العدد 255 -

العدد 255- السنة الثانية والعشرون، ربيع الثاني 1429هـ، الموافق نيسان 2008م

العلاقة بين الحاكم والمحكوم: كيف يجب أن تكون؟

 العلاقة بين الحاكم والمحكوم: كيف يجب أن تكون؟

 

إن عامة الناس يتبعون في حياتهم سادتهم وحكامهم، اتباع تقليد وإعجاب، أو اتباع إجبار وإكراه، وفي جميعها اتباع لأنهم هم الذين يقومون برعاية شؤونهم وإدارة مصالحهم، وهم الموجهون لهم. وقد أمر الإسلام بطاعة الأمراء فقال: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء 59] ولكنه استثنى من ذلك الطاعة في المعصية بقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا طاعة لمن لم يطع الله عز وجل» (رواه أحمد) ولقوله: «لا طاعة لمخلوق في معصية الله» (رواه مسلم) وقد ذم الإسلام الاتباع والتقليد الأعمى قال تعالى: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) [البقرة 116] وقال تعالى: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [الأحزاب 67].

باستقراء الواقع الموجود في وقتنا الحاضر، نلاحظ أن الأمة منفصلة انفصالاً تاماً عن الدولة، أي عن حكامها، وأن العلاقة بين جمهرة الناس والحكام علاقة فئتين متباينتين لا علاقة بين رعية ودولة، وفضلاً عن ذلك فهي علاقة كره وتضاد وتناقض، وليس فيها أي تقارب ولا ما يشعر بإمكانية التقارب. هذا من شأنه أن يؤدي إلى إضعاف الدولة وإضعاف كيان الأمة؛ لأن الرعية بدون وجود راع لها تكون واهية البنيان، والدولة بدون رعية تقف صفاً واحداً خلفها تكون واهية الوجود ويمكن إزالتها أو فرض الشروط عليها، وتكون عرضة للاستعانة بأعدائها.

إن الانفصال بين الأمة والدولة كان طبيعياً واجباً عندما كانت الدول الكافرة تحكم البلاد مباشرة يوم كان الاحتلال العسكري والانتداب هو المطبق على البلاد، ولكن بعد أن أزيل سلطان الكافر المستعمر وأصبح حكام البلاد الذين يباشرون تنفيذ الحكم هم أبناء الأمة الإسلامية، فإنه لم يعد هناك مبرر لبقاء هذا الانفصال، وكان يجب أن تتحول العلاقات بين جمهرة الناس والدولة إلى علاقة التحام بين الراعي والرعية، غير أن الواقع أي هذا الانفصال بقي ولا يزال، وظل الحكام فئة والأمة فئة أخرى، وظلت هذه الفئات تحكمها علاقة تضاد متبادلة، فالأمة تنظر إلى الحكام بأنهم أعداؤها كما كانت تنظر إلى الإنجليز، والحكام ينظرون إلى الأمة بأنها تتآمر عليهم وتود أن تفتك بهم، وأنها عدوة لهم، فهم يكيدون لها وهي تكيد لهم، وهذا ما جعل الأمة في حالة يأس من أن تتقدم نحو النهضة والعزة.

وقد أصبح تفكير الحكام محصوراً فقط بما يبقيهم على كراسي الحكم، ولو بالاستعانة بالأجنبي، ولا يفكرون برفع الأمة إلا نفاقاً وكذباً وبأساليب تبعد الأمة عن الرقي وتجعلها دائما في حالة ضعيفة حتى يظلوا مستقرين عليها.

إن هذه الحالة من الانفصال بين الأمة والدولة هي نتيجة عدم قيام الأمة بما فرضه الله عليها من محاسبة الحكام وعدم شعورها بأنها هي مصدر السلطان. فلو كانت هذه الأمة تشعر بأنها هي مصدر السلطان وتقوم بمحاسبة الحكام، لما تولاها حاكم خائن عميل عدو لها، ولما كانت العلاقة بينها وبين الحكام علاقة انفصال، ولما كانت في هذا الضعف وفي هذا التفكك والتأخر، ولما ظلت تحت نفوذ الكفار فعلاً، وإن كان الذي يحكمها مباشرة من أبناء المسلمين؛ لذلك كان لا بد للأمة حتى تكون كياناً واحداً هي والحكام أن تقوم بواجب المحاسبة، وأن تقول كلمة الحق في وجوههم، وأن تعمل بقوة وبجد للتغيير على الحكام أو تغييرهم.

هذا هو واقع العلاقة اليوم بين الحكام وجمهرة الناس: فئتين متباينتين، وهذه العلاقة الموجودة هي صفة من صفات الحكم الجبري الذي أخبر عنه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالحاكم فاسد مفسد يعمل بعمل الجاهلية ويدعو لها، فالظلم سجيته، وسلب الأموال وإنفاقها في شهواته وملذاته وإشباع نزوات أتباعه دأبه، والقتل من أبرز أعماله، يحكم بغير ما أنزل الله، ويعمل في خلق الله بالإثم والعدوان، يسكت الألسنة ويعتقل المخلصين وأهلهم وأصدقاءهم، فاتحاً السجون ومنذراً بها. والعلماء بين ساكت لا ينكر ولا يغير، وملتمس لنفسه الأعذار ومؤول لقوله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة 195]، وبين عالم قانع بصلواته يؤديها، إذا وعظ الناس في المناسبات أمات القلوب، وقد عاف المسلمون وعظه لتكراره ولبعده عن واقع الأمة وأحاسيسها، وإحجامه عن بيان فساد الأنظمة وكشف أعمالها رهبة أو رغبة، وبين علماء تولوا المناصب كوزراء فضلوا وأضلوا، أو كمستشارين للحكام أو موظفين زينوا لحكامهم أعمالهم، وشدوا على أيديهم، وأولوا النصوص وأوهموا الناس واستبدوا على وسائل الإعلام، فوقفوا خلفها يسبحون بحمد الحاكم ويقدسون أمره وينسبون كل خير وبر له، فركبوا السيارات الفارهة متوجهين إلى القصور لتسجيل أسمائهم في سجل التشريفات عند كل مناسبة.

فهؤلاء هم علماء السوء وخطباء الفتنة وأعوان الحكم الجبري وأذناب السلطة الذين حذرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم فقال: «سيكون أمراء فسقة جورة، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولن يرد علي الحوض» وقال: «إني لا أتخوف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً، فأما المؤمن فيجزه إيمانه، وأما المشرك فيقمه كفره، ولكن أتخوف عليهم منافقاً عالم اللسان، يقول ما تعرفون ويعمل ما تنكرون».

أما ما ورد لنا من أخبار السلف الصالح رضوان الله عليهم عن علاقة الحكام والمحكومين، فقد جاءتنا القصص المعبرة عن حال هذه العلاقة ومدى ترابطها، ومدى التعاون التام بينهما لتطبيق الإسلام وأحكامه؛ للحفاظ على أحكام الإسلام ودولته انطلاقاً من الفهم الصحيح للأحكام الشرعية المبينة في الكتاب والسنة، قال تعالى (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران 104] وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» فنلاحظ اشتمال الأدلة السابقة على العلاقة القائمة بين الحاكم والمحكوم، بأنها علاقة نصح وإرشاد وتقويم للحفاظ على الدين والأمة؛ لأن النصيحة فيها الخير لهم ولمن يتولون أمرهم، وقد سار الأمر على هذه الحال في زمن الصحابة ومن بعدهم بكل حرص وتعاون، بل وكانت النصيحة تطلب من قبل الحاكم لتنفيذ عمله، فلا قدسية للحاكم المسلم، فهذا أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) يقول في أول خطاب له بعد بيعته على الخلافة «أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وان أسأت فقوموني..» إلى أن قال «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم» فهذا طلب من الخليفة الأول أبو بكر الصديق بمحاسبته والوقوف له وعدم طاعته في حالة مخالفة أمر الله ورسوله، فأين حكام اليوم من أبي بكر!

وهذا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقف على المنبر ويقول: «أيها الناس من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقومه»، فيجيبه أحدهم: «لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا»، فأين هي قداسة الحاكم وأي حاكم، إنه أبو بكر وعمر…

وعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) تقف له امرأة في مسألة تحديد المهر وقد تلت عليه الآية الكريمة (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا) [النساء 20] وقوله قنطار يدل على إباحة التوسع في المهور فكيف يضع عمر حداً له؟ فأجابها بقوله «أصابت امرأة وأخطأ عمر».

هذه فروق كبيرة وجوهرية بين اليوم والأمس. فقد كان الحكام أنفسهم يرسمون العلاقة بينهم وبين ولاتهم من جهة وبين الأمة من جهة أخرى انطلاقاً من فهم الأحكام الشرعية، فقد ورد عن سيدنا علي (رضي الله عنه) قال في كتابه لواليه على مصر مالك بن الأشتر يحدد له علاقته مع الأمة «اعلم يا مالك، إني وجهتك إلى بلاد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وإن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كانت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كانت تقول فيهم، وإنما يستدل عن الصالحين بما يجري الله على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، وأشعِرْ قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخٌ لك في الدين، أو نظير لك في الخَلْق، يفرط منهم الزلل وتعرض عليهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك، أنصف الله وأنصف الناس من نفسك وخاصة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك، فإن لا تفعل تظلِم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده من رعيته، ومن خاصمه الله أدحض حجته وكان الله حرباً عليه حتى ينـزع أو يتوب، وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته، من أقامه على ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد. ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعية، ولا تُحدثن سُنة تضر بشيء من مضي تلك السنن فيكون الأجر لمن سنها والوزر عليك بما نقضت منها. وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمقها في العدل وأجمعها لرضا الرعية.

وقال الحسن البصري في وصف الحاكم العادل: «إن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة لكل مظلوم، ومفزع كل ملهوف، وهو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم،وينقاد إلى الله ويقودهم، وهو كالعبد الذي ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، وهو الذي لا يحكم في عباد الله بحكم الجاهلية ولا يسلك بهم سبيل الظالمين، ولا يسلط المستكبرين على المستضعفين، فهو وصي اليتامى وخازن المساكين يربي صغيرهم ويمون كبيرهم».

هذا ما فهمه الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم في الحفاظ على العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ومارسوه عندما كانوا حكاماً ورعية، وفهموا أن الحفاظ على هذه العلاقة ليس أمراً مخيراً للقيام به أو تركه، بل فرض قد فرضه الله عليهم وجعل ذلك في علماء الأمة، لأنهم القادة الحقيقيون للأمة والثلة الواعية فيها. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء» وهذا ما أثبته الواقع العملي في كل عصر.

وقف أمير المؤمنين معاوية يوماً على منبره بعد أن قطع بعض الأعطيات عن أفراد المسلمين فقال: اسمعوا وأطيعوا، فقام إليه أبو مسلم الخولاني ليحاسبه على هذا التصرف الخاطئ قال: لا سمع ولا طاعة يا معاوية، قال: ولمَ يا أبا مسلم؟ فقال: يا معاوية كيف تمنع العطاء وأنه ليس من كدك ولا من كد أبيك ولا من كد أمك، فغضب معاوية ونزل عن المنبر وقال للحاضرين مكانكم وغاب ساعة عن أعينهم، ثم خرج عليهم وقد اغتسل فقال: إن أبا مسلم كلمني بكلام أغضبني، وإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «الغضب من الشيطان، والشيطان خلق من نار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحد فليغتسل» وإني دخلت فاغتسلت، وصدق أبو مسلم، إنه ليس من كدي ولا من كد أبي، فهلموا إلى عطائكم.

وهذا منذر بن سعيد العالم الجليل يحاسب الحاكم. فقد أقبل الخليفة عبد الرحمن الناصر لدين الله بن عمارة الزهراء أيما إقبال وأنفق من أموال الدولة الشيء الكثير، وهي في حالة قصور فأخرة وكان يشرف عليها بنفسه…. وكان منذر بن سعيد يتولى خطبة الجمعة والقضاء، فلما كان يوم الجمعة اعتلى المنبر والخليفة الناصر حاضراً والمسجد غاص بالمصلين، وابتدأ خطبته قارئاً قول الله تعالى في سورة الشعراء (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ءَايَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الشعراء 128-135] ثم ذكر قوله تعالى: (  قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى) [النساء 77] ثم مضى في ذم الإسراف على البناء بكل كلام جزل شديد، ثم تلا قوله تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [التوبة 109] ثم راح يحذر ويحاسب حتى أدرك من حضر من الناس وخشعوا، وقد علم الناصر أنه المقصود فبكى وندم على تفريطه.

وقصة العز بن عبد السلام الملقب ببائع الملوك عندما قام بمحاسبة الملك الصالح إسماعيل في حادثة الخيانة السياسية المشهورة، الذي تحالف فيها مع الصليبيين ليساعدوه على نجم الدين أيوب حاكم مصر، وسلم إليهم لقاء ذلك قلعة صفد وقلعة الشقيف وبلادهم وصيدا وطبريا، وما أشبه اليوم بالأمس.

هذا غيض من فيض مما روي عن سلفنا في علاقتهم مع حاكمهم، نعم إن صلاح الناس بصلاح العلماء، وفسادهم بفساد علمائهم وحكامهم، بخلاف حالنا اليوم التي تولاها حكام ظلمة، وأعانهم بها علماء فسقة، زينوا لهم أعمالهم القبيحة وأقوالهم الفاسدة. عينهم الكافر المستعمر في غفلة من الأمة وخيانة من بعض أبنائها، فاستجابوا لإغراءاته، وصدقوا وعوده (وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) [النساء 120].

بعد أن كانت دولة الإسلام الدولة الأولى في العالم حين انتزعت الصدارة وزمام القيادة من دولتي الفرس والرومان، وصلت إلى درجة أنها إن أشارت إلى الشرق يطأطئ وإن أشارت إلى الغرب يومئ، وأصبحت زهرة الدنيا حضارة ومدنية ورقياً فاتجهت إليها الأنظار وصارت مهوى الأفئدة.

ولما تقاعس العلماء عن أداء مهمتهم، ورضيت الأمة بحكامها الظلمة، انتقلوا من مركز القيادة إلى مركز التبعية، ينفذون ما تريده الدولة الكافرة الحاقدة على الإسلام وأهله، فنتج ما نتج من انفصال بين الحكام والمحكومين.

ولعلاج هذه العلاقة بين الحاكم والمحكوم وجعلها علاقة كما أمر الله سبحانه وتعالى، جعل الشرع محاسبة الحكام فرضاً على المسلمين، وأمرهم بالمحاسبة وبقول الحق أينما كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم، كما  بايعوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيعة العقبة الثانية على قول الحق فقالوا: «وأن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم».

وأما محاسبة الحكام وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فإنه بالرغم من أنها داخلة في آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد جاءت نصوص صريحة بالأمر بمحاسبة الحكام، فعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر».

فهذا نص في الحاكم ووجوب قول الحق عنده ومحاسبته، وقد حث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على مكافحة الحكام الظلمة مهما حصل في سبيل ذلك من أذى، حتى لو أدى إلى القتل، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فنصحه فقتله» وهذا من أبلغ الصيغ في التعبير عن الحث على تحمل الأذى حتى الموت في سبيل تغيير الحكام وكفاح ظلمهم.

إن كفاح ظلم الحكام الذي نراه اليوم،ومحاسبة هؤلاء الحكام على أعمالهم كلها وعلى خيانتهم وعلى تآمرهم على الأمة وتنازلهم عن أرض الإسلام لأعداء الأمة، فرض فرضه الله علينا معاشر المسلمين، والقيام بهذا الفرض هو الذي يزيل الفواصل الموجودة بين الأمة والحكام، وهو الذي يجعل الأمة والحكام فئة واحدة وكتلة واحدة قوية، وهو الذي يضمن التغيير على الحكام ويضمن تغييرهم، وهو طريق النهضة، فالنهضة لا يمكن أن تأتي إلا عن طريق الحكم حين يقام على عقيدة الإسلام، ولا سبيل إلى ذلك إلا بإيجاد الحكم القائم على العقيدة الإسلامية، وإيجاد الحكام على هذا الأساس، ولا سبيل إلى ذلك إلا بكفاح الحكام الظلمة ومحاسبتهم وتغييرهم.

هذا هو السبيل الوحيد لتغيير واقعنا السيئ، وإرجاع العلاقة بين الحكام والمحكومين علاقة فئة واحدة.

وفي الختام أقول: إن الأمة الإسلامية، وهي الودود الولود، لم تعقم من إنجاب علماء عاملين، أو شخصيات إسلامية تجمع بين العلم الغزير والرجولة الحقة لإعادة الحكم بما إنزل الله وإقامة الدولة الإسلامية.

نسأل الله أن يكون ذلك قريباً إنه سميع مجيب.

موسى عبد الشكور – فلسطين – الخليل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *