العدد 145 -

السنة الثالثة عشرة – صفر 1420 هـ – حزيران 1999م

سـريـة بئـر مـعـونـة

بعد ما أصاب المسلمين في أحد ويوم الرجيع، طمع المشركون في استئصال الإسلام بقتل رسول السلام عليه الصلاة والسلام، فقال أبو سفيان لنفر من قريش: ما أحد يغتال محمداً، فإنه يمشي في الأسواق فندرك ثأرنا. فأتاه رجل من الأعراب وقال له أنا صاحبه، إن وفّيتني خرجت إليه حتى أغتاله، فأعطاه أبو سفيان بعيراً وناقة، وأوصاه أن يطوي أمره، حتى لا يصل الخبر إلى محمد. فلما التقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحنى عليه كأنه يُسارّه، فجبذه أسيد بن حضير رضي الله عنه، فإذا بخنجر داخل إزاره، فصدق رسولَ الله فيما جاء به، وأمّنه رسول الله  صلى الله عليه وسلم، وعرض عليه الإسلام، فدخل في دين الله. ومعاملة بالمثل أرسل رسول الله  صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري وسلمة بن أسلم (وقيل جبار بن صخر) إلى أبي سفيان ليقتلاه، ولكن الله لم يكتب لهما شرف قتل أبي سفيان، وأكرم الله أبا سفيان فيما بعد فدخل في دين الله.

                ثم كانت سرية بئر معونة في شهر صفر من السنة الرابعة للهجرة، روى البخاري عن أنس بن مالك قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلاً لحاجة يقال لهم القُـرّاء، فعرض لهم حيّان من بني سُـلَيم رِعْـل وذكوان، عند بئر معونة، فقال القـوم: والله ما إياكـم أردنـا، وإنمـا نحـن مجتازون في حاجة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقتلوهم، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم شهراً في صلاة الغداة، وذاك بدء القنوت وما كنا نقنت.

                قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب بئر معونة على رأس أربعة أشهر من أحد. وذلك أن أبا براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فعرض عليه رسول الله الإسلام، ودعاه إليه، فلم يُسلم ولم يبعد من الإسلام، وقال: يا محمد، لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد، فدعَوْهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أخشى عليهم أهل نجد، قال أبو براء: أنا لهم جار، فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو في أربعين رجلاً من أصحابه (والصحيح أنهم كانوا سبعين رجلاً كما روى البخاري ومسلم)، منهم الحارث بن الصمّـة، وحرام بن ملحان، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق، فساروا حتى نزلوا ببئر معونة، وهي بين أرض بني عامر، وحرّة بني سليم، وهي إلى حرّة بني سليم أقرب. فلما نزلوها، بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه عدا على حرام فقتله، واستصرخ عليهم بني عامر، فأبوا أن يخفروا أبا براء، وأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سُلَيم من عُصيّة ورِعْل وذكوان، فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم، وقاتلوهم حتى قُتلوا من عند آخرهم، رحمهم الله جميعاً، إلاّ كعب بن زيد، فإنه أصيب، ورفع من بين القتلى وبه جراح، فعاش حتى استشهد يوم الخندق.

                وروى البخاري أن عامر بن الطفيل سأل عمرو بن أمية الضمري، وكان في سرح المسلمين، فأسره المشركون، سأله عن أحد القتلى من يكون؟ فقال عمرو: أنه عامر بن فهيرة، قال ابن الطفيل: لقد رأيته بعدما قُتل رفع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض، ثم وُضع، وروى يونس بن بكير عن ابن إسحاق أن عامر بن الطفيل قدم المدينة بعد ذلك، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: من رجل يا محمد لما طعنته رفع إلى السماء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هو عامر بن فهيرة.

                وروى الوافدي أن الذي قتل عامر بن فهيرة جَبّار بن سَلمى الكلابي، وأنه لما طعنه بالرمح قال: فزت ورب الكعبة. ثم تساءل جبّـار بعد ذلك: ما فاز، السـتُ قد قتلـت الرجل، فسـأل عن مقالته فقالوا: الشـهادة، فكان ذلك مما دعاه إلى الإسلام فأسلم. وفي مغازي موسى بن عقبة عن عروة أنه قال لم يوجد جسد عامر بن فهيرة يرون أن الملائكة وارته.

                وأتى النبـيَّ صلى الله عليه وسلم خبـرهــم، فـنـعـاهـم فقـال: إن أصـحـابـكـم قد أصـيبـوا، وإنهم قد سـألوا ربهم فقالوا ربَّنا أخبر عنا إخـوانـنـا بمـا رضـينـا عنـك ورضـيـت عـنـا.

                وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري، ورجل من الأنصار، فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر فقالا: والله إن لهذه الطير لشأناً، فأقبلا لينظرا، فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة، فقال الأنصاري لعمرو: ما ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لتخبرني عنه الرجال، ثم قاتل القوم حتى قُتل، وأسروا عمرو بن أمية، فلما أخبرهم أنه من مضر، أطلقه عامر بن الطفيل، وجزّ ناصيته، وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه. فخرج عمرو بن أمية، حتى إذا كان بموضع يقال له قرقرة الكدر، بينه وبين المدينة ثمانية برد، أقبل رجلان من بني عامر، حتى نزلا معه في ظلٍّ هو فيه، وكان بين بني عامر ورسول الله صلى الله عليه وسلم عقد جوار، لم يكن يعلم به عمرو بن أمية، فحين عرف أنهما من بني عامر قرّر أن يقتلهما، فأمهلهما حتى إذا ناما، عدا عليهما فقتلهما، ظاناً أنه أخذ ثاراً من بني عامر، فيما أصابوا من أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وسلم فلما قدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره الخبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد قتلت قتيلين، لأدينّهما. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارهاً متخوفاً. فبلغ ذلك أبا براء، فشق عليه إخفار عامر بن الطفيل إياه، وما أصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه وجواره. وقد أنشد حسان بن ثابت، شاعر الرسول، يحرِّض بني أبي براء على عامر بن الطفيل، فحمل ربيعة بن عامر بن مالك على عامر بن الطفيل، فطعنه بالرمح، فوقع في فخذه، ولم يصب منه مقتلاً، ووقع عن فرسه، فقال: هذا عمل أبي براء، إن أمت فدمي لعمّي، فلا يُتْبعَنَّ به، وإن أعش فسأرى رأيي فيما أتي إليّ.

                وكان من تداعيات مقتل الرجلين من بني عامر على يد عمرو بن أمية الضمري، أن رسول الله خرج إلى بني النضير يستعينهم في دية القتيلين، فتآمروا عليه لقتله، ذلك أنهم ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم في أضعف حالاته، إذ جاء يستعينهم في دية قتيلي بني عامر، فهمَّ أحدهم أن يلقي على رسول الله صلى الله عليه وسلم صخرة، وهو قاعد إلى جنب جدار من بيوتهم، فأتاه الخبر من السماء، فقام وخرج راجعاً إلى المدينة، وأمر صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتهيؤ لحربهم، والسير إليهم، واستعمل على المدينة ابن أمِّ مكتوم، وحاصرهم ستة أيام، وهم ممتنعون في حصونهم، فأمر صلى الله عليه وسلم بقطع النخيل والتحريق فيها، وأرسل إليهم المنافقون يثبتّونهم، ولكن الله قذف في قلوبهم الرعب، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُجليهم ويكف عن دمائهم، على أنّ لهم ما حملت الإبل من الأموال إلا السلاح. وفي إجلاء بني النضير نزلت سورة الحشر، وفيها نزل حكم الفيء .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *