العدد 255 -

العدد 255- السنة الثانية والعشرون، ربيع الثاني 1429هـ، الموافق نيسان 2008م

تدويل القضايا والأزمات: انتحار وليس حلاً

تدويل القضايا والأزمات: انتحار وليس حلاً

 

عرفت موسوعة الأمم المتحدة التدويل “Internationalization” بأنه مصطلح يستخدم عادة من أجل الحماية الدولية المتعددة الأطراف، لإقليم من الأرض أو مناطق مائية أو قنوات، ويتم بموجب اتفاقيات دولية.

فيما عرفه قاموس أكسفورد الإنكليزي بأنه مصطلح يستخدم في ظل نظام دولي كبير، لغاية وضع دولة أو إقليم تحت الإدارة المشتركة أو الحماية لدولتين أو لمجموعة مختلفة من الأمم.

وقد تخطى استخدام المصطلح للتعبير عن الإشراف الدولي على منطقة استراتيجية مختلف عليها، إلى استخدامه بمعنى تناول القضايا على المستوى الدولي، ونقل البحث فيها من المستوى المحلي والإقليمي لتوضع على طاولة التداول الدولي.

لقد أصبح أمر تدويل القضايا والأزمات، أي تناولها بشكل دولي، أبرز السبل المطروحة للبحث عن حل لها، بعد خروج حسم الصراع بين الدول الكبرى عن المواجهة المباشرة، ودخول المواجهة مرحلة جديدة بعدما أوجدت الدول المنتصرة في الحرب الثانية هيئة الأمم المتحدة، وأوكلت إلى ذراعها الأقوى مجلس الأمن مهمة تولي البحث في القضايا المختلفة حفاظاً على السلم والأمن الدوليين.

فبعد خروج الدول الكبرى المتصارعة على خيرات العالم وثرواته، والباحثة عن نفوذ أكبر لها فيه، من حربين عالميتين طاحنتين أودتا بحياة الملايين من البشر، قررت هذه الدول إيجاد هيئة توكل إليها مهمة الحفاظ على الأمن العالمي، وهو ما يعني منع أي دولة من هذه الدول، أو أي دولة تطمح في الصعود إلى مرتقى الدول الكبرى، من أن تتلاعب بميزان القوى الدولي الذي تشكل هذه الدول ركائزه الأساسية.

فانتقل الصراع بين الدول إلى أروقة مجلس الأمن، وأصبح بموجب الميثاق -الذي وقعت عليه الدول المؤسسة وانضمت بموجبه باقي دول العالم تباعاً- مخولاً بالنظر في القضايا التي تحدث في أية بقعة في العالم، وتقرير ما إذا كانت هذه القضايا تشكل تهديداً للأمن والسلم الدوليين، ومن ثم التحقيق في هذه النـزاعات، وإصدار التوصيات اللازمة التي تبدأ بالمفاوضات، وتمر باتخاذ تدابير مؤقتة كالضغط والحصار وصولاً لاستخدام القوة العسكرية.

فأخذ مجلس الأمن يبحث مختلف القضايا الدولية المشتعلة بين الدول أي في السياسة الخارجية، أو حتى في داخل الدولة نفسها أي في السياسة الداخلية، خصوصاً إذا ما تعلق الأمر بدول العالم الثالث، مبتعداً عن البحث في قضايا الدول الكبرى، ويبحث المجلس القضايا سواء أرفعت إليه أم لم ترفع، فتقوم كل دولة من الدول الخمس عشرة التي تتشكل من الدول دائمة العضوية، وأخرى يتم انتخابها من قبل هذه الدول، بوضع تصورها للحل، ويسلط الضوء على الدول الخمس دائمة العضوية كونها تملك حق النقض (الفيتو)، فيضخم مجلس الأمن  قضايا ويضع أخرى، تبعاً لتوافق القوى الكبرى وتعارضها، أو قدرة دولة منها على فرض تصورها أو عجزها على ذلك، ويتخذ الإجراء في حال التوافق، وتترك القضية كما هي في حال حدث خلاف، أو إذا استعملت إحدى الدول الكبرى حقها في الفيتو بموجب الميثاق.

وفق هذه الطبيعة لمجلس الأمن، فإن الدول الكبرى وعلى رأسها الدولة الأولى في العالم أخذت تروج لمصطلح التدويل على أنه الحل الناجع للقضايا المختلفة، والبلسم الشافي الذي يخرج هذه الدول من أزماتها التي تقع فيها، على أنه إنما يعني في الحقيقة إخضاع هذه الدول لسلطان الدول الكبرى وعلى رأسها الدولة الأولى أميركا التي تستخدم مجلس الأمن كأداة من أدوات بسط سيطرتها.

ويظهر الصراع بين الدول الكبرى في مجلس الأمن جلياً بالرجوع إلى عدد المرات التي استخدم فيها حق النقض منذ إنشاء الهيئة عام 1945م، فقد استخدم الاتحاد السوفياتي وروسيا حق الفيتو 120 مرة، والولايات المتحدة 76 مرة، وبريطانيا 32 مرة، وفرنسا 18 مرة، بينما استخدمته الصين خمس مرات، وكان استخدام كل من الدول الكبرى لحق النقض متعلقاً بمصالحها، حيث استخدمت أميركا الفيتو لحماية دولة يهود التي تبنتها كقاعدة متقدمة لها في قلب العالم الإسلامي 35 مرة، واستخدمتها كذلك في مشاريع متعلقة بفيتنام ونيكاراغوا، وعطلت ما مجموعه 53 قراراً. أما الاتحاد السوفياتي فقد استخدم حق النقض في العشر الأوائل من عمر المنظمة 79 مرة، وقد استخدمته روسيا وريثة الاتحاد في قضية البوسنة إسناداً للصرب. وبريطانيا استخدمته لحماية مصالحها في جنوب روديسيا أو ما يعرف اليوم بزيمبابوي، وفرنسا استخدمته لحماية مصالحها في جزر القمر، واشتركت مع بريطانيا في نقض قرار متعلق بالحرب الثلاثية على مصر. أما الصين فقد استخدمته لمنع دخول منغوليا وعرقلة دخول بنغلاديش للهيئة، وبناءً على ما سبق يظهر الصراع على المصالح بين الدول الكبرى ماثلاً في مجلس الأمن، فكل دولة تسعى لمصالحها لا إلى إنهاء النـزاع أو الصراع.

وغالباً ما يكون تدخل مجلس الأمن بعد احتدام الصراع وإزهاق الأرواح وتدمير الممتلكات وتدفق اللاجئين بمئات الآلاف أو الملايين، ويقتصر دور الأمم المتحدة حينها على توفير الحاجات الأساسية للاجئين إن فعلت دون معالجة أسباب المشكلة، كما هي الحال في قضية فلسطين ودارفور وكشمير، وفي معظم الأحيان فإن القضايا تبقى مشتعلةً أو تزيد اشتعالاً، وتعزز الدول الكبرى عبر قوات الأمم المتحدة دعمها للمتمردين الآتين من تشاد، وكما عززت أميركا تواجدها على أبواب الصين بنشر عشرات الآلاف من قواتها للفصل بين الكوريتين بقرار من الأمم المتحدة لما كان مجلس الأمن مجمداً.

أما افتعال الأزمات عن طريق مجلس الأمن كأداة لزيادة نفوذ الدول الكبرى وعلى رأسها الدولة الأولى في العالم، فالعراق أكبر شاهد على ذلك، حيث ادعت أميركا امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، ودفعت بلجنة التحقيق حول أسلحة العراق التابعة للأمم المتحدة لإضعاف القوة العسكرية للعراق شيئاً فشيئاً، وإصدار التقارير التي تدينه، واستفزازه بدخول المواقع الحساسة في الدولة، ولما أوشكت الهيئة أن تكون عقبة في طريق أميركا لاحتلال العراق، ضربت بها أميركا عرض الحائط وتجاوزتها لتحتل العراق، وتأتي بها بعد ذلك شاهد زور لتبارك احتلال أميركا له، وتعطي القوات الأميركية صفة القوات الدولية بإشراك بعض قوات من دول أخرى، وما افتعال أزمة إيران النووية لتعزيز التواجد الأميركي في الخليج إلا مثال آخر على استخدام مجلس الأمن كأداة من أدوات الهيمنة وبسط النفوذ.

إن هذه الطبيعة لمجلس الأمن الدولي بوصفه مجلساً يمثل إرادة الدول الكبرى بصفة قانونية وافقت عليها دول العالم، ولصلاحياته المطلقة في التدخل في شؤون الدول وسيادتها واتخاذ الإجراءات بحقها ومن بينها توجيه ضربات عسكرية لها أو فرض حصار خانق عليها، ولامتلاكه تعيين الأمين العام للأمم المتحدة وأعضاء المحكمة الدولية، ولزوم تصويته على إخراج أي عضو ينتهك الميثاق، وفوق ذلك استحالة إدخال التعديلات عليه لتطلّب ذلك التعديل موافقة ثلثي الأعضاء في الجمعية العامة ومن ضمنهم الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، هذه الطبيعة تري بأن مجلس الأمن إنما هو عبارة عن أداة بيد الدول الكبرى وعلى رأسها الدولة الأولى في العالم، وهي حاكم وجلاد في آن معاً، ينفذ سياسات هذه الدول، ويبقي العالم ولا سيما الدول الضعيفة تحت رحمة هذه الدول تتلاعب فيه كما تشاء، وتنجو هي من أية مساءلة لكون الميثاق الدولي الذي خطته أيديها منحاز لها، وبذلك فإن تدويل أية قضية أو أزمة، سواء أكانت بين دولتين أو أكثر أم في داخل الدولة نفسها، لا يشكل حلاً لها على الإطلاق، بل هو انتهاك صارخ لسيادة تلك الدول من قبل الدول الكبرى، ويعتبر السماح لهذه الدول الكبرى بتداول الأزمات انتحاراً سياسياً يؤدي إلى خضوع ذلك البلد أو تلك البلدان للاستعمار والوصاية، وتعزيز الدول الكبرى لنفوذها فيه، بما هو أشبه بأيام الانتداب والمبعوث السامي، وما واقع لبنان الذي تتلاعب فيه أيادي الدول الكبرى عنا ببعيد.

إن وجود هيئة الأمم المتحدة وذراعها الأقوى مجلس الأمن الذي يفرض على الدول تدويل قضايا، ويفتح الباب واسعاً لتدخل الدول الكبرى في تلك الدول، لهو سبب رئيسي من أسباب شقاء العالم وبقائه تحت سيطرة الدول الكبرى وتحكمها فيه، وعقبة كأداء أمام ممارسة الدول والأمم والشعوب لسيادتها، فلا يجوز أن توجد مثل هذه الأسرة الدولية التي تجعل من نفسها شرطياً دولياً، ولا يجوز وجود قانون دولي مطلقاً، فالمجتمع الدولي لا يقاس على المجتمع العادي الذي لا بد له من كيان يرفع المظالم ويفصل المنازعات وهو الدولة التي تملك السلطان، فالمجتمع الدولي عبارة عن مجموعات بشرية تنشأ بينها علاقات، ولكل منها حق السيادة وحق الإرادة بشكل مطلق غير مقيد، وأي إجبار لها يعتبر سلباً للسيادة عنها وهي العبودية بعينها، وإن كان هناك جماعة دولية فيجب أن تقوم على أساس الاختيار بدخول الدول فيها وخروجها منها متى شاءت، وأن تقوم على المساواة في الحقوق بين الدول المختلفة، بغض النظر عن وقت انضمامها للجماعة، وبغض النظر عن مقدار قوتهم ومدى نفوذهم، وأن لا يفرض على أحد تنفيذ المقررات بالقوة، وبذلك تكون الجماعة الدولية جماعة دولية بحق لا عائلة دولية معينة يطلق عليها زوراً وبهتاناً أنها أسرة دولية، ولا دولة عالمية يطلق عليها زوراً وبهتاناً اسم هيئة الأمم المتحدة.

أما وجود قانون دولي فهو لا يصح بحال، لكون القانون أمر السلطان ولا سلطان على جميع دول العالم، ولكونه واجب التنفيذ يحتاج إلى سلطة تنفذه ولا يصح وجود سلطة عالمية تنفذ أوامرها بالقوة على جميع دول العالم فهو مدخل للحروب والمنازعات، ولكون القانون ينظم العلاقات، والعلاقات الدولية تنشأ بين المجموعات البشرية اختياراً، فتنظم كل دولتين أو أكثر بينهما العلاقات حسب مصالحهما وبرضاها بالاتفاق لا بموجب قانون.

وإن تغيير هذا الواقع الفاسد المتحكم فيه الدول الكبرى، ووقف جماحها عن استخدام الدولة العالمية المسماة هيئة الأمم والقانون الدولي لاستعمار الشعوب، لا يكون إلا بوجود دولة مبدئية تقف في وجه هذه الهيئة وتعيد الأمور إلى نصابها، في ظل صمت العالم عن هذا الاستعمار الجديد الذي يحمل صفة الشرعية، هذه الدولة هي دولة الخلافة القادمة قريباً بإذن الله، كما ويجب على الأمة، مع العمل لإقامة تلك الدولة التي بيدها إنقاذ العالم، رفض مشاريع التدويل ووقف المؤامرات التي تحاك باسم هيئة الأمم التي لم تجلب سوى الدمار والخراب، والأمثلة التي تفضح أمرها أكثر من أن تحصى، ويكفي في ذلك مراجعة ميثاقها الظالم وتاريخها الأسود في تأزيم القضايا وصرف الأنظار عن الحل وتكريس الأمر الواقع والحل الوسط بدلاً من إحقاق الحق، وهل يجتنى من القتاد إلا الشوك؟!

أبو تقي الشامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *