العدد 248 -

العدد 248- السنة الثانية والعشرون، رمضان 1428هـ، الموفق تشرين الأول 2007م

الورع (1)

الورع (1)

 

حدُّه:

– ابن منظور في اللسان والأزهري في معجم تهذيب اللغة عن الأصمعي: الورع الكف عن القبيح.

– الأزهري في معجم تهذيب اللغة عن ابن السكيت: الورع التحرج.

– الجوهري في الصحاح: وتورع من كذا أي تحرج، وورعته توريعاً أي كففته، وفي حديث عمر (رضي الله عنه: «ورّع اللص ولا تراعه»  أي إذا رأيته في منـزلك فادفعه واكففه ولا تنظر ما يكون منه، وورعت الإبل عن الماء رددتها.

– ابن الأثير في النهاية: ومنه حديث عمر «ورع اللص ولا تراعه» أي إذا رأيته في منـزلك فاكففه وادفعه بما استطعت، ولا تراعه أي لا تنتظر منه شيئاً، ولا تنظر ما يكون منه. وكل شيء كففته فقد ورَّعته. ومنه حديثه الآخر أنه قال للسائب: «ورّع عني في الدرهم والدرهمين» أي كفَّ عني الخصوم بأن تقضي بينهم وتنوب عني في ذلك. وحديثه الآخر «وإذا أشفى ورع» أي إذا أشرف على معصية كفّ … ومنه حديث ابن عوف: «وبنهيه يرِعون» أي يكفون. وحديث قيس ابن عاصم: «فلا يُرع رجل عن جمل يختطمه» أي يكف ويمنع.

وأما الورِع بكسر الراء:

– فقال ابن منظور في اللسان: والورع بكسر الراء الرجل التقي المتحرج.

– وقال الجوهري في الصحاح: والورع بكسر الراء الرجل التقي.

فالورع لغة هو التحرج والكف عن القبيح، والورع بكسر الراء هو التقي. ولا يقال في أصل الوضع أن الورع هو الكف عن الحسن، فالحقيقة اللغوية للورع هي الكف عن القبيح، إلا أن هذا اللفظ استعمل مجازاً في الكف عن بعض الحسن أي عن بعض الحلال، فهو حقيقة لغوية في الكف عن القبيح، ومجاز في الكف عن بعض الحسن، ورد في النهاية وفي اللسان: “ثم استعير للكف عن المباح والحلال”. والعلاقة هي المشابهة، فكما أن المكلفين مأمورون بالكف عن القبيح فإنهم مأمورون بالكف عن بعض الحسن كما سيأتي في الأدلة على حكم الورع، فلفظ الورع يستعمل حقيقة في الكف عن القبيح ومجازاً في الكف عن بعض الحسن. وليس هو من قبيل النقل لا إلى حقيقة شرعية ولا عرفية، وذلك لأن الوضع الأول لم يهجر.

وبناءً على هذا التفريق بين المعنى الحقيقي والمجازي للورع اختلف العلماء في تعريفه على أقسام:

الأول: حصر الورع في تجنب المشتبهات التي لا يعلمها كثير من الناس، ومنهم:

– الجرجاني في التعريفات: «الورع هو اجتناب الشبهات خوفاً من الوقوع في المحرمات».

– الخطابي: قال ابن حجر في الفتح قال الخطابي: «كل ما شككت فيه فالورع اجتنابه».

– النووي في المجموع: «فالورع ترك ما لا يدري».

– ابن حزم في الأحكام: «فصح أن تلك المتشابهات ليست حراماً … ولكن الورع أن يتركها خوف وقوعه في الحرام».

– يونس بن عبيد: أخرج البيهقي في الزهد الكبير: جاء رجل إلى يونس بن عبيد فقال: ما غاية الورع؟ قال: «الخروج من كل شبهة والمحاسبة عند كل طرفة».

– السيواسي في شرح فتح القدير: «الورع اجتناب الشبهات».

– حسان بن أبي سنان: أخرج البخاري في الصحيح باب تفسير الشبهات: وقال حسان بن أبي سنان: «ما رأيت شيئاً أهون من الورع، دع ما يريبك إلى ما لا يريبك». وأخرج البخاري أيضاً في تاريخه عن ضمرة: وقال حسان: «ما أيسر الورع! إذا حاك في نفسك شيء فدعه». وأخرج أبو نعيم في الحلية وذكره ابن حجر في الفتح وتهذيب التهذيب وتعليق التعليق أنه اجتمع يونس بن عبيد وحسان بن أبي سنان فقال يونس: ما عالجت شيئاً أشد علي من الورع، فقال حسان: ما عالجت شيئاً أهون علي منه، قال: كيف؟ قال حسان: تركت ما يريبني إلى ما لا يريبني فاسترحت. ولأحمد في الورع قال هشام قال حسان بن سنان: ما زاولت شيئاً أيسر من الورع، قال قيل له لأي شيء؟ قال: إذا رابني شيء تركته. كما ذكره البيهقي في الزهد الكبير عن يونس بن عبيد. ورواه أحمد في الزهد.

– محمد بن سيرين: روى ابن عساكر في تاريخ دمشق عن محمد بن سيرين وقال له رجل: يا أبا بكر، ما أشد الورع! فقال ابن سيرين: ما أهون الورع! قيل له: وكيف؟ قال: إذا رابني شيء تركته لله.

ولو صح حديث واثلة بن الأسقع الذي يرويه الطبراني وأبو يعلى لكان تعريف هؤلاء للورع هو أصح التعريفات. عن واثلة بن الأسقع قال رأيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمسجد الخيف… قلت فمن الورِع؟ قال: “الذي يقف عند الشبهة”، ولكن هذا الحديث ضعفه ابن رجب في جامع العلوم والحكم، وقال الهيثمي فيه عبيد بن القاسم وهو متروك، وقال ابن حجر والذهبي عن العلاء بن ثعلبة وهو أحد الرواة إنه مجهول. وقال أبو حاتم: لكن للمتن شواهد مفرقة. وحسنه ابن حجر بشواهده في الأمالي المطلقة. إلا أن هذا الحديث يروى مرة عن عبيد بن القاسم وهو متروك، ومرة عن عبثر بن القاسم وهو ثقة، فلا شك في ضعف إسناده وإنما حسن ابن حجر -رحمه الله- المتن دون السند. وهو حديث طويل يحوي عدة أفكار بعضها له شواهد، إلا أن ما يعنينا هنا شاهد أو أكثر على مسألتنا وهي حصر الورع في تجنب الشبهة، ولا أجده.

ودليل هؤلاء حديث النعمان بن بشير المتفق عليه يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول، وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه: «إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه…». وحديث الحسن بن علي (رضي الله عنهما) عند الترمذي وقال حسن صحيح قال: حفظت من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».

ويمكن القول إن الورع بهذا الاعتبار مندوب. قال ابن جزي في القوانين الفقهية: «وورع عن الشبهات وهو متأكد وإن لم يجب».

الثاني: الورع هو ترك بعض الحلال خشية الوقوع في الحرام. والفرق بين هذا التعريف والذي قبله أن هذا ليس فيه شبهة، أي لم يشتبه الحلال بالحرام، بل علم كل منهما، إلا أن الورع في ترك جزء من الحلال المعروف المعلوم خشية الوقوع في الحرام، ومن القائلين بهذا التعريف للورع:

– القرافي في الذخيرة: «الورع هو ترك ما لا بأس به حذراً مما به البأس».

– ابن جزي في القوانين: «وورع عن الحلال مخافة الوقوع في الحرام وهو فضيلة، وهو ترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس».

– موسى بن أعين: قال ابن رجب في جامع العلوم وقال موسى بن أعين: «المتقون تنـزهوا عن أشياء من الحلال مخافة أن يقعوا في الحرام، فسماهم الله متقين».

– أبو الدرداء: أحمد في الورع وابن المبارك في الزهد عن أبي الدرداء قال: «تمام التقوى أن يتقي اللهَ العبدُ حتى يتقيه في مثقال ذرة، حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً، يكون حجاباً بينه وبين الحرام …».

– الحارث المحاسبي في المكاسب: فما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا الكثير من الحلال مخافة الحرام. ورواه ابن أبي الدنيا عن الحسن.

– سفيان الثوري: ابن أبي الدنيا عن سفيان قال: «إنما سموا المتقين لأنهم اتقوا ما لا يتقى».

– ابن عمر: ابن حزم في المحلى: كان ابن عمر يقول: «إني لأحب أن أجعل بيني وبين الحرام سترة من الحلال». وزاد أحمد في الورع ولا أحرمها.

– ميمون بن مهران: أحمد في الورع عن ميمون بن مهران قال: «لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال».

– سفيان بن عيينة: أحمد في الورع: وسمعت سفيان بن عيينة يقول: «لا يصيب العبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه».

وإنما أوردنا التقوى والمتقين وأقوال بعضهم فيها لأن الورع بكسر الراء هو الرجل التقي كما ورد في اللسان والصحاح. وبناء على هذا قال الغزالي: «ورع المتقين وهو ترك ما لا شبهة فيه ولكن يخشى أن يجر إلى حرام» وهو هذا التعريف الذي نحن فيه للورع. وقد قسم الغزالي الورع إلى أربعة أقسام ذكرها ابن حجر في الفتح والشوكاني في النيل، وهي ورع الصديقين وورع المتقين وورع الصالحين وورع الشهود. وهذا الاسم أي وصف المتقين وتعريف ورعهم مأخوذ من حديث عطية السعدي الذي أخرجه ابن ماجة في باب “الورع والتقوى” والترمذي وقال حسن غريب والحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه والطبراني في الكبير والقضاعي في مسند الشهاب وعبد بن حميد في مسنده: عن عطية السعدي وكان من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به البأس». وأما الذين ذكروا السترة من الحلال فأخذوها من حديث النعمان بن بشير الذي يرويه أبو عوانه في مسنده وابن حبان في صحيحه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه، ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه، وإن لكل ملك حمى، وإن حمى الله في الأرض محارمه».

وحكم هذا النوع من الورع مندوب. قال القرافي في الذخيرة: «وهو مندوب إليه»، وقال ابن جزي في القوانين: “وهو فضيلة”، والدليل على أنه مندوب مدحه (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاعله في حديث عطية السعدي وأمره بجعل السترة من الحلال في حديث النعمان، والتأسي به في حديث أنس المتفق عليه «أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجد تمرة فقال: لولا أن تكون صدقة لأكلتها» قال النووي في شرح الحديث: «وفيه استعمال الورع لأن هذه التمرة لا تحرم بمجرد الاحتمال لكن الورع تركها». وقال ابن قدامة في المغني بعد أن ذكر الحديث: «وهو من باب الورع».

ويلحق بهذا النوع من الورع أي ترك بعض الحلال مخافة الوقوع في الحرام، الخروج من الخلاف بحسب الإمكان. وصورته أن يكون المقلد يستبيح فعلاً بناء على دليل عند من يقلده ويحرمه غيره بناء على دليل، فلا يفعله مع أنه يرى إباحته، وذلك كمن يرى حل مصافحة المرأة الأجنبية خلافاً للمخالف، فمن الورع أن يمتنع عن المصافحة، فيجعل بينه وبين الحرام فسحة من الحلال أو سترة من الحلال. قال النووي في المجموع: ومن الورع المحبوب ترك ما اختلف العلماء في إباحته اختلافاً محتملاً، ويكون الإنسان معتقداً مذهب إمام يبيحه ومن أمثلته الصيد والذبيحة إذا لم يسم عليه فهو حلال عند الشافعي حرام عند الأكثرين. والورع لمعتقد مذهب الشافعي ترك أكله. وأما المختلف فيه الذي يكون في إباحته حديث صحيح بلا معارض، وتأويله ممتنع أو بعيد، فلا أثر لخلاف من منعه، فلا يكون تركه ورعاً محبوباً. وقال القرافي في الذخيرة: وهو مندوب إليه ومنه الخروج عن خلاف العلماء بحسب الإمكان، فإن اختلف العلماء في فعل هو مباح أم حرام فالورع الترك، أو مباح أو واجب فالورع الفعل مع اعتقاد الوجوب، أو مندوب أو حرام فالورع الترك، أو مكروه أو واجب فالورع الفعل، أو مشروع أو غير مشروع فالورع الفعل، لأن المثبت للشرعية مقدم كالبينة المثبتة، كاختلاف العلماء في شرعية الفاتحة في صلاة الجنازة، فمالك يقول ليست بمشروعة والشافعي يقول مشروعة واجبة فالورع القراءة. وكالبسملة قال مالك مكروهة في الصلاة، وقال الشافعي وأبو حنيفة واجبة، فالورع أن تقرأ، وعلى هذا المنوال. وهذا مع تقارب أدلة المختلفين، أما إذا كان أحد الدليلين في غاية الضعف بحيث لو حكم به حاكم لنقضناه لم يحسن الورع، في مثل ما لو كان دليله فيما تدخله قضايا الحكام ولا ينقض. وأما إذا اختلفوا بالوجوب والتحريم فلا ورع، أو الندب والكراهة فلا ورع لتساوي الإقدام والإحجام.

الثالث: الكف عن المحارم. ومن القائلين به:

– فضيل بن عياض: ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله والذهبي في سير أعلام النبلاء: قيل ما الورع؟ قال: اجتناب المحارم.

– ابن جزي: الفصل الثاني في الورع: وهو على ثلاث درجات: ورع عن الحرام وهو واجب، وورع عن الشبهات وهو متأكد وإن لم يجب، وورع عن الحلال مخافة الوقوع في الحرام وهو فضيلة، وهو ترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس.

وواضح أن الفضيل حصره في الكف عن المحارم وابن جزي جعل الكف عنها نوعاً من أنواع الورع. أما حكمه أي حكم الكف عن الحرام فهو الواجب كما صرح ابن جزي. ومن حصر الورع في الكف عن المحارم كأنه يذهب إلى حديث أنس عند البزار قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ثلاث من كن فيه استوجب الثواب واستكمل الإيمان: خلق يعيش به في الناس، وورع يحجزه عن محارم الله، وحلم يرد به جهل الجاهل»، وهو حديث ضعيف، ومثله حديث علي الذي أخرجه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه: «أو ورع يحجزه عن معاصي الله»، وحديث الحسن البصري المرسل وفيه: «ورع يحجزه عن محارم الله»، وحديث ابن عباس الذي يرويه ابن أبي الدنيا: «وورع صادق يحجزه عن معاصي الله»، وحتى لو صحت هذه الأحاديث فإن غاية ما فيها أن الورع يحجز عن محارم الله و معاصيه، وهذا لا يمنع أن يحجز عن غير المحارم.

الرابع: يمكن صياغته بأنه «التقيد بما يرضي الله تحكيماً وتسليماً» وما يرضي الله سبحانه يشمل الكف عن المعاصي من فعل حرام أو ترك فرض والكف عن الشبهات، كما يشمل الكف عن المكروه، والكف عن بعض المباح و الحلال، ويشمل فعل المندوب وسائر الآداب والفضائل، كما يشمل الكف عن سوء الأدب وخوارم المروءة. وإنما قلنا التقيد ليشمل الكف والفعل، ونعني بالفعل الواجب والمندوب والأدب والفضيلة، وعدم فعلها قبيح فينبغي الكف عنه، وبذلك لا نخرج عن المعنى اللغوي للورع، إذ لا يعقل أن يطلق الورع ويوصف به من يترك الفرض أو المندوب أو الأدب أو الفضيلة أو المروءة. وهذا التعريف لم أجده بلفظه عند أحد من علماء المسلمين، ولكن يمكن أن يفهم من أقوال بعضهم. وهو المختار. وممن حكى معناه أو قريباً منه:

– محمد بن حسن في الاكتساب: قيل له ألا تصنف في الورع والزهد شيئاً فقال: صنفت كتاب البيوع. ومعنى قوله هذا أن الورع والزهد يكون بمعرفة الأحكام والتقيد بها.

– ابن عيينة: قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: قال ابن عيينة: الورع طلب العلم الذي به يعرف الورع. وقول ابن عيينة هذا يفهم كما فهم كلام محمد بن الحسن الذي سبق.

– إبراهيم الخواص: ذكر الخطيب في تاريخ بغداد قال: إبراهيم الخواص وسئل عن الورع فقال: أن لا يتكلم العبد إلا بالحق غضب أو رضي، ويكون اهتمامه بما يرضي الله تعالى.

– يحيى بن أبي كثير: المدخل إلى السنن عن الأوزاعي قال: سمعت يحيى بن أبي كثير يقول: العالم من خشي الله وخشية الله الورع.

– الحارث المحاسبي في المكاسب: باب صفة الورع: قلت رحمك الله ما الورع؟ قال: المجانبة لكل ما كره الله عز وجل من مقال أو فعل بقلب أو جارحة، والحذر من تضييع ما فرض الله عز وجل عليه في قلب أو جارحة.

– ابن تيمية في أصول الفقه: فأما الورع المشروع المستحب الذي بعث الله به محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو: اتقاء ما يخاف أن يكون سبباً للذم والعذاب عند عدم المعارض الراجح، ويدخل في ذلك أداء الواجبات والمشتبهات التي تشبه الواجب، وترك المحرمات والمشتبهات التي تشبه الحرام، وإن أدخلت فيها المكروهات قلت تخاف أن تكون سبباً للنقص والعذاب. وأما الورع الواجب فهو اتقاء ما يكون سبباً للذم والعذاب، وهو فعل الواجب وترك المحرم، والفرق بينهما فيما اشتبه أمن الواجب هو أم ليس منه، وما اشتبه تحريمه أمن المحرم أم ليس منه، فأما ما لا ريب في حله فليس تركه من الورع وما لا ريب في سقوطه فليس فعله من الورع. وقولي عند عدم المعارض الراجح، فإنه قد لا يترك الحرام البين أو المشتبه إلا عند ترك ما هو حسنة، موقعها في الشريعة أعظم من ترك تلك السيئة، مثل من يترك الائتمام بالإمام الفاسق فيترك الجُمع والجماعة والحج والغزو… لكن يقع الغلط في الورع من ثلاث جهات: إحداها: اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك، فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام لا في أداء الواجب، وهذا يبتلى به كثير من المتدينة المتورعة، ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة، وعن الدرهم فيه شبهة لكونه من مال ظالم أو معاملة فاسدة، ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين وذوي الفجور في الدنيا، ومع هذا يترك أموراً واجبة عليه إما عيناً وإما كفاية وقد تعينت عليه من صلة رحم وحق جار ومسكين وصاحب ويتيم وابن سبيل وحق مسلم وذي سلطان وذي علم، وعن أمر بمعروف ونهي عن منكر، وعن الجهاد في سبيل الله، إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه، أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى بل من جهة التكليف ونحو ذلك … انتهى كلام ابن تيمية.

حكمه: 

 الورع بالاعتبار المختار لا يخرج عن الوجوب أو الندب. ومن أدلته:

– قوله تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء 65].

– قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى) [طه 54] ذكر الطبراني عن قتادة في تفسير أولي النهى “أهل الورع”.

– حديث النعمان بن بشير المار وهو متفق عليه، وفي رواية عند البخاري والنسائي أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبّه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أو شك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله، ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه».

– حديث النواس بن سمعان (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس» مسلم.

– حديث أنس (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجد تمرة في الطريق فقال: «لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها» متفق عليه.

– حديث الحسن بن علي (رضي الله عنهما) قال: حفظت من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» الترمذي وابن حبان في صحيحه والنسائي، وقال الترمذي حديث حسن صحيح.

– حديث أبي ثعلبة الخشني (رضي الله عنه) قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني ما يحل لي ويحرم علي قال: «البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون». أحمد. قال المنذري بإسناد جيد، وقال الهيثمي رجاله ثقات.

– حديث وابصة بن معبد (رضي الله عنه) قال: أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا أريد أن لا أدع شيئاً من البر والإثم إلا سألت عنه فقال لي: «ادن يا وابصة، فدنوت منه حتى مست ركبتي ركبته فقال لي: يا وابصة أخبرك عما جئت تسأل عنه؟ قلت: يا رسول الله، أخبرني، قال: جئت تسأل عن البر والإثم، قلت: نعم، فجمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري ويقول: يا وابصة استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك» قال المنذري رواه أحمد بإسناد حسن.

– حديث عطية بن عروة السعدي (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به بأس» وقد سبق تخريجه.

– حديث أبي أمامة (رضي الله عنه) قال: «سأل رجل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما الإثم؟ قال: إذا حاك في نفسك شيء فدعه، قال فما الإيمان؟ قال: إذا ساءتك سيئتك وسرتك حسنتك فأنت مؤمن» قال المنذري: رواه أحمد بإسناد صحيح.

– حديث حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «فضل العلم خير من فضل العبادة وخير دينكم الورع» قال المنذري رواه الطبراني في الأوسط والبزار بإسناد حسن.

– حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): “كن وَرِعاً تكن أعبد الناس، وكن قَنِعاً تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً، وأقِلَّ الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب”. البيهقي في الزهد الكبير وابن ماجه وقال الكناني في مصباح الزجاجة: هذا إسناد حسن وأبو رجاء اسمه محرز بن عبد الله.

[يتبع]

ع. ع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *