العدد 135 -

السنة الثانية عشرة – ربيع الثاني 1419هـ – آب 1998م

روسيـا إلى أين؟!

روسيـا إلى أين؟!

تشهد روسيا حالياً أزمة اقتصادية حادة، فالدولار الأميركي الذي كان يعادل ستة روبلات أصبح الآن يعادل اثنين وعشرين روبلاً. وقد سبق هذا الانخفاض الحاد في العملة الروسية هروب المستثمرين الأجانب من روسيا، وانسحابهم من اقتصادها وأسواقها المالية، بعد أن تكبد كثير منهم خسائر فادحة، وبعد أن كبّدوا الاقتصاد الروسي أفدح الخسائر لا سيما في استثماراتهم في الأسواق المالية بشكل خاص، وفي سوق السندات الحكومية بشكل أخص. فقد قال بيوتر نيتشاين وزير الاقتصاد الروسي السابق بأن الأجانب قد استثمروا خلال خمس سنوات 18 بليون دولار في شراء سندات حكومية وباعوها لاحقاً بـِ 72 بليون دولار.

وبعد هذا الانهيار الفظيع للروبل الروسي زحف مالكو السندات الحكومية الروس إلى البنوك لاستيفاء قيمة سنداتهم التي تبلغ 40 بليون دولار، ولكنهم فوجئوا بأنهم لن يستطيعوا قبض أكثر من 5 بالمائة فقط من قيمة تلك السندات.

إن الأزمة الاقتصادية في روسيا تمتد جذورها إلى أيام الاتحاد السوفييتي، فكان اقتصادها موجهاً نحو خدمة الصناعة الحربية، وكان إنتاج السلع الاستهلاكية متدنياً وبشكل دائمي، من حيث الكمية ومن حيث النوعية، فكان الحرمان نصيب الأفراد وراء الستار الحديدي، ولكن قوة الدولة وبطشها، وتضاؤل الأفراد أمام قهرها، ثم قيام الدولة الاشتراكية بإشباع الحاجات الأساسية للأفراد، كل ذلك كان يغطي على سوء الحياة المعيشية للناس. أما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي منذ بداية التسعينيات، وضعف الاتحاد الروسي، وتخلي الدولة عن واجباتها في إشباع حاجات الأفراد الأساسية، فقد ظهر للعيان الانهيار الاقتصادي والنقدي في روسيا، برغم وفرة مواردها وغزارة ثرواتها، وهو نتاج طبيعي للانهيار الفكري الذي أطاح بالشيوعية في مطلع التسعينات، فلقد ظن الروس انهم بتخلصهم من الشيوعية وهروبهـم من جحيمها سيلجون إلى نعيم الرأسمالية ورغادة العيش في ظلها، والتي كانوا يحلمون بها، ويتوقون إليها، وإذا بهم يقفون على عتباتها، ويتوسلون لقمة العيش من كبرائها، ويرهنون إراداتهم لأسيادها، ويتخبطون في متاهاتها. لقد ظنوها نعيماً فإذا هي نار تلسعهم وإذا بهم كمن استجار من الرمضاء بالنار.

إن أمريكا قد ساهمت بدرجة كبيرة في إيصال روسيا إلى ما وصلت إليه، حيث سهلت لها الاقتراض بمئات المليارات من الدولارات من صندوق النقد الدولي وغيره من الصناديق الغربية بشروط مذلة معهودة أهمها: فتح الاقتصاد الروسي أمام المستثمرين الأجانب الجشعين، وإنشاء أسواق مالية تُفتح للمضاربين الأجانب، وخصخصة الاقتصاد بوتيرة سريعة.

وكان من نتائج هذه الإجراءات ومن ضعف الدولة أن وقعت البلاد في قبضة القطط السمان، والعصابات، والمافيات، وعجزت الحكومة عن صرف رواتب الأجيرين والجنود لأشهر طويلة، فتعطل الإنتاج واستشرى الفساد وانهار الاقتصاد.

وحقيقة ما جرى يرجع إلى أن روسيا في هذه الفترة قد جمعت أسوأ ما تبقى من الاشتراكية، مع أسوأ ما جاء من الرأسمالية، فلقد بقي نصف الاقتصاد الروسي اقتصاداً موجهاً ذا صبغة بيروقراطية، وهو من نوع الاقتصاد الاشتراكي القديم المترهل وغير المنتج، وأما النصف الثاني من الاقتصاد فقد تمت خصخصته حيث صب ريعه في جيوب حفنة قليلة من المنتفعين على حساب السواد الأعظم من الروس.

والذي عقد المشكلة اكثر، وزاد الطين بلة أن يلتسين ورث النزعة الفردية الاستبدادية عن النظام السابق ففرض آراءه المتغيرة، وقراراته المتهورة، على السياسة والاقتصاد الروسي، بحيث جعل من الاقتصاد الروسي حقل تجارب كبير فتارة يسرع الخطى نحو اقتصاد السوق وطوراً يحاول الرجوع إلى الاقتصاد الموجه.

وأما السياسيون والبرلمانيون في روسيا فلم يظهر فيهم رجال سياسة واقتصاد متميزون يستطيعون إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الاقتصاد الروسي الغريق ما أوصل روسيا إلى حافة الهاوية. والسياسيون الروس كما قال غورباتشوف هم سياسيون مفلسون، ومجلس الدوما وهو البرلمان الروسي لم يعد يتمتع بالكثير من المصداقية وأما الرئيس فمنهك عقلياً وجسدياً، وجميع السياسيين عاجزون عن تقديم الحلول.

وقد أقال يلتسين وزارته بعد مضي حوالي خمسة أشهر على تشكيلها، وأعاد ترشيح تشيرنوميردين، ولكن الدوما رفض ترشيحه مرتين، ورشح بدلاً منه وزير الخارجية بريماكوف، وقد رضخ يلتسين لهذا الترشيح.

وستُعطى الحكومة صلاحيات واسعة لاتخاذ الإجراءات الحاسمة والسريعة لضبط الاقتصاد، ومنعه من الاستمرار في الغرق في أعماق الأوحال الرأسمالية، ووقف تدهور سعر صرف الروبل. وهذا يقتضي تقاسم السلطة بين جميع القوى السياسية الفاعلة في روسيا، ويجعل السلطة الاشتراعية تتحكم في السلطة التنفيذية ممثلة في مجلس الوزراء.

وجاءت زيارة كلينتون الأخيرة لروسيا لتصب الزيت على نار الأزمة السياسية والاقتصادية، فبدلاً من مد يد العون لروسيا لإخراجها من أزمتها راح كلينتون يحاضر في الطلبة ويشرح لهم أسس الاقتصاد الحر، وطالب يلتسين بتحسين أجهزة الإنذار الخاصة بإطلاق الصواريخ الباليستية، وعرض مساعدة أمريكا في ذلك الموضوع، واجتمع مع النواب من كافة التوجهات، واطمأن منهم بأن روسيا لن تحيد عن سياسة الإصلاحات الرأسمالية ولن تتجاهل قواعد السوق العالمية، كما اجتمع مع الجنرال بيليد في بحث لخلافة يلتسين.

أما احتمال عودة الشيوعيين السابقين إلى الحكم فهذا غير وارد لأن عقارب الساعة لا ترجع إلى الوراء، ولأن الشيوعيين أنفسهم قد تحولوا عن الشيوعية بعد أن نبذها عامة الروس، ولكن سيكون لهم وجود في الحكومة.

وأما احتمال سيطرة العسكر على الحكم فهذا أيضاً احتمال غير وارد وذلك لعدم قدرتهم على الحركة وعلى الحسم.

والاحتمال الوحيد الممكن هو إما تنحي يلتسين عن الحكم نهائياً وإما تخليه عن معظم صلاحياته وتقاسم السلطة بين القوى السياسية المختلفة الممثلة في مجلس الدوما .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *