجموعة فإنها ستكون عضواً ومعها هذه المشاكل، كما أن هذه المشاكل والأزمات ستصبح من أزمات أوروبا. ومحاولة حل المجموعة لهذه الأزمات تعني تفكك المجموعة نفسها، وهذا ما لا تريد حصوله. ولهذا السبب فإن عضوية تركيا في المجموعة لن تكون أمراً سهلاً.
4- مدى انتفاع المجموعة من انضمام تركيا: إن عملية انضمام تركيا للمجموعة لن تأتي بالنفع على المجتمع الغربي. وطالما أن أوروبا تحصل على ما تريد من تركيا من خلال توقيع الثانية لاتفاقية التعاون الجمركية فلماذا تضم أوروبا تركيا في عضوية مجموعتها؟
وبالرغم من كل ما ذكرنا فإن أوروبا لن تتخلى عن تركيا، كما أنها لا تتجاهل موقعها الاستراتيجي وأهمية ذلك. فأوروبا من جهة تتخذ من تركيا جسراً لها للعبور إلى منطقة آسيا الوسطى، ومن جهة أخرى تعتبرها الخندق الأمامي والواقي لأي خطر قد يأتي من منطقة الشرق الأوسط. ولذلك فإن أوروبا تتعاون مع تركيا وفق اعتبارات خاصة.
ج- العلاقات التركية – الأميركية:
بعدما تلقت تركيا ردّاً سلبياً من المجموعة الأوروبية ولّت وجهها شطر أميركا، ففي معرض حديثه لرئيس الوزراء التركي مسعود يلماز في زيارته الأخيرة لأميركا يقول كلينتون: (عندما أنظر في كل صباح إلى خريطة العالم أرى أهمية تركيا الكبرى). كما يقول برزنيسكي أحد المستشارين السابقين لرئيس أميركا في آخر كتاب له: (من يحكم سيطرته على منطقة أوراسيا (أوروبا – آسيا) يحكم العالم) ويضيف: (إن تركيا بالنسبة لأميركا مهمة جداً). إن كل هذه الأقوال تدل على إِيلاءِ أميركا لتركيا أهمية قصوى. فهي تريد أن تسخر الإمكانات الاستراتيجية التي تتمتع بها تركيا لحسابها. إلاّ أن تصرف أميركا هذا يثير حفيظة السلطة في تركيا التي ترى في رسم سياسة محورها أميركي خطراً على كيانها. فأميركا تقول لتركيا “اتبعيني أعطِكِ بعض المكاسب” أما تركيا فتتبع سياسة رعاية المصالح المشتركة. أما أميركا فلا تريد أن تقاسمها تركيا مصالحها الحيوية في كل من الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وتعمل على إخضاعها من خلال ممارسة الضغوط الاقتصادية، وتهديدات الحرب الخارجية وإثارة الحرب الداخلية من خلال بعض الوسائط، إلاّ أنه ولحد الآن لا يوجد تغيير ملحوظ على العلاقات التركية الأميركية.
د- العلاقات التركية – الإسرائيلية:
إن العلاقات التركية – الإسرائيلية قائمة على قدم وساق في المجالات العسكرية والاقتصادية والمخابراتية، فالسلطة في تركيا ترى أن لا مناص لها من ذلك. لقد بدأ المثلث التركي – الإسرائيلي – الأردني في الشرق الأوسط (وهو مشروع إنجليزي) بالتبلور والوضوح. ففي المناورات البحرية الثلاثية التي جرت مؤخراً بين أميركا وتركيا وإسرائيل اشترك الأردن كمراقب. إن الاشتراك الأميركي لم يكن تأييداً ضمنياً للمناورات بل كانت أميركا مرغمة على ذلك لإظهار قوتها وإحساس الأطراف بوجودها، ولمنع استخدام المناورات ضد سوريا.
هـ – العلاقات التركية – الروسية:
تتركز العلاقات التركية – الروسية حول مسألتين هما نفط آسيا الوسطى وعبور الغاز الطبيعي. ففي الوقت الذي تسعى فيه روسيا إلى إحكام قبضتها فإن تركيا تريد أن تلعب دور (الجسر) الذي يمر من خلاله الغاز الطبيعي إلى أوروبا كحد، أدنى الأمر الذي يزيد من أهمية مضائق استانبول وجنة قلعة وجزيرة قبرص، وبالتالي يزيد من حدّة مشاكل هذه المناطق. فروسيا تُصِرُّ على الإبقاء على اتفاقية مونترو التي حققت منها مكاسب مهمة كحرية التنقل، وتحاول منع أي عملية تقليص لهذه الاتفاقية، ما سيتيح لها نقل بترول آسيا الوسطى إلى أوروبا. من ناحيتها فإن تركيا تدعو إلى إعادة النظر في الاتفاقية من جديد بحجة انعدام الأمن الكافي لحرية النقل البحري، وتلوث البيئة، وعشوائية سير المرور البحري. في هذا الصدد يقول رئيس الجمهورية سليمان ديميريل: نحن لا ندعي عدم السماح للسفن بالمرور من مضائقنا، بل نقول بأن طاقة المضائق لا تحتمل مرور هذا القَدْرَ من السفن.
إن أهمية تركيا السياسية والجغرافية والاستراتيجية والجيولوجية بالغة في السياسة العالمية، ولكن الإرادة السياسية في تركيا تفتقر إلى استغلال مثل هذه المواقع والموارد البالغة الأهمية، كما تفتقر إلى القدرة على حل أزمات مثل جزيرة قبرص والمضائق. فتركيا تعيش مشكلة فراغ في القيادة السياسية.
إن السياسة لا تقبل بأي حال من الأحوال الفراغ، لأنه إذا حصل ذلك فهناك من يعمل على مَلـْئِهِ. فمحاولة إحكام كلٍّ من روسيا وأميركا قبضته في المضائق وقبرص على التوالي نتيجة طبيعية لذلك. أما الإرادة الصادقة والمخلصة فإنها لا تتأتى إلاّ بالجرأة والفكر المستنير. وهذان الأمران لا يتوافران إلا بالعقيدة الصحيحة التي تعطي فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، فتركيا الآن تعيش هذا العجز الكبير. والدولة التي تحارب شعبها وتعاديه بدل أن تنسجم معه لا يُـكتب لها النجاح. سكان تركيا مسلمون، وعقيدتهم ودينهم هو الإسلام، والدولة الإسلامية هي الدولة الوحيدة التي تنسجم معه. ولذلك فإن الإرادة العلمانية في تركيا لن تكون صاحبة الإرادة السياسية الصحيحة، وكل التدابير القمعية التي تتخذها لن تغيّر نتيجتها الحتمية. إن خلاص الشعب من هذه الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبالتالي رُقِيِّهِ إلى درجة العِزّ والحياة الكريمة لا ولن يتم إلا بالخلافة الراشدة.
22/1/98
2016-09-27