العدد 129 -

السنة الحادية عشرة – شوال 1418 – شباط 1998م

السياسـة الأميركية وأثر الضغط اليهودي

السياسـة الأميركية وأثر الضغط اليهودي

سيطرت فضائح الرئيس الأميركي بل كلينتون على وسائل الإعلام العالمية، فبعدما تردد عن علاقته مع بولا جونز، عادت أخبار عن علاقة مع موظفة سابقة في البيت الأبيض، ثم تردد أن هناك العديد من النساء اللاتي تستعد لإشهار علاقتهن الخبيثة مع الرئيس كلينتون. وعمدت كثير من وسائل الإعلام العالمية إلى إبراز علاقة بين فضائح كلينتون وبين أمور في السياسة الخارجية الأميركية. ومن ذلك ما تردد عن احتمال قيام أميركا بضرب العراق، وذلك لصرف الأنظار عن فضائح الرئيس. وكذلك ما تردد عن أن لجان العمل السياسي الأميركية الإسرائيلية إيباك (AIPAC) هم الذين حركوا هذه الفضائح لتخفيف الضغط الأميركي عن حكومة نتانياهو، خاصة قبيل زيارة نتنياهو الأخيرة في 19/1/98 لواشنطن، وهنا لا بد من توضيح بعض القضايا الهامة:

1- إن السياسة الخارجية لأميركا، باعتبارها الدولة الأولى في العالم، لا ترتبط بشخص الرئيس. وأميركا لا تعزم على عمل عسكري أو تحجم عنه بسبب يتعلق بعلاقة جنسية لرئيسها. إن مثل هذا التصرف قد يصدر عن زعماء دول من الدرجة الثالثة. أما أميركا فإن سياستها الخارجية وما يتبعها من خطط واستراتيجيات لا تخضع لظروف خاصة بشخص الرئيس. وعلى وجه التحديد فإن أزمة أميركا مع العراق لا تزال مستمرة منذ زمن بعيد ومن قبل ظهور فضائح الرئيس، ثم إن تصريحات مسؤولي الأمن القومي في أميركا لم تختلف، فهي لا تزال ترى ضرورة التنسيق مع الحلفاء والتركيز على الحل الدبلوماسي، وعدم استبعاد ضربة عسكرية تقوم بها أميركا بمفردها.

ويظهر من تصريح الساسة الأميركان أنهم يعتبرون أن الأزمة مع العراق من شأنها أن تنقل الأزمة وبشكل رسمي من أزمة دولية بين العالم، ممثلاً بمجلس الأمن، وبين العراق إلى أزمة محدودة بين أميركا وحدها وبين العراق. وقد ذهب إلى ذلك رئيس وزراء بريطانيا توني بلير في رسالة التأييد التي بعث بها إلى كلينتون، وذكر أن بريطانيا تقف مع أميركا في أزمتها مع العراق. كما صدرت تصريحات كثيرة من مسؤولين أوروبيين خاصة فرنسا وروسيا تشير إلى أن الأزمة هي أزمة بين أميركا وبين العراق. وتدرك أميركا ذلك جيداً، لذلك فهي تحاول قدر استطاعتها دفع العراق لاتخاذ إجراءات وتبني سياسات خاطئة تمكّن أميركا من الضغط على أعضاء مجلس الأمن، إما للرد على العراق بشكل حاسم، وإما لتفويض أميركا بالرد. وعلى أي حال فإن أميركا إذا ترددت في استعمال الخيار العسكري ولو بشكل منفرد، فإنما سيكون ذلك قراراً استراتيجياً وليس قراراً متعلقاً بعلاقات الرئيس الجنسية.

على أن الأرجح أنه إذا كانت المؤسسة السياسية التي تقف وراء الحكم في أميركا تدرك أن حياة الرئيس السياسية باتت في أزمة حقيقية، فإنها لن تسمح له باتخاذ قرار استراتيجي أياً كان، بل ستعمل على إطالة أمد الأزمة حتى يستقر وضع الرئيس.

2- أما بالنسبة ليهود أميركا بشكل عام وجماعات الضغط اليهودي إيباك (AIPAC) فإنه من الخطأ الفاحش الظن بأنهم قادرون على إثارة قلاقل لرئيس أميركا لمصلحة إسرائيل. ولإدراك هذا يجب العلم بأن جماعات الضغط هذه قد جاءت في الستينيات وعلى وجه الخصوص بعد حرب 1967، وبناءً على ترتيب خاص من الخارجية الأميركية ووكالة الاستخبارات المركزية. والغاية من ذلك أمران: الأول بناء رأي عام أميركي مؤيد لإسرائيل تُمكَّن به السياسة الأميركية من تبني إسرائيل من أجل احتوائها وإبعادها عن النفوذ البريطاني والذي استخدم إسرائيل لضرب نفوذ أميركا في مصر مرتين، مرة عام 56 في حرب السويس ومرة في عام 67. والأمر الثاني هو من أجل ربط السياسة الإسرائيلية بأميركا عن طريق الدعم الذي تقدمه أميركا لإسرائيل والذي يعتمد على وساطة جماعات من AIPAC.

فالحاصل أن جماعات الضغط اليهودية هي من صنع السياسة الأميركية نفسها، وهي أداة بيد المؤسسة السياسية. أما المؤسسة السياسية فهي ليست يهودية، حيث إنها تمثل كبار شركات رأس المال الأميركية كشركة جنرال موتورز وكرايسلر وفورد، وشركات النفط كشركة تكساكسو وإيكسون وشيفرون وجلف، وشركات التكنولوجيا الحديثة كشركة آي. بي. أم وشركة آي. تي. أند. تي AT&T. فهذه الشركات ومن هو بحكمها ليست مملوكة لليهود، وهي تتحكم بما يزيد على 80 بالمائة من رأس مال أميركا، وهذه الشركات هي التي تملك شبكات الإعلام الرئيسية في أميركا والعالم مثل شبكة A.B.C وشبكة N.B.C وشبكة CAS. وهذه الشبكات في أميركا هي التي تحتكر حق البث المباشر مستخدمة الفضاء الأميركي الحر، بخلاف شبكة (سي. أن. أن) والتي تنتقل عبر الكوابل فقط ولا يحق لها استعمال الفضاء الأميركي للبث. وهذه الأخيرة ليست مملوكة لشركات، وإنما هي مملوكة من قبل شخص واحد وهو ليس بيهودي على أي حال.

ونعود إلى جماعات الضغط اليهودي لنقول: إنها تمكنت من كسب نفوذ قوي داخل الكونجرس الأميركي ليس بسبب من قوتها، وإنما لأن المؤسسة الأميركية أرادت أن تستعملها لتحقيق الغايتين المذكورتين سالفاً. وقد سُمح لهذه الجماعات بممارسة نشاطات دعم لرجال الكونجرس، وجمع أموال وتوزيع أموال بطرق ووسائل منها ما هو مشروع ومنها ما لا يخضع لتشريعات قانونية. ولعل أهم نشاطاتها غير الخاضعة لتشريعات قانونية يكمن في جمع التبرعات لصالح إسرائيل. واعتبار هذه التبرعات خاضعة للخصم الضريبي. أما مصلحة الضرائب فإنها تغض النظر عن ذلك ليس بناءً على تشريع قانوني وإنما بناءً على تعليمات سياسية خاصة. ثم إن نشاطات جماعات الضغط المتعلقة بدعم رجال الكونجرس ومجلس الشيوخ لم تخضع كغيرها من الجماعات للمحاسبة والمساءلة على اعتبار أن كل مساءلة لهذه الجماعات ستفسر على أنها معادية للسامية وهي محرمة في أميركا. وقد علق على ذلك بتفصيل كبير رجل الكونجرس من ولاية الينوى (بول فندلي) في كتابه »من يجرؤ على الكلام« كما أشار إلى مثل ذلك في كثير من المقالات السناتور مكلوسكي من ولاية كليفورنيا.

على أن جماعات الضغط تدرك تماماً أن التسهيلات التي حصلت عليها في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات إنما هي تسهيلات سياسية وليست تشريعية وبالتالي فإن جماعات الضغط اليهودية لا تملك أن تخرج على إرادة المؤسسة السياسية بأي شكل من الأشكال. وقد ظهرت تصريحات كثيرة لجماعات الضغط اليهودية تبين مدى احتجاجها على حكومة نتنياهو وعدم تأييدها لسياسات نتنياهو، وذلك دعماً لموقف السياسة الأميركية. وفي السابق كانت جماعات الضغط اليهودية تقف إلى جانب الحكومة الأميركية تساعدها في الضغط على حكومات إسرائيل للرضوخ لمطالب الحكومة الأميركية، وقد صرح اليهودي ديفيد سؤيا الذي كان يعمل مساعداً لوزير خارجية أميركا الأسبق جورج شولتز بقوله “إن أميركا تسعى لربط إسرائيل تماماً بأميركا، وتريد أن تستعمل يهود أميركا لتحقيق هذه الغاية” وأضاف انه حين أبدى احتجاجاً على هذه السياسة قام شولتز بطرده من الخارجية. ثم إن جماعات الضغط هذه بدأت خلال عام 97 بالتعرض لمساءلة من مجلس الكونجرس والشيوخ، وتم تشكيل لجان خاصة للنظر بشرعية وقانونية أعمال جماعات الضغط اليهودية، ومراجعة ملفات عملها، والاطلاع على نشاطاتها المالية في حدث ليس له سابقة. ويدل هذا على أن امتيازات جماعات الضغط اليهودية في طريقها إلى التغيير. وأن هذه الجماعات قد أصبحت مضطرة للدفاع عن نفسها، ومن جملة ما يوجه لها من تهم أنها تسعى للسيطرة على قرارات مجلس الشيوخ والكونجرس، وليست فقط لتحقيق مصالح محددة كما هو شأن جماعات الضغط الأخرى.

وهذه التهم عامة ليس من السهل إثباتها أو نفيها، وإنما هي مقدمة لتقييد وتحجيم وتقليص نشاطات جماعات الضغط اليهودية AIPAC ولإيجاد رأي عام ضد هذه الجماعات. ومما يزيد في حدة الرأي العام هذا، نسبة ما يجري من فضائح في البيت الأبيض إلى جماعات الضغط اليهودية، بل وأكثر من ذلك إلى حكام إسرائيل وأعوانهم في أميركا، فالادعاء أن نتنياهو وجماعات الضغط اليهودية رتبوا لزيارة بولا جونز للبيت الأبيض قبل زيارة نتنياهو بيومين للبيت الأبيض من شأنه أن يبرز مدى مقدرة اليهود على التأثير على مجريات الأحداث حتى في البيت الأبيض وليس فقط في الكونجرس، لذلك فإن الادعاء بأن اليهود كانوا وراء إثارة فضائح كلينتون ليس صحيحاً والساسة الأميركان يعلمون ذلك، واليهود يعلمون ذلك، ويعلمون أن هذا الادعاء يضر بجماعات الضغط اليهودية التابعة لهم ويجعلها أقل مقدرة على العمل والنشاط في أميركا.

3- أما من الذي يقف وراء فضائح كلينتون الجنسية، أو ماذا يراد من ورائها. فتفصيل ذلك فيما يلي:

إن إثارة مثل هذه الفضائح تقود إلى أحد أمرين: إما إسقاط الرئيس – وهذا أمر غير محتمل الآن – وإما تقييد إدارة الرئيس حتى يحال بينها وبين القيام بأعمال هامة سواء على المسرح الداخلي أو المسرح الدولي. والجهة الوحيدة في أميركا التي تتدخل في هذين الأمرين مباشرة أو بشكل غير مباشر هي المؤسسة السياسية، والتي تمثل – كما ذكرنا سابقاً – شركات رأس المال الأميركي والعائلات المالكة لرأس المال. وقد ذكر الناطق باسم البيت الأبيض أن المدعي العام المكلف بالتحقيق بفضائح كلينتون مصرّ على تتبع حياة كلينتون الشخصية، وأن المدعي العام (كينيث ستار) يعتبر من المقربين جداً لأقطاب الحزب الجمهوري، والذي يهمه وضع العراقيل أمام إدارة كلينتون، كما أن وسائل الإعلام الرئيسية في أميركا والتي تركز على فضائح كلينتون هي نفسها أداة بيد المؤسسة السياسية. وكانت إدارة كلينتون قد نجحت في السابق في تأجيل مقاضاة الرئيس كلينتون في قضيته مع بولا جونز إلى ما بعد نهاية ولايته الحالية. إلا أن هذا الاتفاق لم يعد قائماً فيما يبدو، خاصة بعد ظهور الفضيحة الجديدة المتعلقة بإحدى موظفات البيت الأبيض السابقات مونيكا ليونسكي.

حكومة كلينتون قامت بدراسات مستفيضة للوضع الدولي الجديد الذي نتج عن زوال الاتحاد السوفياتي، وظهور روسيا، وتقدم أوروبا الغربية نحو مزيد من التوحد، وبروز أهمية اليابان مع بروز أهمية القوة الاقتصادية. ودرست سبل السيطرة على الاقتصاد العالمي، وعلى القضايا الإقليمية مثل أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا.

فهل ستسمح المؤسسة السياسية لحكومة كلينتون بالبدء بتنفيذ ما قامت به من دراسات، أو سيزيدون ملاحقتها بالفضائح لشلّها عن التنفيذ؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *