العدد 256 -

العدد 256- السنة الثانية والعشرون، جمادى الأولى 1429هـ ، الموافق أيار 2008م

لبنان: أميركا وراء التعطيل والفراغ التام

لبنان: أميركا وراء التعطيل والفراغ التام

 

يبدو أن الوضع في لبنان يسير ببطء نحو التفكك في مؤسسات الحكم الرئيسة الثلاث حتى تطالها جميعها. فرئاسة الجمهورية خلا المنصب فيها من رئيس منذ انتهاء ولاية لحود. والمجلس النيابي مقفل لا يقوم بدوره الدستوري في انتخابات الرئيس. والحكومة محاصرة في السرايا تقوم بتصريف الأعمال أكثر مما تقوم بالحكم. والأمور سائرة باتجاه أن يحل موعد انتخاب النواب من غير أن يجري الانتخاب… عندها يصبح المجلس النيابي خالياً من النواب وليس مقفلاً فحسب، وتصبح الحكومة التي توصف من المعارضة بأنها فاقدة للشرعية بحكم المعدومة، ويصبح بعدها لا أكثرية ولا أقلية، ولا معارضة ولا موالاة… نعم يبدو أن الوضع في لبنان يسير نحو التفكك إلا إذا حدثت أحداث خارجية لها تأثير مباشر على الوضع فيه كحرب جديدة مثل حرب تموز سنة 2006م التي شنتها (إسرائيل) عليه، وهنا تكون الأمور مرهونة بنتائجها، أو أحداث داخلية غير محسوبة تقلب الأوضاع رأساً على عقب كما حدث بعد اغتيال الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان. ويذكر هنا أن المؤسسات العسكرية من جيش وأمن داخلي قائمة على تركيبة طائفية لا تستطيع أن تتحرك خارج نطاقها حتى لا تتعرض بدورها للتفكك… إذاً فالأوضاع السياسية في لبنان تسير بهذا الاتجاه، فمن الذي يقف وراء ذلك؟ وما هي خطته؟

قبل الإجابة على ذلك، لابد من القول بشكل حازم أن لبنان تلعب به السياسة الدولية بامتياز؛ وهو أمر يصرح به المسؤولون السياسيون على سبيل الاتهام لبعضهم، فكل فريق منهم يدعي لنفسه النظافة والحرص على البلد ولغيره العمالة والخيانة. ثم إن نشاط بعض السفراء المعنيين بالوضع في لبنان وتصريحاتهم، ومجيء المبعوثين والمسؤولين الدوليين والإقليميين إلى لبنان لدعم هذا الفريق أو ذاك، وسفر المسؤولين اللبنانيين إلى دول الخارج والاجتماع مع المسؤولين فيها لتنسيق المواقف معهم، ليدل دلالة واضحة على ذلك. ولعل أصرح ما جاء في هذا الموضوع ما قاله رئيس وزراء لبنان السابق سليم الحص في 23/6/2007م حين صرح: «لقد بات أكثر من واضح أن قرار المصير اللبناني في أيدي قوى متصارعة خارج لبنان» وأضاف: «هذا معيب، ولكنه الحقيقة» وكذلك ما صرح به بطريرك الموارنة صفير في نفس التاريخ حيث قال: «من بيدهم مفتاح الحل والربط ليسوا في لبنان، وهذا هو أصل الداء».

والناظر في موقف الموالاة فإنه يرى أنها، بعد حصولها على الأكثرية النيابية في الانتخابات الأخيرة بعد الانسحاب السوري من لبنان، تستميت من أجل الإمساك بالسلطات السياسية الرئيسة الثلاث في لبنان ولكنهم لم يستطيعوا، ومعلوم ما في إمساك الأكثرية لهذه السلطات من معنى تحول الحكم في لبنان إلى النفوذ الأوروبي وبالأخص الفرنسي والبريطاني بعد أن كان بيد أميركا. ولو سارت الأمور بحسب الدستور اللبناني لاستطاعوا ذلك، ولكن أميركا تعرقل ذلك وتمنعه لأنه ليس في مصلحتها.

والناظر في سياسة أميركا التي تتخذ أسلوب النفاق تجاه المعارضة والموالاة، فإن حقيقة موقفها هي أنها وراء التعطيل ودفع الأمور باتجاه الفراغ التام. فالسفير الأميركي السابق في لبنان فيلتمان لفت نظر المسؤولين اللبنانيين الذين كان يجتمع بهم قبل خلو مركز رئاسة الجمهورية عند سؤاله لهم: ماذا يحدث إذا لم يتم انتخاب رئيس للجمهورية؟ وكم يتحمل من الوقت خلو لبنان من منصب رئيس الجمهورية؟ ممهداً بذلك نفسياً لهؤلاء المسؤولين لمرحلة الفراغ هذه قبل حدوثها. والأوضح من ذلك ما صرحت به رايس في منتصف شهر نيسان الماضي بقولها: ماذا يضير استمرار الفراغ والتمديد للمجلس الحالي. وهذا ما أثار ضجة إعلامية في لبنان دفعت بالقائمة بالأعمال في السفارة الأميركية في بيروت ميشيل سيسون لأن تنفي نفياً قاطعاً ما نسب إلى رايس عن وجود نية أميركية لإبقاء الأزمة طويلاً، وذكرت أن لا منطق في الكلام الذي يحمل الولايات المتحدة الأميركية مسؤولية عدم انتخاب رئيس للجمهورية حتى الآن. كذلك نفى وولش مساعد رايس صحة الكلام الذي أشيع عن رايس لجهة الرغبة في استمرار الفراغ. ومعلوم ما في سياسة التصريح ثم تكذيب التصريح من إثبات للقول لا نفيه.

والآن، إذا كانت أميركا هي وراء الفراغ في لبنان، فلماذا؟ وما هي خطتها لاستعادته؟ وكجواب نقول إننا إذا عدنا قليلاً إلى الوراء فسنجد أن الأحداث الدموية الطائفية التي اندلعت في لبنان في السبعينات، التي كان وراءها صراع دولي خفي انتهت باتفاق الطائف، وهذا الاتفاق الذي رعته أميركا نص على تعديلات دستورية قلصت من صلاحيات رئيس الجمهورية (المحسوب على النصارى) وعززت مركز رئاسة الحكومة (المحسوب على السنة) وبقي مركز رئاسة المجلس النيابي (المحسوب على الشيعة) كما هو. أما الآن، وبعد مقتل الحريري، وتبدل الولاءات، وخروج لبنان من تحت السيطرة السورية الأميركية، فإن هناك من يخشى من أن أميركا تسعى إلى فرض اتفاق جديد غير اتفاق الطائف يتعدل فيه الدستور من جديد بشكل يعيد لبنان إليها من جديد. ويخشون من أن يقوم هذا الاتفاق الجديد على إعادة توزيع السلطات على الطوائف من جديد بشكل يراعي التعداد السكاني لكل طائفة، وبما أن الطائفة الشيعية -كما يُدعى- هي الأكبر في لبنان، فيجب أن يكون لها الدور الأكبر والموقع الأول في الحكم، وهذا التوجس والخشية من الموقف الأميركي الذي يقف وراء موقف كل من إيران وسوريا، هو الذي جعل دول المنطقة تنقسم إلى فريقي نزاع تجاه ما يحدث في لبنان، وليس فقط الأطراف الداخلية فيه، وقد تجلى ذلك سافراً في مؤتمر القمة العربي الأخير الذي انعقد في دمشق في أواخر آذار الماضي.

هذا ما نرجح أن أميركا تفكر فيه وتسعى إلى تحقيقه، ويواجهه الفريق الدولي والإقليمي والداخلي الآخر، أي الطرف الأوروبي (وعلى رأسه فرنسا وبريطانيا) والدول العربية التي تتوجس من الدور الإيراني المتعاظم في المنطقة (وعلى رأسها السعودية) ومن ثم الموالاة (وعلى رأسها الحريري وجنبلاط)؛ لذلك يبدو الصراع الداخلي المتأزم جداً في لبنان يسير الآن باتجاه حسم الأمور لمصلحة طرف دون آخر، لا باتجاه حل وسط، وهذا ما يجعل مسلسل المآسي في لبنان يبدأ من جديد. فلبنان منذ ولادته في المأزق، ومشكلته في تركيبته الطائفية والتدخلات الخارجية التي تستجيب لها الأطراف الداخلية، ومآسيه متجددة الفصول، ما أن تهدأ فيه الحروب حتى تنشأ من جديد لتخرب ما عمر فيه وتقضي على مستقبل أبنائه من كل الطوائف.

واللافت أن كلاًّ من فريقي النـزاع في لبنان يصر على أنه ضد أن تتطور الأزمة في لبنان إلى حرب داخلية جديدة، ويعرض على وسائل إعلامه صوراً وأحداثاً دامية، جراء الحرب الداخلية التي اشتعلت في السبعينات، وخلفت المآسي وما رحمت أحداً. ولكن حدة التصريحات والاتهامات التي وصلت إلى منتهاها، واستعداد الأطراف على الأرض للمواجهة تجعل المراقب يرى أن رفض الانجرار إلى الحرب هو تمنيات وأضغاث أحلام، وأنه إذا وصل تضارب المصالح بين الدول الأوروبية وأميركا إلى درجة التقاتل فلن يبكي الذئب على فريسته. وما حدث في لبنان في صيف 2006 من حرب (إسرائيلية) على لبنان، وحاولت فرنسا وبريطانيا أن تستفيدا منها للضغط باتجاه تنفيذ القرار 1559، لهو مؤشر على أن الأمور يمكن أن تتطور وتتجاوز كل هذه التمنيات وبسهولة، خاصة وأن الاحتقان في الشارع بلغ مداه.

إن لبنان لن يستقيم أمره، ولن ينعم أبناؤه بالأمن والاستقرار طالما أنه قائم على هذه التركيبة الطائفية في الحكم، وطالما أن حكامه يربطون أنفسهم بالغرب الرأسمالي المتوحش. وسيبقى الوضع فيه كذلك حتى تقوم قائمة الخلافة الراشدة التي بات ينتظرها جميع المسلمين في المنطقة وفي العالم، وحينها فقط يحل الاستقرار في لبنان، ويحفظ حق أبنائه من كل الطوائف، لا على أسس طائفية ولا حصص سياسية، بل على أساس نظام حق عادل يضمن الحقوق لجميع رعايا الدولة الإسلامية، من مسلمين وغير مسلمين، على السواء. وهذا الحل الإسلامي المنشود، لا يظنن ظان أنه بعيد، بل قولوا عسى أن يكون قريباً. إنه المشروع القادم للحل في لبنان والمنطقة، وإلا فإن الصراع الدولي فيه وفيها قائم وحصيد. فواللهِ، لو علم غير المسلمين من أهل لبنان ما في مشروع الخلافة الراشدة التي ندعو إليها من خير لهم ووضع حدٍ لمآسيهم المتجددة لقاموا يطالبون بها كما يطالب بها المسلمون، ولكن الإنسان عدو ما يجهل.

قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق 37].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *