العدد 135 -

السنة الثانية عشرة – ربيع الثاني 1419هـ – آب 1998م

الجاهلية والتغيير

الجاهلية والتغيير

الجاهلية من الفعل (جَهِلَ) والجَهْل عكس العِلْم، يقال: جَهِلَ الشيءَ وبه لم يعرفه. ولما جاء الإسلام وضع للجاهلية معنى آخر ومفهوماً جديداً، وهذا ما يعرف بالمعنى الشرعي. وعندما يضع الإسلام معنى شرعياً يؤخذ هذا المعنى ويقدم على المعنى اللغوي.

 

وأصبح مفهوم الجاهلية هو عكس الإسلام، فكل ما هو مخالف للإسلام ومناقضٌ لشريعته أو لعقيدته هو جاهلية، بغضّ النظر عن استحسان أو قبول الناس لهذا الفعل أو الشيء. فكل ما خالف شرع الله هو جاهلية.

ووصف الجاهلية وصفٌ عامٌ ينطبق على الأفراد والمجتمعات والأنظمة والأفكار في كل زمان وكل مكان إن كانت مناقضة لشرع الله أو مسيرة وفق أوامر من تشريع البشر.

فالجاهلية ليست فترة زمنية كما يظن البعض ويراد بها الحالة والوضع الذي سبق بعثة الرسول محمد عليه وآله الصلاة والسلام، ولكنها حال من الأحوال ووضع من الأوضاع، هذا الحال وُجدَ بالأمس وموجود اليوم ويوجد غداً.

قال تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:50]. فحكم الجاهلية هنا ليس المقصود به الحكم بشرع ما قبل الإسلام، بل المقصود به حكم الكفر بدلالة آخر الآية ومن أحسن من الله حكماً؟

والناس في أي زمان وفي أي مكان إما أن يحكموا بشرع الله كاملاً ويقبلوا به ويسلّموا به تسليماً دون حرج، لأن طبيعة هذا الدين تحتم على معتنقه التسليم به لأنه دين رباني من خالق الإنسان والكون والحياة بما يوافق طبيعة هذا الإنسان وما يخالفها. فوضع التشريع من أجل سعادة ورفاهية وطمأنينة البشر، أي رحمة بهم؛ والله سبحانه وتعالى نفى الإيمان عن الذين لا يسلمون بحكم هذا الدين حكماً شاملاً لكافة جوانب ومشاكل الحياة وفي كل عصر ومكان فقال عز وجل: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء:65].

وأما أن يُحكموا بشريعة من وضع البشر بأي صورة من الصور، ديكتاتورية كانت أو ديمقراطية أو غير ذلك، أو يحكموا بشريعة مزيجة من شريعة الله وشرائع البشر ويقبلون بذلك فهم في كلا الحالتين في جاهلية، وإن ادَّعوا الإسلام. فالذي لا يبتغي حكم الله ولا يسعى لإيجاده مطبقاً في معترك الحياة، سواء كان جاحداً لدين الله أو متفرجاً على الصراع بين الإسلام والجاهلية، هو مبتغٍ حكم الجاهلية وقابل به؛ والذي يرفض شرع الله هو قابل لشرع الجاهلية. وفي هذا السياق وَرَدَ السؤال الاستنكاري من رب العالمين: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)؟.

والغالب على وصف الجاهلية والحديث عنها هو ربطها بالمجتمعات أهذا مجتمع جاهلي أم لا؟ كما أسلفنا ان الجاهلية هي وضع من الأوضاع وليست فترة زمنية انقضت ولن تعود كما يظن البعض، فالكثير من الناس يجعلها فترة ما قبل بعثة الرسول ولن تعود، وكما يردد الكثير من المضبوعين بمفاهيم وأفكار الغرب (نحن في القرن العشرين) و(لا جاهلية إلا للذي لا يجيد الكتابة والقراءة أو الذي لا  يدير الكمبيوتر وشبكة الإنترنت!) فالجاهلية هي نقيض الإسلام. والصحابة رضوان الله عليهم أدركوا المعنى الحقيقي للجاهلية بأنه عكس الإسلام، فالكثير منهم عندما يسأل الرسول عليه وآله الصلاة والسلام عن أمر ما كان يبدأ سؤاله: “يا رسول الله لقد كنا في جاهلية وأعزنا الله بالإسلام …” أي يقصدون أنهم كانوا في كفر. والكفر موجود قبل البعثة وبعد البعثة واليوم وغداً. فالجاهلية وضع كان قبل بعثة سيدنا محمد عليه السلام أي قبل الإسلام، وكانت أيام عز الإسلام وحكمه وسيادته (في المجتمعات التي لم تكن تحكم بالإسلام) وكائنة اليوم وتكون ما شاء الله لها أن تكون.

والوضع المأساوي الذي تعيشه الأمـة الإسلامية اليوم هو وضع جاهلي بما تعنيه الجاهلية من معنى، جاهلية في شتى مناحي الحياة.

ويحاول علماء السوء ووعّاظ الحكام، وأدواتهم ومن يوالونهم والمضبوعون بهم أن يصوروا الواقع والمجتمعات على أنها ليست جاهلية، ولكنهم خاطئون في ذلك وألاعيبهم لا تنطلي على أبناء الأمة، لأن الأمة فقدت ثقتها بالحكام وعلمائهم وكتابهم ومفكريهم بعد أن انكشف سحرهم ودجلهم، وإن كان هناك القليل من الذين أشكل عليهم الأمر ويتساءلون: ما هو المجتمع الإسلامي، وما هو المجتمع الجاهلي، كيف نكون في جاهلية (كفر) ونحن مسلمون؟

في البدء لابد من تعريف المجتمع ومكوناته حتى يتسنى الحكم عليه بالجهل أو بالإسلام.

المجتمع هو مجموعة من الناس تربطهم علاقات دائمية ناتجة عن وحدة الأفكار والمشاعر والنظام المطبق؛ والمجتمعات في الأرض مجتمعان لا ثالث لهما: إما مجتمع إسلامي وإما مجتمع غير إسلامي أي جاهلي.

والمجتمع الإسلامي هو المجتمع الذي تتمثل فيه العبودية لله وحده في معتقدات أفراده، وأفكارهم، ومشاعرهم، والأنظمة المطبقة عليهم، هذا المجتمع الذي يتمثل فيه الركن الأول في الإسلام (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) بشقيها (لا إله إلا الله) أي لا معبود ولا مشرع إلا الله عز وجل. والشق الآخر (أن محمداً رسول الله) أي لا مبلغ عن الله إلا محمد عليه وآله الصلاة والسلام، هو المجتمع الإسلامي.

أما المجتمع الجاهلي فهو كل مجتمع غير إسلامي، أي كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله متمثلة في التطبيق العملي الكامل لشرع الله، والتسليم بصلاحية هذا الشرع والاعتقاد بخطأ سواه.

وبناءً على هذا التعريف فكل مجتمعات هذا العصر هي مجتمعات جاهلية. فأفكار الناس هي أفكار كفر، فهي مزيج من أفكار الإسلام والرأسمالية والإشتراكية، كما أن مشاعرهم مشاعر كفر فهي وطنية وقومية وعشائرية؛ والأنظمة المطبقة هي أنظمة كفر، سواء في نظام الاقتصاد، أو نظام الحكم أو في السياسة الداخلية أو الخارجية أو في التعليم.

فهذه المجتمعات مجتمعات جاهلية وان حاول علماء السوء واتباعهم طلاءها بطلاء إسلامي لتوافق ما يريده الحكام، وفي هذا المضمار يقول المفكر سيد قطب رحمه الله في كتابه (معالم في الطريق) “… وأخيراً يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة! وهذه المجتمعات لا تدخل في هذا الإطار لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله، ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله أيضاً، ولكنها تدخل في هذا الإطار لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها”.

والله سبحانه وتعالى أمرنا أن نحيا حياة إسلامية، إسلامية في اقتصادها وتعليمها في سياستها الخارجية والداخلية وفي كل مناحيها، واعتبر حياة الجاهلية جريمة، واعتبر الحاكم الذي يحكم رعيته بغير ما أنزل الله ظالماً وفاسقاً وغاشاً لرعيته، وحرم عليه رائحة الجنة، واعتبره كافراً ان حكم بالكفر معتقداً فقال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ) [المائدة:44]، وفرض على المسلمين أن يُحكموا بالإسلام في كافة مناحي الحياة. وأن يعيشوا عيشاً إسلامياً، وإلا خسروا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. واستثنى من الخاسرين، من يتلبس بحمل الدعوة الإسلامية لاستئناف الحياة الإسلامية.

فالواجب على كل مسلم حمل الدعوة الإسلامية حتى يتم التغيير من الجاهلية الى الإسلام، وقد وصف رب العالمين حاملي الدعوة بأحسن وأفضل وأسمى الأوصاف فقال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت:33].

ها هو أفضل عمل يقوم به المسلم، عمل الأنبياء والمرسلين، الذين اصطفاهم وفضلهم على الناس، وكلفهم بتبليغ شرائعه ونشر الهدى والحق والنور. وهل هناك عمل أسمى وأجلّ من حمل دين الله للناس، ومن العمل لتغيير المجتمعات الجاهلية إلى إسلامية وفق الطريقة التي علينا انتهاجها وهي الطريقة التي انتهجها وسلكها رسولنا وقدوتنا عليه وآله الصلاة والسلام، فهي وحي من الله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:3-4]. فطـريقة التغيير الواجبة الاتباع هي التي سلكها سيدنا محمد عليه وآله الصلاة والسلام في إقامته للمجتمع الإسلامي أي إقامته دولة الإسلام. وإن انتهجنا سبلاً وطرقاً غيرها ضللنا. قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام:153]. وقال تعـالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21].

والطريقة التي سلكها سيدنا محمد عليه وآله الصلاة والسلام في التغيير وإقامة سلطان الإسلام والتي يجب علينا انتهاجها تتمثل في البدء بإيجاد كتلة (جماعة) يؤمنون بالعقيدة الإسلامية وما انبنى عليها من أفكار ويلتزمون بما انبثق عنها من أحكام، ثم تبدأ هذه الكتلة بعملية الصراع الفكري مع أفكار الجاهلية وضربها ضرباً فكرياً وإحلال أفكار الإسلام مكانها، وكفاح الحكام كفاحاً سياسياً بكشف خططهم وألاعيبهم وفضحها أمام الناس ليتحـول الناس من الثقة بهم إلى الثقة والمناصرة لأفكار الإسلام وأحكامه. حتى إذا نضج المجتمع فكرياً وسياسياً وتقبل أفكار الإسلام استعد للتضحية من أجلها كما حصل مع مصعب بن عمير في المدينة، عند ذلك يبدأ القائمون على هذه الجماعة بالبحث عن أهل القوة طلباً لنصرتهم لهذا الدين كما طلب رسولنا عليه وآله الصلاة والسلام نصرة الإسلام من أهل يثرب (الأوس والخزرج) وقبلوا ذلك ونصروا دين الله فوصفهم الله سبحانه وتعالى بالأنصار قال تعالى: (وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال:74]… فالنصرة تطلب من مظانّها، وترفض إن كانت مشروطة وهي حكم شرعي لأنها جزء من الطريقة ولا يجوز التقصير في طلبها.

هذه هي الطريقة التي سلكها سيدنا وقدوتنا عليه وآله الصلاة والسلام، وعلينا سلوكها للوصول إلى الهدف العزيز وهي طريقة عملية وليست نظرية أو خيالية وقد أنتجت قيام دولة الإسلام في المدينة المنورة، وستنتج خلافة راشدة قريباً بإذن الله.

هذا هو واقعنا وهذه هي طريقة التغيير التي إذا سلكناها وصلنا الى الهدف المنشود. إقامة دولة الخلافة في الدنيا والفوز بجنان النعيم في الآخرة .

عطية الجبارين – فلسطين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *