الهجرة النبوية المباركة ماذا تعني لنا الآن؟
2008/01/25م
المقالات, كلمات الأعداد
2,924 زيارة
الهجرة النبوية المباركة ماذا تعني لنا الآن؟
قال الله تعالى: ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) [الأنفال 30]، وقال تعالى: ( إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) [التوبة 40]، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مخاطباً مكة: «والله إنك لخير أرض الله، وأحبُّ أرض الله إليّ، ولولا أني أُخرجتُ منك ما خرجت» رواه الإمام أحمد.
بدأ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) دعوته في مكة واستمر فيها ثلاث عشرة سنة رغم العنت والتضييق الذي واجهه من قومه. وقد ندب بعض أصحابه للهجرة إلى الحبشة كي لا يفتنهم مشركو مكة عن دينهم.
قبل هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة، دأب ليس فقط على دعوة الأفراد والجماعات إلى الإسلام، بل أيضاً على طلب النصرة من القبائل ذات القوة كي تؤمّن له الحماية من أجل أن يبلّغ الرسالة، وكي تساعده على أخذ السلطة كي يتمكن من نشر الإسلام بالحجة وبالقوة المادية، وهذا مما زاد أذى قريش للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأتباعه ودعوته.
ولمّا أذِن الله لهذا الدين بالانتصار، وفّق نفراً من أهل يثرب للالتقاء برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في موسم الحج، فأسلموا وبايعوا بيعة العقبة الأولى المسماة بيعة النساء التي ذُكِرت فيما بعد في سورة الممتحنة ( يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [الممتحنة 12]، وأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معهم مصعب بن عمير يقرئهم القرآن ويدعو في يثرب إلى الإسلام. وفي موسم الحج التالي كان قد أسلم في يثرب نفر كثير، وجاء عدد منهم إلى الحج، وكانت بيعة العقبة الثانية التي تسمى بيعة الحرب، حيث التقى وفد منهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الليلة الوسطى من أيام التشريق، وكان اللقاء سرياً. وحضر مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عمه العباس كي يستوثق له، وكان لم يُسْلِمْ بعد. وكان في الوفد ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان. وبدأ العباس الكلام: «إن محمداً منا حيث قد علمتم… وهو في عزة من قومه ومنعةٍ في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه… فأنتم وما تحمّلتم من ذلك…». فقلنا له: «قد سمعنا ما قلت، فتكلَّم يا رسول الله…» فتكلّم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام، وقال: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأولادكم». وقال أحدهم: «إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إن نُهِكتْ أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له… فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة». قالوا: «نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله؟» قال: «الجنّة». قال أحدهم: «إن بيننا وبين الرجال (يعني اليهود) حبالاً نحن قاطعوها، فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟» فتبسَّم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قال: «بل الدَّمَ الدمَ، والهدمَ الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم», وبسط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يده وبايعوه على ذلك، وقال: «أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم بما فيهم» واختاروا اثني عشر نقيباً، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.
بيعة الحرب هذه فتحت باب الهجرة إلى يثرب التي أصبحت بعد الهجرة إليها تسمى المدينة المنوَّرة، وصار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يأمر أصحابه بالهجرة إليها حيث صار لهم هناك دار وإخوان. وظل الرسول ينتظر الوقت المناسب. وهاجر كل من يستطيع الهجرة من المسلمين ما عدا أبا بكر وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما. وأحسَّ مشركو قريش بأن هجرة المسلمين هذه قد تشكِّل خطراً عليهم حين يتحالفون مع أهل المدينة. فاجتمعوا في دار الندوة للتشاور في الأمر، وعرضوا أن يسجنوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو أن يقتلوه، أو أن يخرجوه، كما ذكرت الآية الكريمة المذكورة في أول هذه الكلمة. ولكن الله نجاه منهم ومن مكرهم.
تأخر أبو بكر كي يكون في صحبة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتأخر علي بن أبي طالب كي يردّ الودائع التي كانت عند رسول الله لأصحابها. ونام علي (رضي الله عنه) على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى إذا جاء المشركون لقتل الرسول لم يجدوه ووجدوا علياً مكانه. وكان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ذهب إلى أبي بكر وخرجا إلى غار في جبل ثور في أسفل مكة، حيث اختفيا ثلاثة أيام والمشركون يبحثون عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأعلنوا عن جائزة مائة من الإبل لمن يأتي به. وكان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبو بكر اتفقا مع عبد الله بن أريقط (وهو مشرك من بين الدِّيل) على أن يكون الدليل لهما في الطريق إلى المدينة. وقد أنجى الله رسوله في الغار مرة أخرى من مكر المشركين، وكانت هذه النجاة والوصول إلى المدينة سالماً نصراً من الله كما جاء في الآية الكريمة الثانية الواردة في أول الكلمة ( إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ). وهذه مكرمة سجّلها القرآن الكريم لأبي بكر (رضي الله عنه) حيث أثبت صحبته للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنها ليست صحبة مكانية فقط بل صحبة أن الله معه كما هو مع الرسول ( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ).
كانت الهجرة في 12 من شهر ربيع الأول أي بعد بيعة العقبة الثانية بثلاثة أشهر ولم تكن في أول شهر محرّم. وكان العرب يؤرخون بعام الفيل أو بأحداث أخرى، وحصلت مشاورة في خلافة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) واتفقوا على جعل الهجرة هي المَعلَم المهم للتاريخ، ذلك أنها الفاصل بين مرحلتين في حياة الأمة الإسلامية بل في حياة العالم. وكان العرب يحسبون السنة التي حصلت فيها الهجرة.
الهجرة إذاً لم تكن هروباً من المشاكل وخوفاً من أذى المشركين، بل كانت بحثاً عن مجالٍ رحب لتبليغ الرسالة ونشر الإسلام، ذلك أن رسالة الإسلام لم تكن لفئة محدودة من الناس، ولا لمكان محدود من العالم، ولا لفترة محدودة من الزمن، بل هي رسالة للعالمين. وهذه الرسالة ليست فقط معتقدات وعبادات، بل هي تنظيم لجميع شؤون الناس في الحياة. والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يسعى لأخذ قيادة الناس والمجتمع، أي لأخذ السلطة والحكم وإقامة الدولة الإسلامية التي تنشر الرسالة بالحجة والقوة المادية حيث يلزم.
من الأمور المهمة التي أنجزها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حين وصوله إلى المدينة المنورة إقامة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، تلك المؤاخاة التي جعلت الأنصاري يتنازل عن قسم من ماله أو داره لأخيه المهاجر، حتى إن بعض الأنصار كان يطلّق إحدى زوجاته كي يتزوجها أخوه المهاجر بعد انقضاء عدتها. وقد شرع الله حكم التوارث بين هذين الأخوين فترة من الزمن، ثم نسخ الله هذا الحكم وعاد التوارث بين أولي الأرحام، وهذا كما ورد في قوله تعالى: ( وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا ) [الأحزاب 6]، وقد أثنى الله سبحانه على هذه الأخوّة والمحبة بين المهاجرين والأنصار، فبعد أن أثنى الله على المهاجرين مدح الأنصار بقوله: ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [الحشر 9].
إن الهجرة من مكة إلى المدينة انتهت بعد فتح مكة، لأن الهجرة كانت تحصل من دار الكفر حيث يُمنع المسلم من ممارسة أحكام دينه أو بعضها إلى دار الإسلام، وبعد فتح مكة صارت دار إسلام. وحكم الهجرة هو محكم غير منسوخ عندما يحصل مناطه. وهو مندوب دائماً من دار الكفر إلى دار الإسلام إذا كان المسلم في دار الكفر يستطيع ممارسة أمور دينه كلها، مع وجود بعض التخصيصات. ويصبح حكم الهجرة واجباً إذا كان المسلم لا يستطيع ممارسة أمور دينه كلها. وإذا لم يجد المسلم دار إسلام يمكنه الهجرة إليها، فيمكنه أن يهاجر من دار الكفر التي تحد من أمور دينه إلى دار كفر أخرى تسمح له بممارسة أمور دينه، كما حصل مع المسلمين الذين هاجروا من مكة إلى الحبشة في بدء الإسلام، مع أن الحبشة كانت دار كفر، ولكن ملكها لم يكن يفتن المسلمين عن دينهم كما كان يفعل مشركو مكة. والمسلم مسؤول عن نفسه وعن أفراد أسرته لقوله تعالى: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) [التحريم 6]. فإذا كان المسلم يخشى على نفسه أو أسرته من العيش في أوروبا أو أميركا أو غيرها من بلاد الكفر، إذا كان يخشى أن تفسد عندهم بعض عقائدهم أو عباداتهم أو أخلاقهم أو أي شأن من شؤون دينهم فلا يجوز له أن يعيش في تلك البيئة، يقول تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ) [النساء 97].
والأمة الإسلامية الآن في حالة تمزق وذلٍ وتخلُّف، مع أنها تستطيع أن تكون قائدة للعالم. الأمة الإسلامية عندها الرسالة الإلهية التي أنزلها الله لتكون نور الهداية للبشرية، وعندها تاريخ المسلمين الذين ظلوا الدولة الأولى في العالم من أيام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى نهاية الخلافة العثمانية، وقد أودع الله في أرضها ثروات عظيمة يحتاج العالم كله إليها، وهي موجود في بقعة استراتيجية من الأرض تشكل واسطة العقد بين القارات، وفيها من الطاقة البشرية ما يكفي لإنجاز أضخم المشروعات. ومع كل هذه الميزات نرى شرذمة من اليهود يغتصبون أرض الإسراء والمعراج ويقتلون الناس ويعيثون في الأرض الفساد، وحكام المسلمين أعماهم الذل وأفقدهم الإحساس. وأميركا تحتل بلاد المسلمين وتهينهم وتضللهم، وحكام المسلمين عندها أذل من العبيد.
لماذا لا تأخذ شعوب الأمة الإسلامية الدرس من هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) التي نقل بواسطتها المسلمين من حال إلى حال، وأقام دولة نشرت النور والهداية والعدل في العالم.
( قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ @ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [المائدة 15-16].
2008-01-25