العدد 249 -

العدد 249- السنة الثانية والعشرون، شوال 1428هـ، الموافق تشرين الثاني 2007م

الورع(2)

الورع(2)

 

من ورع الصحابة، رضي الله عنهم:

  • سويد بن غفلة قال: لقيت أبي بن كعب فقال: أصبت صرة فيها مئة دينار فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال عرفها حولا فلم أ<د من يعرفها، ثم أتيته فقال عرفها حولا فعرفتها فلم أجد، ثم أتيته ثلاثا فقال: احفظ وعاءها وعددها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها فاستمتعت، فلقيته بعد بمكة فقال: لا أدري ثلاثة أحوال أو حولا واحدا. متفق عليه.

قال ابن حجر في الفتح: وجمع بعضهم بين حديث أبي هذا وحديث زيد بن خالد الآتي في الباب الذي يليه فإنه لم يختلف عليه في الاقتصار على سنة واحدة فقال: يحمل حديث أبي بن كعب على مزيد الورع عن التصرف في اللقطة والمبالغة في التعفف عنها، وحديث زيد على ما لا بد منه. أو لاحتياج الأعراب واستغناء أبي.

  • عن كعب بن مالك… إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، قال فقلت أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال لا بل اعتزلها فلا تقربنها، فأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك. فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. قال فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه قال لا ولكن لا يقربنك، فقالت إ،ه والله ما به حركة إلى شيء ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. قال فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، قال فقلت لا استأذن فيها رسول الله وما يدريني ماذا يقول رسول الله إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب…. متفق عليه.

قال النووي: الثانية والعشرون: الورع والاحتياط بمجانبة ما يخاف منه الوقوع في منهى عنه لانه لم يستأذن في خدمة امرأته له، وعلل بأنه شاب أي لا يأمن مواقعتها وقد نهي عنها. انتهى.

هذان الحديثان يدلان على الورع من نوع الكف عن بعض الحلال خشية الوقوع في الحرام.

  • عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لأبي بكر الصديق غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أ؛سن الكهانة، إلا أني خدعته فلقيني فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منه فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه. البخاري

  • عن نافع أ، عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف وفرض لابنه ثلاثة الآف وخمسمائة، فقيل له هومن المهاجرين فلم نقصته؟ فقال: إنما هاجر به أبوه، يقول ليس هو كمن هاجر بنفسه. البخاري.

وفي هذين الحديثين كان التورع عن الشبهة، أي الكف عنها.

  • باب هل يرجع إذا رأي منكرا في الدعوة: ورأي ابن مسعود صورة في البيت فرجع. ودعا ابن عمر أبا أيوب فرأى في البيت سترا على الجدار فقال ابن عمر غلبنا عليه النساء، فقال من كنت أخشى عليه فلم أكن أخشى عليك، والله لا أطعم لكم طعاما، فرجع. البخاري.

قال ابن حجر في الفتح: ووقع لنا من وجه آخر من طريق الليث عن بكير بن عبدالله بن الأشج عن سالم بمعناه وفيه: فأقبل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يدخلون الأول فالأول حتى أقبل أبو أيوب، وفيه فقال عبدالله: أقسمت عليك لترجعن، فقال وأنا أعزم على نفسي أن لا أدخل يومي هذا ثم انصرف… فقال ابن بطال:… وحاصله إن كان هناك محرم وقدر على إزالته فأزاله فلا بأس وإن لم يقدر فليرجع، وإن كان مما يكره كراهة تنزيه فلا يخفي الورع. ومما يؤيد ذلك ما وقع في قصة ابن عمر من اختلاف الصحابة في دخول البيت الذي سترت جدره، ولو كان حراما ما قعد الذين قعدوا، ولا فعله ابن عمر، فيحمل فعل أبي أيوب على كراهة التنزيه جمعا بين الفعلين. ويحتمل أن يكون أبو أيوب كان يرى التحريم والذين لم ينكروا كانوا يرون الإباحة…. انتهى.

  • عائشة رضي الله عنها قالت من حديث الإفك الطويل: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بن جحش عن أمري، فقال يا زينب ما علمت ما رأيت، فقالت يا رسول الله أحمى سمعي وبصري والله ما علمت عليها إلا خيرا. قالت وهي التي كانت تساميني فعصمها الله بالورع… متفق عليه.

وواضح في هذا الحديث أن عائشة رضي الله عنها اعتبرت ورع زينب سببا لعصمة الله إياها. وورعها رضي الله عنها كان عن الحرام الذي خو الخوض في حديث الإفك.

  • عن أبي موسى قال اختصم رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرض. أحدهما من أهل حضرموت، قال فجعل يمين أحدهما، قال فضج الاخر وقال إنه إذا يذهب بأرضي، فقال إن هو اقتطعها بيمينه ظلما كان ممن لا ينظر الله عز وجل إليه يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم قال وورع الاخر فردها. أ؛مد بإسناد حسنه المنذري والهيثمي.

والورع هنا كان عن الحرام.

  • أم بكر بنت المسور قالت: احتكر المسور طعاما كثيرا، فرأى سحابا من الخريف فكرهه، فقال لا أراني قد كرهت ما ينفع المسلمين، من جاءني أوليته كما أخذته، قال فبلغ ذلك عمر فقال: من لي بالمسور؟ فأتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين إني احتكرت طعاما كثيرا، فرأيت سحابا قد نشأ فكرهتها فتأليت أن لا أربح فيها شيئا، فقال عمر: جزاك الله خيرا. أحمد في الزهد وفي الورع.

المسور تورع عن الربح المباح لأنه كره ما ينفع المسلمين عند رويته للسحاب، لا لأنه احتكر. والاحتكار مختلف في حكمه، ومتى يكون من المنهي عنه.

  • أحمد بن حنبل قال: رحم الله سالما زحمت راحلته راحلة رجل، فقال الرجل لسالم: أراك شيخ سوء، قال ما أبعدت أحمد في الورع.

وهذا ورع عن مباح لأنه له أن يرد الشتيمة بمثلها. ولو سكت لكان ورعا ولكنه بقوله ما أبعدت ازداد ورعا.

الورع عن الفتيا:

  • السيوطي في الدر المنثور: وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة قال: قرأت هذه الآية في سورة النحل( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام) النحل 116 إلى آخر الاية فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا.

  • الدارمي في السنن بإسناد مرسل حسن قال: أخبرنا إبراهيم بن موسى حدثنا ابن المبارك عن سعيد بن أبي أيوب عن عبيد الله بن أبي جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار”.

  • الدرامي في السنن بإسناد رجاله ثقات إلا العمري لا بأس به عن عبيد بن جريج قال: كنت أجلس بمكة إلى ابن عمر يوما وإلى ابن عباس ويما، فما يقول ابن عمر فيما يسأل لا علم لي أكثر مما يفتي به.

  • الدارمي في السنن عن عطاء بن السائب قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول: لقد أدركت في هذا المسجد عشرين ومئة من الأنصار وما منهم من أحد يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا يسأل عن فتيا إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا. أخرجه أيضا ابن المبارك في الزهد وأبو خيثمة في كتاب العلم، وابن سعد من طريق سفيان وشعبة.

  • ابن المبارك في الزهد عن أيوب السختياني يقول: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما باختلاف العلماء، والنس من الفتيا أعلمهمباختلاف العلماء.

  • أبو خيثمة في كتاب العلم: عن عبد الله: والله إن الذي يفتي الناس في كل ما يسألونه لمجنون

  • أبو خيثمة في كتاب العلم عن الحسن قال: إن كان الرجل ليجلس مع القوم فيرون أن به عيا وما به من عي، إنه لفقيه مسلم.

  • ابن عبد البر في الاستذكار: سئل مالك… قيل له فالفتيا قال لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه.

  • ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: عن مالك رضي الله عنه أنه كان إذا سئل عن المسألة كأنه واقف بين الجنة والنار.

  • ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: وقال الإمام أحمد: من عرض نفسه للفتيا فقد عرضها لأمر عظيم.

  • ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: وكان ابن سيرين إذا سئل عن الشيء من الحلال والحرام تغير لونه وتبدل حتى كأنه ليس بالذي كان.

  • الورع لابن حنبل: وذكر عبدالله مسائل ابن المبارك قال: كان فيها مسألة دقيقة في رجل رمى طيرا فوقع في أرض قوم، لمن الصيد؟ قال ابن المبارك: لا أدري قلت لأبي عبدالله ما تقول أنت فيها؟ قال هذه دقيقة، ما أدري ما أقول فيها وأبى أن يجيب.

  • ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله بإسناده إلى عبد الرحمن بن مهدي يقول: كنا عند مالك بن أنس فجاءه رجل فقال له يا أبا عبد الله جئتك من مسيرة ستة أشهر حملني أهل بلدي مسألة أسألك عنها قال فسل، فسأله الرجل عن المسألة فقال لا أحسنها قال فبهت الرجل كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء، فقال: أي شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم؟ قال: تقول لهم قال مالك لا أحسن.

والورع عن الفتيا يكون إذا وجد من يكفيه، أما إذا تعين، أي إذا لم يوجد غيره فلا يحل له أن يكتم العلم، خاصة في الزمن الذي يقل فيه الفقهاء.

الفتيا في الورع:

وهي عكس الفتيا في الحكم، فقد كان الفقيه أحيانا يتوصل باجتهاده إلى حكم معين ولكنه يفتي في الورع بخلافه ويأمر به، ومن الأمثلة على ذلك:

  • الأم: قال الشافعي: فإن ولدت امرأة حملت من الزنا، اعترف الذي زنى بها أو لم يعترف فأرضعت مولودا فهو ابنها ولا يكون ابن الذي زنى بها، وأكره له في الورع أن ينكح بنات الذي ولد له من زنى. كما اكرهه للمولود من زنى، وإن نكح من بناته أحدا لم أفسخه لأنه ليس بابنه في حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

  • الأم: قال الشافعي رحمه الله تعالى: إذا حلف الرجل أن لا يأكل لحما حنث بلحم الإبل والبقر ولاغنم والوحوش والطير كله لأنه كله لحكم، ليس له اسم دون اللحم، ولا يحنث في الحكم بلحم الحيتان لأنه اسمه الأغلب عليه الحوت وإن كان يدخل في اللحم، ويحنث في الورع به.

  • الأم: قال الشافعي: ولو شك الرجل أن تكون امرأة أرضعته خمس رضعات قلت الورع أن يكف عن رويتها حاسرا ولا يكون محرما لها بالشك.

  • المغني: قال ابن قدامة في مسألة الهدية على ضراب الفحل: وقال أحمد في رواية ابن القاسم لا يأخذ… وكلام أ؛مد يحمل على الورع.

  • المغني: قال ابن قدامة: ومتى اشترى ما لم يؤذن فيه فربح فيه، فالربح لرب المال نص عليه أحمد، وبه قال أبو قلابة ونافع، وعن أحمد أنهما يتصدقان بالربح، وبه قال الشعبي والنخعي والحكم وحماد. قال القاضي قول أحمد يتصدقان بالربح على سبيل الورع، وهو لرب المال ف يالقضاء، وهذا قول الأوزاعي.

  • المغني: وقال في السلطان إذا بنى دارا وجمع الناس إليها أكره الشراء منها وهذا إن شاء الله على سيل الورع لما فيه من الإعانة على الفعل المحرم والظاهر صحة البيع لأنه إذا صحت الصلاة في الدار المغصوبة في رواية وهي عبادة فما ليس بعبادة أولى.

  • المغني: فصل: وإن أكل المرق لم يحنث ذكره أبو الخطاب قال وقد روي عن أحمد أنه قال: لا يعجبني الأكل من المرق. هذا على طريق الورع.

  • الغربي في مواهب الجليل: قال مالك في الموازية: ومن ابتاع ثوبين من أسود فخاف أ، يكونا مسروقين فلا يحرم فيهما إن شك. قيل فإن باعهما وتصدق بثمنهما قال قد أصاب. والذي قاله من باب الورع والفضيلة لا من باب الوجوب.

  • المحلى: قال ابن حزم في كتاب اللقطة: وعن الربيع بن خيثم أنه كره أخذ اللقطة، وعن شريح أنه مر بدرهم فتركه، وقال أبو حنيفة ومالك كلا الأمرين مباح والأفضل أخذها. وقال الشافعي مرة أخذها أفضل ومرة قال الورع تركها.

ومما يصلح أن يكون مثالا على الفتيا في الورع في أيامنا دون التعرض لبيان الأحكام، وذلك تجنبا للتطويل في الخلاف، لأن الأمثلة التي سنذكرها غالبا ما تكون محل خلاف في الحكم:

  • الورع عن أ، يكون كفيلا لمن يقترض من بنك.

  • الورع عن أن يكون وكيلا في دفع مال لحساب شخصي في بنك يملكه مسلمون كشركة مساهمة.

  • الورع عن لعب الشدة وألعاب الكرة بأنواعها.

  • الورع عن دخول بيت أو سرادق فيه وليمة ومزين بأعلام الفرقة فالورع أن يرجع إن كان مدعوا.

  • الورع عن الجلوس إلى جانب امرأة في كرسي واحد في الباصات لما فيه من إمكانية المزاحمة، وبالعكس.

  • الورع عن تعلم وتعليم النساء السواقة.

  • الورع عن إرسال البنات للدارسة في الجامعات.

  • الورع عن الدراسة المختلطة في الجامعات.

  • الورع عن اقتناء أو تركيب رأس للقنوات الاجنبية التي تعرض الفاحشة وتحث على الخلاعة.

  • الورع عن العيش في أمريكا.

  • الورع عن القعود عن العمل لإيجاد الجماعة على إمام.

  • الورع عن العمل كحلاق للنساء.

  • الورع عن خدمة الكفار في المقاهي والمطاعم والفنادق.

  • الورع عن اقتناء صور أمراء الفرقة ورفعها واحترامها.

  • الورع عن أخذ أجر على الأذان.

  • الورع عن دخول الوزارات والبرلمانات.

  • الورع عن التمثيل.

  • الورع عن كتابة الروايات والمسرحيات وقراءتها.

  • الورع عن الانتماء للاحزاب القومية والوطنية والعلمانية والماسونية.

  • الورع عن العزلة وعدم الاهتمام بأمر المسلمين، ولاسكوت عن قول الحق.

  • الورع عن موالاة الكفار.

  • الورع عن دخول دور السينما والمسارح.

  • الورع عن العبودية للدولار واليورو والفرنك والريال.

  • الورع عن الدخول على الظلمة وأمراء الفرقة، وعن تزيين قبائحهم وتبرير فضائحهم.

  • الورع عن الزواج من الكتابية غير الحصنة.

  • الورع عن مخالفة الفعل للقول.

من ورع العلماء:

روى البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى عن الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: زينة العلم الورع والحلم. انتهى.

ومن صور ورعهم رحمهم الله:

  • التدقيق: روى ابن حجر في تهذيب الأسماء أن الشافعي قال: من طلب علما فليدقق لئلا يضيع دقيق العلم. ولآل تيمية في المسودة عن عبد الله بن أحمد عن أبيه: من ادعى الإجماع فهو كاذب لعل الناس قد اختلفوا وهذه دعوى بشر المريسي والأصم ولكن يقول لا نعلم الناس اختلفوا إذا لم يبلغه، وكذلك نقل المروذي عنه أنه قال: كيف يجوز للرجل أن يقول أجمعوا إذا سمعتهم يقولون أجمعوا فاتهمهم، لو قال إني لم أعلم مخالفا كان ذلك أحسن، ونقل أبو طالب عنه أنه قال هذا كذب ما أعلمه أن الناس مجمعون، ولكن يقول لا أعلم فيه اختلافا فهو أحسن امن قوله إجماع الناس، وكذلك نقل أبو الحارث لا ينبغي لأحد أن يدعي الإجماع لعل الناس اختلفوا، قال القاضي: فظاهر هذا الكلام أنه قد منع صحة الإجماع، وليس هذا على ظاهره وإنما قال هذا عن طريق الورع، لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه… انتهى. وروى ابن سعد في الطبقات عن ابن عون قال: قال محمد في شيء راجعته فيه: إني لم اقل ليس به بأس إنما قلت لا أعلم به بأسا. ومحمد هذا الذي يروي عنه ابن عون هو ابن سيرين، وهذه عبارة مأثورة عن كثير من العلماء.

  • عدم قبول جوائز السلطان: قال ابن قدامة في المغني: فصل: وكان أحمد رحمه الله لا يقبل جوائز السلطان، وينكر على ولده وعمه قبولها ويشدد في ذلك، وممن كان لا يقبلها سعيد بن المسيب والقاسم وبشر بي سعيد ومحمد بن واسع والثوري وابن المبارك، وكان هذا منهم على سبيل الورع والتوقي لا على أنها حرام، فإن أحمد قال: جوائز السلطان أحب إلي من الصدقة، وقال ليس أحد من المسلمين إلا وله في هذه الدراهم نصيب فكيف أقول إنها سحت.

  • التوقف في الفتيا عند تعارض الأدلة وعدم إمكانية الترجيح: قال الشاطبي في الموافقات: المجتهد إنما يتورع عن تعارض الأدلة لا عند تعارض الأقوال. وقال النووي في شرح صحيح مسلم: وقد يكون دليله غير خال عن الاحتمال البين، فيكون الورع تركه، ويكون داخلا في قوله صلى الله عليه وسلم: ” فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه”. وما لم يظهر للمجتهد فيه شيء وهو مشتبه فهل يؤخذ بحله أم بحرمته أم يتوقف فيه ثلاثة مذاهب حكاها القاضي عياض وغيره، والظاهر أنها مخرجة على الخلاف المذكور في الأشياء قبل ورود الشرع وفيه أربعة مذاهب الأصح أنه لا يحكم بحل ولا حرمة ولا إباحة ولا غيرها لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع. وقال الكاساني في البدائع: والتوقف فيما لا يعرف لعدم دليل المعرفة ولتعارض الأدلة وانعدام ترجيح البعض على البعض أمارة كمال العلم وتمام الورع فقد روي أن ابن عمر رضي الله عنهما سئل عن شيء فقال لا ادري.

كيف يعرف الورع بكسر الراء عند عمر رضي الله عنه:

أخرج البيهقي في السنن الكبرى والبغوي بإسناد حسنه صاحب سبل السلام: عن خرشة بن الحر قال: شهد رجل عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشهادة، فقال له: لست أعرفك، ولا يضرك أن لا أعرفك، ائت بمن يعرفك، فقال رجل من القوم: أنا أعرفه، قال بأي شيء تعرفه؟ قال: بالعدالة والفضل، فقال: فهو جارك الأدنى الذي تعرفه ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ قال لا، قال: فمعاملك بالدينار والدرهم اللذين بهما يستدل على الورع؟ قال لا، قال فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال لا، قال لست تعرفه، ثم قال للرجل ائت بمن يعرفك.

الورع البارد:

هكذا سماه عمر بن الخطاب فقد ذكر ابن عابدين في حاشيته قال: روي أن رجلا وجد تمرة ملقاة، فأخذها وعرفها مرارا، ومراده إظهار ورعه وديانته، فقال له عمر رضي الله عنه: كلها يا بارد الورع، فإنه ورع يبغضه الله تعالى وضربه بالدرة. وروى الماوردي في الحاوي قال: فقد روي أن عمر رضي الله عنه سمع رجلا يعرف في الطواف زبيبة فقال إن من الورع ما يمقته الله، ومن هذا الأثر يمكن أن يسمى الورع البارد الورع المقيت. وسماه أحمد بن حنبل الورع المظلم، روى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد بإسناده عن الانماطي قال: كنت عند أحمد بن حنبل وبين يديه محبرة، فذكر أبو عبدالله حديثا فاستأذنته بأن أكتبه من محبرته، فقال لي: اكتب يا هذا فهذا ورع مظلم، وسماه النووي في المجموع شرح المهذب وسواسا وتنطعا مذموما، قال: ولو امتنع من أكل طعام حلال لكونه حمله كافر أو فاسق بالزنا أو بالقتل ونحوه لم يكن هذا ورعا بل هو وسواس وتنطع مذموم، وقال: ولو حلف لا يلبس غزل زوجته فباعت غزلها ووهبته الثمن لم يكره أكله فإن تركه فليس بورع بل وسواس. وقال وكذلك إذا كان الشيء متفقا عليه ولكن دليله خبر آحاد، فتركه إنسان لكون بعض الناس منع الاحتجاج بخبر الواحد فهذا الترك ليس بورع بل وسواس لأن المانع للعمل بخبر الواحد لا يعتد به. وسماه ابن حجر في الفتح ورع الموسوسين قال: قوله باب من لم ير الوساوس: وهذه الترجمة معقودة لبيان ما يكره من التنطع في الورع… وغرض المصنف هنا بيان ورع الموسوسين كمن يمتنع من أكل الصيد خشية أن يكون الصيد كان لإنسان ثم أفلت منه، وكمن يترك شراء ما يحتاج إليه من مجهول لا يدري أماله حلال أم حرام، وليست هناك علامة تدل على الثاني، وكمن يترك تناول الشيء لخبر ورد فيه متفق على ضعفه وعدم الاحتجاج به ويكون دليل إباحته قويا وتأويله ممتنع أو مستبعد.

ويمكن القول إن الورع البارد هو التنطع الوارد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ” هلك المتنطعون” قالها ثلاثا. وسبق قول النووي في مثل هذا الورع بأنه وسواس وتنطع مذموم، هذا قوله ف يالمجموع وقد عرف التنطع في رياض الصالحين فقال: المتنطعون المتعمقون المتشددون في غير موضع التشديد، وفي شرح مسلم قال: المتنطعون: أي المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم. وعرف ابن حجر في الفتح التعمق فقال: فأما التعمق فهو بالمهملة وبتشديد الميم ثم قاف ومعناه التشديد في الأمر حتى يتجاوز الحد فيه….

انتهى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *