العدد 255 -

العدد 255- السنة الثانية والعشرون، ربيع الثاني 1429هـ، الموافق نيسان 2008م

الطب في النظام الرأسمالي (2)

الطب في النظام الرأسمالي (2)

 

قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لمن أخبره أنه طبيب: «الله الطبيب، بل أنت رجل رفيق» (أبو داود)، أي: أنت ترفق بالمريض وتتلطفه، والله يبرئه ويعافيه.

لطالما كان الطب علماً إنسانياً هدفه تخفيف آلام ومعاناة البشر الجسدية والنفسية أولاً وقبل كل شيء. وعلى مدار التاريخ، كان الطبيب شخصاً نال الاحترام والثقة، باعتباره رفيق المريض، تعالى على مصالحه وشهواته الذاتية في سبيل مساعدة الضعفاء، وأقسم أن لا يضر محتاجًا أو يخون أمانة.

جاء في قَسَمِ أبيقراط في القرن الرابع قيل الميلاد: «أقسم أن أحمي المرضى من الأذى والظلم… وأن لا أصف لمريض دواءً قاتلاً ولا أعطيه نصيحةً تؤدي لموته.. أقسم أن أحيط حياتي وعلمي بالطهارة والقداسة، وبغض النظر عن أي بيتٍ أزور، سأسعى إلى فائدة المريض متعالياً عن قصد الظلم أو الإساءة».

وعلى اختلاف الشعوب والحضارات التي شغلت من التاريخ حيزًا، واختلافها في النظرة إلى الحياة، بقيت للطب مكانته الإنسانية، وبقي قَسَمُ أبيقراط (بصيغِهِ المختلفة) منهجًا لا حياد عنه، حتى في أشد عصور الظلمات، إلا ما شذّ وندر من حالات فردية لا ترقى لأن تكون ظاهرة.

وأما قوانين حماية الملكية الفكرية، فهي أداة لكبار الرأسماليين للاحتكار والسيطرة على الأسواق، وهي أسلوب من أساليب الاستعمار الاقتصادي والثقافي، فرضتها الدول الكبرى الرأسمالية على دول العالم وشعوبه عن طريق المنظمة العالمية للتجارة، ليمنعوا الأمم الأخرى من الاستفادة الحقيقية من الاختراعات والأدوية الجديدة، لتظلّ بلادها أسواقاً استهلاكية لمنتجاتهم، ولتظلّ الأمم خاضعة لنفوذهم، يسرقون ثرواتها وخيراتها باسم الاستثمار والعولمة.

أما الإسلام، فقد نظّم الملكية الفردية باعتبارها مظهراً من مظاهر غريزة البقاء، فشرع للمسلم التملك لإشباع هذه الغريزة بما يضمن له البقاء والحياة الكريمة، فأباح له ملكية أكثر الأعيان كالأنعام والمساكن ومحاصيل الأرض، وحرم عليه بعض الأعيان كالخمر والخنـزير والمخدرات، كما حثه على التفكير وطلب العلم، وأباح له أخذ الأجرة على تعليم الآخرين. وشرع له أسباباً مبيحة للتملك كالبيع والإجارة والإرث، وحرم عليه أسباباً أخرى كالربا والقمار أو الغش.

والملكية في الإسلام بشكل عام هي إذن الشارع بالانتفاع بالعين، أما الملكية الفردية فهي: حكم شرعي مقدر بالعين أو المنفعة يضاف إلى الفرد ، فيمكّنه من الانتفاع بالعين وبأخذ العوض عنها. والملكية الفردية في الإسلام لا تثبت إلا بإثبات الحكم الشرعي لها، وتقريره لأسباب ملكيتها، فالحق في ملكية الشيء ليس ناشئاً عن الشيء نفسه أو كونه نافعاً، وإنما هو ناشئ عن إذن الشارع بملكيته بسببٍ من أسباب التملك الشرعية كالبيع أو الهبة.

وقد جعل الإسلام للفرد سلطاناً على ما يملك، يمكّنه من التصرف والانتفاع بما يملك وفق الأحكام الشرعية، وأوجب على الفرد صيانة الملكية الفردية، ووضع عقوباتٍ زاجرةً لكل من يعتدي على ملكية الآخرين.

وأحكام الملكية الفردية تشمل ملكية الأفكار والابتكارات. فصاحب الفكرة أو الابتكار هو مالكها، وله حق الانتفاع بها، وله أن يبيعها وأن يعلمها لغيره بأجر أو بدون أجر، كما أن له أن يدوّنها في كتاب أو على شريط أو غير ذلك ويبيعها أو يوزعها أو أن يحتفظ بها لنفسه وينتفع بها وحده. فهذا كله جائز وجاء به الإسلام. إلا أن للملكية الفردية وللبيع شروطاً جاء بها الإسلام أيضاً. ومن شروط الملكية أن يكون للمالك سلطان على ما يملك أعطاه الشرع إياه. ومن أركان البيع أن ينتقل السلطان من البائع إلى المشتري. ولا سلطان للبائع على ما باع بعد البيع أي بعد إعطاء السلطان. وهذا ينطبق على الدواء، فبعد أن يبيعه المخترع أو المكتشف يُصبح الدواء ملك من اشتراه، وله أن يُحلِّله ويدرس تركيبته ثم يصنعه بنفسه ويبيعه. وإذا علّم مخترع الدواء غيره كيفية صنعه وتركيبته تصبح كيفية صنعه ملك من تعلمها، وله أن ينتفع بها أو أن يعلمها لغيره بأجر أو بدون أجر. وصاحب السلطان يحق له أن يفعل بملكه ما شاء مما أقره الشرع (ولا عبرة في بقاء سلطان للبائع في حالة بيع الدواء أو كيفية تركيبه، لأن العبرة في أن يحصل المشتري على السلطان على ما اشترى لا أن ينـزع السلطان من البائع). والبائع لا يحق له أن يشترط شيئاً يخالف هذا لأن هذا من أركان البيع، فإن خالفه أو اشترط شرطاً ينقص منه فإن ذلك مخالف للشرع ويكون الشرط باطلاً.

أمّا الشروط، التي نصّت عليها القوانين الوضعية، وسمحت بها لمؤلفي الكتب والبرامج والمخترعين أن يشترطوها باسم الحماية الفكرية، كحقوق الطبع وبراءة الاختراع، فهي شروط غير شرعية، لا يجب الالتزام بها، لأنّ مقتضى عقد البيع في الإسلام، كما يعطي للمشتري حقّ الملكية، يعطيه حقّ التصرف بما يملك، وكلّ شرط مخالف لمقتضى عقد البيع فالمشتري في حِلّ منه، ولو كان مئة شرط، فعن عائشة (رضي الله عنها): «أَنَّ بَرِيرَةَ أَتَتْهَا وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ قَدْ كَاتَبَهَا أَهْلُهَا عَلَى تِسْعِ أُوَاقٍ، فَقَالَتْ لَهَا: إِنْ شَاءَ أَهْلُكِ عَدَدْتُهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً وَكَانَ الْوَلاءُ لِي. فَأَتَتْ أَهْلَهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُم،ْوَأَبَوْا إِلا أَنْ يَشْتَرِطُوا الْوَلاء لَهُمْ، فَذَكَرَتْهُ عَائِشَةُ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَقَالَ: افْعَلِي، فَفَعَلَتْ. فَقَامَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْه،ِ قَال:َ مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ، قَال: فَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِل، كِتَابُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُهُ أَوْثَقُ، وَالْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» (رواه أحمد)، فالحديث يدلّ بمنطوقه على أنّ الشرط المخالف لما في كتاب الله وسنة رسوله لا يجوز الالتزام به، وما دامت شروط حماية الملكية الفكرية تجعل الانتفاع بالعين المباعة مقصورًا على انتفاع دون انتفاع آخر، فهي شروط باطلة، مخالفة لما في كتاب الله وسنة رسوله؛ لكونها مخالفة لمقتضى عقد البيع الشرعي، الذي يُمكّن المشتري من التصرف والانتفاع بالعين بأيّ وجه من الوجوه الشرعية كالبيع والتجارة والتصنيع والهبة. وإنّ الشروط التي تُحرم الحلال شروط باطلة لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً» (رواه الترمذي). وعليه فإنّه لا يجوز شرعاً أن تكون حقوق الطبع أو النسخ أو براءة الاختراع محفوظة، بل هي حقوق مباحة.

وهذا الحكم الشرعي كفيل بفتح السوق أمام منتجي الأدوية لإنتاج كل أنواع الدواء، فينخفض سعر الدواء بصورة كبيرة، ويصبح في متناول الجميع، بل ويُحفَّزُ البحث العلمي الذي لا يبقى متحجراً بسبب حيازة الأفكار ومنع تداولها، أو بسبب تركيزه على مجالات الربح وإهمال أمراض الفقراء.

وثمة وسيلة بديلة لتمويل وتحفيز الأبحاث، وهي وسيلة أفضل كثيراً من نظام البراءات، سواء من حيث توجيه العملية الإبداعية أو ضمان انتشار الاستفادة من المعرفة على أوسع نطاق ممكن. وتتلخص هذه الوسيلة في إنشاء صندوق جوائز طبية من بيت المال يكافئ هؤلاء الذين يكتشفون العلاجات واللقاحات. ويمكن أن يقدم هذا الصندوق أكبر الجوائز لمنتجي العلاجات أو سبل الوقاية من الأمراض الأخطر والأكثر انتشارًا التي يبتلى بها مئات الملايين من البشر.

وطبعًا بما أن الحضارة الإسلامية تصوّر الحياة على أنها مزيج من المادة والروح، وتسيِّر أعمال الإنسان بأوامر الله ونواهيه، وغاية الغايات فيها إنما هو نوال رضوان الله تعالى، فإن العلماء والباحثين لا يقتصرون على القيمة المادية، ولا يبغون الربح فقط من تصنيع الدواء، بل يضعون نُصب أعينهم إعانة الضعيف وعلاج المريض حتى ولو لم يجنوا الأرباح الطائلة. قال رسول الله ‏(صلى الله عليه وآله وسلم): «‏الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» (رواه الترمذي).

ومن اتقى الله سبحانه، لم يستغل ضعف الناس، ولم يرضَ أن يشق عليهم، أو يمنع عنهم العلاج والدواء. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «من ضار أضرَّ الله به، ومن شاقَّ شاقَّ الله عليه» (رواه أبو داود).

أبو الغيث – فلسطين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *