العدد 133 -

السنة الثانية عشرة – صفر 1418هـ – حزيران 1998م

كلمة الوعي: الإســلام ديـن كـامـل، والـدولـة جـزء مـنـه

في أول شهر تموز (يوليو) استضافت أسرة جريدة (السفير) في بيروت محمد حسنين هيكل في ندوة حوار. ومما قاله هيكل: “أنا أظن أن الإسلام السياسي لا يستطيع وليس بمقدوره وبمنطلقاته ولا بوسائله لا اليوم ولا غداً أن يصنع المستقبل”. وأضاف: “عندما نتكلم عن مستقبل وعن دولة نتكلم عن تنمية في الصناعة وتنمية في الزراعة وعن تنمية في الخدمات وعن اتصال بالعالم، وعن السياسة الخارجية وعن تعامل مع الدنيا كلها، هنا لا يوجد نص يقول ذلك كيف”. وأضاف: “أنت في النهاية عندك نقد، عندك عملة محكوم عليها بصادراتك ووارداتك وبحجم ما تنتج وما تستهلك، وبحجم ما تصدر وما تستورد. وهذه العملة في النهاية مربوطة بقرار من صندوق النقد الدولي… لا تقل لي الإسلام، فالإسلام لم يدخل في هذا الموضوع. الإسلام أعطاني قِيَمَ حياتي، قيماً أخلاقية… لكن ليس لديه وليس بمقدوره أن يعطي مشروعاً سياسياً”.

هذا الكلام يدل على أن الكاتب الكبير (هيكل) يجهل هذا الجانب من الإسلام. ويدل أيضاً على أنه يجهل المقومات الحقيقية للدولة.

الدولة ليست التنمية والخدمات. الدولة ليست الثروة والنقد المربوط بصندوق النقد الدولي. الدولة ليست مقدار ما تنتج وتستهلك، أو مقدار ما تصدر وتستورد. الإنتاج والتنمية والخدمات والاستيراد والتصدير هي من أعمال الدولة ومن أعمال الأفراد، وليست هي مقومات الدولة.

أهم مقومات الدولة هي وجود عقيدة في الأمة تقوم عليها الدولة. فإذا كانت هذه العقيدة عقيدة سياسية ينبثق منها مبدأ ينظم جميع شؤون الحياة، وإذا كان المبدأ يشكل رسالة للعالم أجمع، كانت الدولة التي تقوم على ذلك من أرسخ الدول وأعظمها.

بعضهم قال بأن مقومات الدولة هي: بقعة الأرض المتصلة، ومجموعة الناس ذات العرق الواحد، ووحدة اللغة، والتاريخ المشترك، ووحدة المصالح، ووحدة الآمال والآلام… وبعضهم جعل هذه الأمور مقومات للأمة وليس للدولة.  وفي الحقيقة ليست هذه مقومات للأمة ولا للدولة، ولن نخوض الآن في مناقشة ذلك.

التقصير الحاصل في الأمة الإسلامية الآن هو تقصير من المسلمين وليس قصوراً في الإسلام. الإسلام بالأمس بدأ في العرب فحولهم من قبائل متناحرة إلى أمة واحدة: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا). وجعلهم أمة ذات رسالة عالمية: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) . وأنشأت هذه الأمة دولة مجاهدة تحمل رسالة ربها لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن جور الطواغيت إلى عدل الإسلام. وقد فتح الإسلام ثلاثة أرباع المعمورة، لا من أجل إذلال الناس واستعمارهم، كما تفعل دول الغرب اليوم، بل من أجل حمل رسالة الهدى والرحمة لهم.

إذا لم يكن هذا مشروعاً سياسياً، يا سيد هيكل، فما هو المشروع السياسي؟

أما عن التنمية فإن هيكل يقول بأنه لا يوجد في الإسلام نص يقول ذلك كيف. وهنا نريد أن نشرح له ولأمثاله من الذين يجهلون هذا الجانب من الإسلام، وهم يتوهمون أنهم يعلمون.

الإسلام كامل، قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا). فالله سبحانه فرضَ أموراً، وحرّم أموراً، وندبَ إلى أمورٍ، وكَرِهَ أموراً (أي نهى عنها نهياً غير جازم)، وأباح أموراً. وإذا دققنا في أعمال الإنسان نجد أن دائرة المباح هي أوسع دائرة. وغالبية أمور التنمية تقع في دائرة المباح. ويمكن رؤية ذلك مما يلي:

1- جعلَ الشرعُ الأصلَ في الأشياء (الأعيان) الإباحة ما لم يرد دليل التحريم، أخذاً من قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) وقوله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ).

2- جعلَ الشرعُ الأصلَ في أصناف معينة من الأفعال الإباحة. من ذلك

         أ- الأفعال الجِبِلِّيّة الأصل فيها الإباحة ما لم يَرِد نص يصرفها عن الإباحة.

         ب- الأبحاث العلمية الأصل فيها أيضاً الإباحة لقوله تعالى: (قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).

         ج- الزراعة وما كان على شاكلتها، الأصل فيها الإباحة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم حين جاءه أحد الصحابة معترضاً بشأن تأبير النخل: «أنتم أعلم بأمر دنياكم».

         د- الأفعال الإدارية الأصل فيها الإباحة، فقد أخذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه تنظيم الدواوين عن الفرس وكان ذلك على مرأى ومسمع من الصحابة رضي الله عنهم فلم يعترض أحد عليه فكان إجماعاً منهم.

         هـ- الشروط في العقود والاتفاقات الأصل فيها الإباحة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً حرّم حلالاً أو أحلَّ حراماً».

من هذه القواعد نرى أن الإسلام فرّق بين العلوم المأخوذة بالطريقة العلمية (أي الملاحظة والتجربة والاستنتاج) والثقافة الخاصة بأمة معينة وهي متأثرة بعقيدتها ونظرتها إلى الحياة. فالعلم عالمي، وقد أباح الإسلام أخذ العلوم من أي مصدر جاءت. أما الثقافة المتأثرة بعقيدة خاصة فلا نأخذها لأن لنا عقيدتنا وثقافتنا.

وكذلك ما ينتج عن العلم من تكنولوجيا وصناعة ومكتشفات فإن الإسلام أباح لنا أخذه من أي مصدر كان. أما ما يصنعه غير المسلمين من مصنوعات خاصة بثقافتهم وعقيدتهم مثل التماثيل والصلبان فلا نأخذه.

فالدولة الإسلامية اليوم حين تقوم بالتنمية الزراعية أو الصناعية لا تبحث في القرآن الكريم عن أسلوب الزراعة أو أسلوب الصناعة، لأن القرآن الكريم والسنة الشريفة جعلا هذا من المباحات، وعلى أبناء الأمة أن يبدعوا، أو أن يقتبسوا ويتعلموا من الأجانب. والتجارة قد جعلها الله أيضاً من المباحات: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) فالتصدير والاستيراد من المباحات. وتحسين الإنتاج من المباحات. وهذه المباحات ليست هي مقومات الدولة كما قال هيكل، بل هي أعمال يقوم بها أفراد الأمة، وتقوم بها الدولة عند الحاجة. والإسلام اكتفى بضبط هذه الأمور بضوابط كي لا تخرج عن الأسس التي أقام المجتمع عليها.

نحن بكلمتنا هذه لا نكتب ردّاً على مقولات هيكل وأمثاله، بل نشير إشارة فقط إلى جهله (أو تجاهله) لهذه الأمور. أما الرد فلا ينبغي أن يكون بالكلمات وحدها. الرد يكون بإقامة الدولة الإسلامية فعلاً، ليرى هيكل وأمثاله المشروع السياسي العالمي (وليس المحلي أو الإقليمي) الذي تسير فيه هذه الدولة، ويرى الإنجازات الفكرية والصناعية والإنتاجية، بالإضافة إلى إنجازات الدعوة والهداية وإنقاذ البشرية.

( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *