العدد 250 -

العدد 250- السنة الثانية والعشرون، ذو القعدة 1428هـ، كانون الأول 2007م

إقامة الخلافة ليست مجرد الوصول إلى الحكم

إقامة الخلافة ليست مجرد الوصول إلى الحكم

 

تعيشُ الأمةُ الإسلاميةُ اليومَ حالةَ مخاضٍ عسيرٍ لميلادِ دولةِ الإسلام دولةِ الخلافةِ الراشدةِ الثانية. وفي خضمِ هذا المخاض، وإدراكاً منه للخطرِ الداهمِ الذي يهددُ كيانَه، يسعى الغربُ بأساليبَ عدة ووسائلَ شتى لعرقلة مسعى الأمةِ وإيهامها أن هذا المخاضَ ليس سوى علاماتِ ولادةٍ كاذبةٍ، بل إنه، ولما ضاقت به السبلُ، سعى الى ذرِ الرمادِ في العيون، بل ألقى عليها حجاباً ساتراً، وأخرج لها في غفلةٍ من أمرِها دميةً من صنعِ يديه، وحاول أن يقنعَها أن هذه الدميةَ هي الوليدُ المنتظر، وأن ما تشعرُ به الأمةُ الآن هو آثارُ الولادة، فما عليها بعد ذلك سوى أن تحتضنَ هذا الوليدَ وأن ترعاه وأن تصرفَ النظرَ عمن سواه.

 تلكم الدميةُ هي الحكوماتُ التي يدير دفتَها من يطلقُ الغربُ عليهم اسم “الإسلاميين المعتدلين” أو “الإسلاميين العصرانيين”، وهي الحكوماتُ التي وصلَ الى سدةِ الحكمِ فيها حركاتٌ إسلاميةٌ عبرَ بوابةِ الانتخاباتِ الديمقراطيةِ الزائفةِ أو ما يحلو للغرب أن يسميَها باللعبةِ الديمقراطيةِ، فهل هذه الحكوماتُ تمثلُ تجربةً حقيقيةً لوصولِ الإسلامِ الى الحكمِ؟ بل هل يعتبرُ وصولُ هذه الحركاتُ لسدةِ الحكمِ هو وصولٌ للإسلام؟ ومتى نعتبرُ الإسلامَ وصلَ الى الحكم؟

للإجابةِ على هذه التساؤلاتِ لا بد لنا من أن ندركَ الظرفَ الذي يحيطُ بالأمةِ الإسلاميةِ اليومَ، وأن ندركَ توجهاتِ وتطلعاتِ الغربِ في هذا الشأنِ باعتبارِه اللاعبَ الأساسيَ في حلبةِ الحكوماتِ والأنظمةِ الهزيلةِ، وأن نقفَ على نظرةِ الإسلامِ لهذا الشأن لنخلص بإذن الله الى رأيٍ سديدٍ مبصرٍ بنور الكتاب والسنة، لا أن نحكمَ على الأمورِ من خلالِ الأهواءِ والرغباتِ والثوراتِ المشاعرية.

فنقول وبالله التوفيق: لا يخفى على كل مبصر إعلانُ أميركا رأسَ الكفرِ وقائدةَ طلائعِ الغربِ الصليبي الحربَ المستعرةَ الصليبيةَ من جديد على الأمةِ الإسلاميةِ، ولقد سعت أميركا بادئ الأمرِ إلى إعلانِ الحربِ على المسلمين بصورةٍ شموليةٍ دون أن تفرقَ بين من تسميهمُ اليومَ (أصوليين ومعتدلين) غيرَ أن عاقبةَ أمرِها كان البوارُ والفشلُ والانتكاسُ المرةَ تلو الأخرى، فعكفت مراكزُ الأبحاثِ والدراساتِ الاستراتيجيةِ الأميركية والتي تعتبرُ المغذي الحقيقي للسياساتِ الأميركيةِ في العالم وبالأخص دول العالم الإسلامي، عكفت هذه المراكزُ على دراسةِ أحوالِ المسلمين والحركاتِ الإسلاميةِ العاملةِ فيها، وقد خلصت هذه المراكز ونخصُ بالذكر منها مؤسسة راند -وهي مؤسسةٌ بحثيةٌ لها نفوذٌ كبيرٌ و تأثيرٌ  على سياسة الولايات المتحدة الأميركية الخارجية- خلصت هذه المؤسسة في تقريرٍ لها بعنوان: “الإسلامُ المدنيُ الديمقراطيُ: الشركاءُ و المواردُ والاستراتيجيات” خلصت إلى توصياتٍ هامةٍ زودت بها الإدارةَ الأميركيةَ لتترسمَ خطاها في التعاملِ مع الحركاتِ الإسلاميةِ العاملةِ في بلاد المسلمين. حيث أوصت هذه المؤسسة بضرورة دعمِ الإسلاميين المعتدلين أو العصرانيين ليقفوا سداً منيعاً ضد الأصوليين المتطرفين -على حد تسميتهم- كما أوصت في تقريرها المسهبِ والمفصلِ باتباع أساليب لمحاربة الحركاتِ الإسلاميةِ التي تسعى لإيجادِ الخلافةِ، وصنفت المسلمين الى أربعةِ أصنافٍ: أصوليين وتقليديين وحداثيين وعلمانيين، وأرشدت إلى ضرورةِ دعمِ التقليديين والعصرانيين لصد موجة التيار الإسلامي الأصولي. ومما جاء في تقريرها حول المسلمين الأصوليين (يجبُ محاربتُهم واستئصالُهم والقضاءُ عليهم، وأفضلُهم هو ميّتُهم؛ لأنّهم يعادون الديمقراطية والغرب، ويتمسكون بما يسمى الجهاد وبالتفسيرِ الدقيقِ للقرآن، وأنهم يريدون أن يعيدوا الخلافةَ الإسلاميةَ، ويجب الحذرُ منهم لأنّهم لا يعارضونَ استخدامَ الوسائلِ الحديثةِ والعلمِ في تحقيقِ أهدافِهم، وهم قويو الحجّةَ والمجادلة)؛ لذا ترى الإدارةُ الأميركيةُ اليومَ أن لا مانعَ لديها من أن يصلَ إلى سدةِ الحكمِ في البلاد العربيةِ والإسلاميةِ حركاتٌ إسلاميةٌ عصريةُ الفهمِ معتدلةُ الرؤيا، أي تفهمُ الإسلامَ على المنهجِ الأميركي الليبرالي، بل إن وصولَ الإسلاميين المعتدلين على -حد تسميتها أيضاً- أصبح ورقةً تستخدمُها للمناوراتِ السياسيةِ ولخدمةِ أغراضِها وأهدافِها السياسيةِ، علاوةً على هدفِها الرئيس وهو ضربُ المشروعِ الإسلامي المتمثلِ بإقامةِ الخلافةِ، عبرَ تصويرِ الإسلام حالَ وصولِه الى الحكمِ بأنه سينخرطُ في التيارِ الرأسمالي الجارفِ، وسيبدي الليونةَ بل والمداهنةَ للعالمِ الغربي وبالتالي سيتنازلُ عن أهدافه وغاياتِه، ولن تكونَ حالُ الحكمِ في ظل الإسلامِ في المحصلةِ أحسنُ من حال الأنظمةِ العميلةِ الدكتاتوريةِ الآن، ما سيؤدي الى زرع بذورِ اليأسِ والإحباطِ لدى المسلمين، وإدخالِ الشكِ والريبةِ على فهم المسلمين للإسلام وقدرتِه على إحداثِ التغييرِ الجذري، وفي هذا السياق أبدت أميركا استعدادَها للحوارِ مع حركاتٍ إسلاميةٍ معتدلة، وهذا ما كان، وسكتت عن دخولِ حركاتٍ أخرى اللعبةَ السياسيةَ، بل ودعمت ذلك. وتبنت على سبيل المثال التجربة التركية باعتبارها مثالاً ونموذجاً يحتذى به، مثالاً على مرونة التياراتِ الإسلاميةِ وقبولِها التعاملَ مع الغربِ والسيرِ في سياساتِه، ودعت إلى تكريسِ هذا النموذج في كثيرٍ من البلدانِ. ومما يدلُ على ذلك أنّ  وزيرةَ الخارجيةِ “كونداليزا رايس” كشفت عن اقتناع الولايات المتحدة بأهميةِ التحاورِ مع الإسلاميين في المنطقة العربية، وأنها لا تخشى من وصول تياراتٍ إسلاميةٍ إلى السلطة، ثم إنّ رايس لم تكن وحدها التي صرحت بهذا، فقد قال ريتشارد هاس مدير إدارة التخطيط السياسي بالوزارة نفسها إن الولاياتِ المتحدة لا تخشى وصولَ تياراتٍ إسلاميةٍ إلى السلطة لتحلَ محلَ الأنظمةِ القمعيةِ العربية التي “يتسبب تكميمها للأفواهَ في اندلاعِ أعمالِ الإرهاب، شريطةَ أن تصلَ عن طريقٍ ديمقراطي، وأن تتبنى الديمقراطيةَ كوسيلةٍ للحكم].

وأمامَ هذا السعي الخبيث والمكر الشيطاني للحيلولةِ دونَ عودةِ الإسلامِ في دولةٍ حقيقيةٍ، دولةٍ تطبقُه تطبيقاً كاملاً غيرَ مجزأْ ولا منقوص، ولكي نبصرَ هذا الواقعَ الخطيرَ بنورِ الكتابِ والسنةِ لا بدَ لنا من أن نذكرَ الأمةَ وأن نؤكدَ على الحقائقِ الشرعيةِ التالية:

1- إن الإسلامَ طرازُ عيشٍ فريدٍ، وبتطبيقِه تطبيقاً كاملاً يوجدُ النموذجُ الإلهيُ الذي ارتضاه ربُ العالمين للبشر في أرضِ الواقعِ، فهو غنيٌ عن أن يتطفلَ على ما سواه أو أن يفتقرَ إلى غيرِه، وليس الرضى بوصولِ الحركاتِ الإسلاميةِ إلى سدةِ الحكم عبر بوابةِ الديمقراطية ومن خلال الرضى بأن يكونَ الإسلامُ جزءاً من نظامِ الكفر المطبقِ، ليس الرضى بذلك سوى تقزيمٌ للنموذجِ الرباني ورضىً بسيادةِ الكفرِ على الإسلام، فليس من نهجِ الاسلامِ شراكةُ المبادئِ الأخرى أو حتى الإقرار بها (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران 85].

2- إن تطبيقَ الإسلامِ في أرض الواقع وحملَه رسالةً الى العالم يتوقفُ على وجودِ الإسلام في الحكم أي مجسداً في دولةِ الخلافة، فهو الطريقُ الشرعيُ الوحيدُ لتطبيقِ الإسلامِ وحملِه إلى العالم «إنما الامامُ جنةٌ يقاتلُ من ورائِه ويتقى به».

3- ليس من نهج الإسلام في الوصول إلى الحكم أن يُتوسلَ إليه بتركِ تطبيقِ الإسلامِ أو بعضِ أحكامِه أو حتى أخذُه مشروطاً، ولا أدلَ على ذلك من مواقفِ الرسولِ عليه الصلاة والسلام في سعيه لإقامةِ دولةِ الإسلام، فقد رفضَ عليه الصلاة والسلام الوصولَ إلى الحكمِ دونَ أن يجعلَ الإسلامَ محلَ التطبيق، فرفضَ أن يصلَ هو بشخصِه وأن يتركَ الإسلامَ خارجَ سدةِ الحكم، فقد عرضَ عليه كفارُ مكةَ الحكمَ والسيادةَ والسلطانَ والجاه دونَ أن يقيمَ فيهم حكمَ الله، ودونَ أن يقيمَ فيهم شرعَه، بل أن يستلمَ الحكمَ بشخصِه فحسب، لكنه عليه الصلاة والسلام رفضَ ذلك رفضاً كلياً فكانَ مما عرضوا عليه قولهُم (فإن كنتَ إنما بك الرئاسةُ عقدنا ألويتَنا لك فكنتَ رأسنا مابقيت) فما كان من رسولِ الله إلا أن قرأَ عليهم آياتٌ من سورةِ فصلت من بدايتها إلى قولِه سبحانه (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) [فصلت 13] في ردٍ صارخٍ منه عليه الصلاة والسلام، فإما أن يصلَ الإسلامُ إلى الحكمِ وأن تستجيبوا استجابةً كاملةً مستسلمةً لأمرِ الله وإما أن يصيبَكم ما أصابَ من كان قبلَكم بل إنه عليه الصلاة والسلام، رفض أن يصلَ إلى الحكم مُطَبِقاً للشرع بشرطٍ يخالفُ المبدأ ولو في جزئيةٍ، فقد عرضَ عليه بنو عامر بن صعصعة النصرةَ شرطَ أن يكونَ لهم الأمرُ من بعده، وبرغم الحاجةِ الماسةِ للنصرة إلا أنه عليه الصلاة والسلام رفضَ التنازلَ ولو في جزئيةٍ واحدةٍ فردَ عليهم قائلاً: «الأمرُ لله يضعه حيث يشاء».

4- إن وجودَ الإسلامِ في الحكمِ هو حكمٌ شرعيٌ قطعيٌ لا يقبلُ الاجتهادَ أو التأويلَ أو الخلافَ، وهذا يقتضي بناءَ القاعدةِ الشعبيةِ بتوحيدِ الآراءِ والأفكارِ والأحكامِ من أجل توحيدِ هدفِ الأمة نحوَ استئنافِ الحياةِ الإسلامية من أجل تطبيق الإسلام تطبيقاً انقلابياً شاملاً، فليس من طريقةِ الإسلام التدرجُ بتطبيقِ أحكامِه (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ) [البقرة85].

5- إن المفاصلةَ بين الحقِ والباطلِ وعدم المهادنة والمواربة والمجاملة هي نهج الإسلام الذي لا يقبل التغير والتبدل (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [القلم 9].

6- إن الطريقَ العمليَة والشرعيَة للوصولِ الى الحكم هي طريقُ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا طريقَ غيرها، ولا يكون الوصول إلى الحكم عبر بوابة الانتخابات الديمقراطية الزائفة (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) [يوسف 108].

7- إن التوسلَ للأحكامِ الشرعيةِ بالمصلحةِ (التي تعتبرُ آفةُ العصر) لا يمتُ للإسلام بصلة، بل لقد أصبحَ هذا النهجُ ديدنَ من يريدُ تحريفَ أحكامِ الإسلامِ وليِ أعناقِ النصوصِ لتوافقَ الواقعَ باسمِ المصلحة.

أيها المسلمون: بالعملِ وفقَ الطريقِ الشرعيةِ عبر التأسي بنهج الرسول عليه الصلاة والسلام يكونُ الوصولُ إلى الخلافة، وبالخلافةِ وحدَها يصل الإسلامُ إلى الحكمِ، وبالخلافةِ وحدَها يُطبقُ الشرعُ كاملاً غير منقوصٍ ولا مجزأ، وبالخلافةِ وحدَها تقامُ دارُ العدلِ وتُحمى الثغورُ وتصانُ الأعراض، وبالخلافة وحدَها يوجدُ النموذجُ الإسلاميُ في أرضِ الواقعِ، وبالخلافةِ وحدَها يكونُ النصرُ والتمكينُ، فلا يغرنكم تضليلُ المضللينُ ولا خداعُ المخادعين ولا كيدُ الكافرين، واعملوا بجدٍ ليومٍ يقامُ فيه الدينُ عبرَ إقامةِ الخلافةِ، وكونوا من أهلِها وبُناتِها كي يسجل في صفحاتِكم بماءٍ من ذهب أنكم -بإذن الله- أقمتم الخلافةَ كما أقامَها من قبلِكم خيرُ البشر فتفوزروا بإذن الله بعز الدنيا وثوابِ الآخرة.

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال 24].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *