العدد 137 -

السنة الثانية عشرة – جمادى الآخرة 1419هـ – تشرين الأول 1998م

بدء إسـلام الأنصـار وبيعة العقبة الأولى

في رحاب السيرة النبوية الشريفة                              (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)

 

بدء إسـلام الأنصـار وبيعة العقبة الأولى

فلما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده، خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينا هو عند العقبة، لقي رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً. قال لهم: «من أنتم؟» قالوا: نفر من الخزرج، قال: «أمن موالي يهود؟» قالوا: نعم. قال: «أفلا تجلسون أكلمكم» قالوا: بلى، فجلسوا معه. فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. وكان مما صنع الله بهم في الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبياً مبعوث الآن قد أظل زمانه نتبعه، نقتلكم معه قتل عاد وإرَمْ. فلما سمعوا كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله أنه النبي الذي توعَّدَكم به يهود فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدّقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدّقوا وواعدوه إلى قابل. وكانوا ستة نفر منهم أسعد بن زرارة، والهيثم بن التيهان.

قال ابن إسحاق: فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إذا كان العام المقبل، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً (عشرة من الخزرج منهم أسعد بن زرارة، وعبادة بن الصامت، واثنان من الأوس هما: عويم بن ساعده، وأبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنهم أجمعين). وحضر هؤلاء النفر الموسم عامئذٍ، وعزموا على الاجتماع برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلقوه بالعقبة. روى أبو نعيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم من قوله في سورة إبراهيم: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) إلى آخرها. قال عبادة بن الصامت: كنت ممن حضر العقبة الأولى وكنا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفترض الحرب على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأُخذتم بحدّه في الدنيا، فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذّب وإن شاء غفر. فلما انصرف عنه القوم، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فنـزل مصعب على أسعد بن زرارة، فكان يسمى بالمدينة (المقرئ) وكان يصلي بهم، وذلك لأن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض. وروى ابن إسحاق أن أول من جمع بالمسلمين بالمدينة أسعد بن زرارة رضي الله عنه. وكان كعب بن مالك رضي الله عنه لا يسمع لأذان الجمعة إلا صلى على أسعد بن زرارة واستغفر له. وروى الدارقطني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب يأمره بإقامة الجمعة.

قال ابن إسحاق: إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطاً من حوائط بني ظفر… فجلسا في الحائط واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، وسعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير يومئذٍ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به قال سعد لأسيد: لا أبا لك، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت، كفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدماً. فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة، قال لمصعب: هذا سيد قومه، وقد جاءك، فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلمه. فوقف عليهما متشتماً فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة. فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته، كف عنك ما تكره، قال: أنصفت. ثم ركز حربته وجلس إليهما وكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن. فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي. فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين. ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ. ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه، وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلاً قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم. فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حُدِّثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد ابن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك؛ فقام سعد بن معاذ مغضَباً مبادراً مخوفاً للذي ذكر له من بني حارثة، وأخذ الحربة في يده ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئاً. ثم خرج إليهما سعد، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيداً إنما أراد أن يسمع منهما. فوقف متشتماً ثم قال لأسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة، لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رُمْتَ هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره؟ وقد قال أسعد لمصعب: جاءك والله سيد من ورائه قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان. فقال له مصعب: أوَتقعد فتسمع، فإن رضيت أمراً رغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟ قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن… قال: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله. ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين. فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عائداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن الحضير. فلما رآه قومه مقبلاً قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم. فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبة. قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً أو مسلمة، ورجع سعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقاما عنده يدعوان الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلاّ وفيها رجال ونساء مسلمون .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *