العدد 251 -

العدد 251- السنة الثانية والعشرون، ذو الحجة 1428هـ، الموافق كانون الاول 2007م

مع القرآن الكريم: علاقة العبودية بالحاكمية (3)

مع القرآن الكريم:

علاقة العبودية بالحاكمية (3)

 

ثالثاً: العبودية عهد وميثاق، والحاكمية عهد وميثاق:

قال تعالى في ميثاق العبودية: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) [الأحزاب 7]. فهذا عهد وميثاق أخذ على أولي العزم الخمسة من الرسل وبقية الأنبياء وأتباعهم، في إخلاص الدين وإبلاغ رسالته والتعاون والتناصر والاتفاق عليه.

وقال سبحانه في ميثاق الحاكمية: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [المائدة 7]. فهذا تذكير من الله لعباده المؤمنين بنعمته عليهم في الشرع الذي شرعه لهم في هذا الدين العظيم، المرسل به الرسول الكريم، وأخذ للعهد والميثاق عليهم في متابعته ونصرته وإبلاغه والقيام به، وهذا مقتضى البيعة التي كان الصحابة يبايعون عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وهذا كقوله تعالى: (وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الحديد 8].

رابعاً: الإخلال بعهد العبودية جاهلية، والإخلال بعهد الحاكمية أيضاً جاهلية:

قال تعالى: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ(64)وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(65)بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [الزمر 64-66]. وقال: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة 50].

ففي الأول استنكار واستهجان من فرط غباوة وجهل الذين يريدون تعبيد الخلق لغير الله، فمعنى (تأمروني أعبد) أي تعبِّدونني وتقولون لي آمن بآلهتنا، نؤمن بإلهك.

وفي الآية الثانية: إنكار وتوبيخ وتعجيب من حال من يتولى عن حكم الله وهو يبغي حكم غيره، والآية تعيير لليهود بأنهم مع كونهم أهل كتاب وعلم يبغون حكم الجاهلية التي هي هوى وجهل لا يصدر عن كتاب ولا يرجع إلى وحي.

إن تحقيق الحاكمية، تمكين للعبودية، وقيام بالغاية التي من أجلها خلق الإنسان والجان، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات 56]. أي ليطيعوه وحده لا شريك له. وإن المفهوم الواسع الرحيب للعبادة ليشمل علائق وأعمالاً كثيرةً، منها ما يمكن أن يقيمه الأفراد ومنها ما لا يمكن تحقيقه على الوجه الأكمل إلا في ظل دولة الإسلام، أو بمعنى آخر: منها ما يتم بالتحاكم ومنها ما يتم بالحكم.

يقول ابن تيمية رحمه الله: «العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين، وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة… وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف لعذابه وأمثال ذلك هي العبادة لله».

ولا شك أن دولة الإسلام تقصد إلى تهيئة المجتمع الإسلامي للقيام بالعبادة بهذا المعنى الشامل، فهي المسؤولة عن إقامة الصلاة في الناس على الوجه المرضي، وهي المسؤولة عن إقامة الجهاد على الوجه المشروع، وكذلك لها مسؤوليتها عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتطبيق نظم الحسبة، وهي تشرف على  إيتاء الزكاة وتوزيع الصدقات وتنظيم ما يحتاج إلى تنظيم من العبادات كالحج والعمرة، وإظهار الشعائر والقيام بأعباء الدعوة العالمية وغير ذلك، ثم هي مسؤولة عن توفير جو العفاف والكفاف للناس، وضمان الأمن والاستقرار لهم، فإذا قامت بواجبها في ذلك، فإن باقي ما يندرج تحت مسمى العبادة يستطيع الناس أن يقوموا به في يسر وانتظام.

إن ما تقوم به الدولة في الإسلام لتحقيق معنى العبودية لله، إنما هو من قبيل بذل الأسباب جرياً على سنن الله القاضية بضرورة الأخذ بالأسباب. وإلا فإنها بذلك لا تقرر مصير الناس عند الله، ولا تقطع لفئة من الناس بأنها عابدة، وأخرى أنها جاحدة، ولكنها تقوم بواجب أنيط بها ومقصد سد إليها، وغاية لن تتم إلا بها، ويمثل ابن تيمية لهذا الأمر فيقول: «من عبادة الله وطاعته: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -بحسب الإمكان- والجهاد في سبيله لأهل الكفر والنفاق، والمسلمون يجتهدون في إقامة دينه، مستعينين به، دافعين مزيلين بذلك ما قُدِّر من السيئات، دافعين بذلك ما قد يُخاف من ذلك، كما يزيل الإنسان الجوع الحاضر بالأكل ويدفع به الجوع المستقبل، وكذلك إذا آن أوان البرد دفعه باللباس، وكذلك كل مطلوب يُدفع به مكروه، كما قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا رسول الله، أرأيت أدويةً نتداوى بها، ورقًى نسترقي بها، وتقاةً نتقي بها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال: هي من قدر الله».

ونحن عندما نقول إن الدولة في الإسلام تقصد إلى تحقيق العبودية فالمراد بذلك أنها تحمي أصول هذه العبودية، ولا تمكِّن أحداً من الاعتداء عليها كما يحدث في الدول التي لا تحكم بما أنزل الله.

وإذا كان للعبادة أصلان: أحدهما: أن لا يعبد إلا الله.

والثاني: أن يعبد بما أمر وشرع. فإنه مما لا شك فيه أن دولة الإسلام مسؤولة عن حماية هذين الأصلين بمحاربة الشرك ومقاومة البدع والخرافات والتيارات الفاسدة الوافدة، فهي تحسم مادة الشرك في داخلها وتعمل على تقليص نفوذه وجبروته خارجها. وهي تحمي الشرع ضد من يعتدي عليه بابتداع أو تحريف أو تغيير أو تبديل، وكل ذلك يعين على تحقيق العبودية لله على الوجه المرضي، وعلى حماية الدين من دخائل وانتحالات المضلين، وبهذا تكون الدولة الإسلامية بالمعنى الصحيح. فلا ينبغي أبداً قصر مفهوم إقامة الدين على العبادة بمعنى إقامة الشعائر، واعتبار الدولة التي تظهر بعض هذه الشعائر مقيمةً للدين، ومظهرةً للعبودية بادعاء أنها تقيم من الإسلام أهم ما فيه وهو العبادة…

يقول الشيخ أحمد شاكر: «فمن زعم أن الدين عبادة فقط، فقد أنكر كل هذا (يقصد بقية أمور الشريعة المتعلقة بالسياسة والاقتصاد والاجتماع وغير ذلك). وأعظم على الله الفرية، وظن أن لشخص كائناً من كان، أو لهيئة كائنة من كانت، أن تنسخ ما أوجب الله من طاعته والعمل بأحكامه، وما قال هذا مسلم قط، ولا يقوله، ومن قال فقد خرج عن ملة الإسلام جملةً ورفضه كله، وإن صام وصلى زعم أنه مسلم». [انتهى]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *