العدد 248 -

العدد 248- السنة الثانية والعشرون، رمضان 1428هـ، الموفق تشرين الأول 2007م

الفراغ الأيديولوجي والاستراتيجي في المنطقة الإسلامية لا تملؤه إلا الخلافة

الفراغ الأيديولوجي والاستراتيجي في المنطقة الإسلامية لا تملؤه إلا الخلافة

 

يلاحظ المتابع الواعي لمجريات الأحداث في المنطقة الاسلامية بعد 11 سبتمبر 2001 أن تغييرات جوهرية قد حدثت في المنطقة، ويلاحظ أيضاً أن المناخ العام في المنطقة يتهيأ بشكل متسارع لاستقبال الدولة الإسلامية، وأن هذه الدولة ستظهر دول عظمى ومنذ الشهور الأولى لولادتها. وعلى الرغم من أن هذه الحقيقة نجزم بها قبل 11 سبتمبر إلا أن الكثير من الأنظمة السياسية قد ظهر للمتابع الواعي تصدعها بشكل يسهل كسرها، وأن هذه الظروف كلها قد تجمعت في نتيجة الأحداث التي لحقت 11 سبتمبر 2001.

أما وصف ذلك بشكل دقيق فإن المنطقة الإسلامية قد ظهرت فيها أعراض فراغ قاتل للأنظمة الحاكمة، وقد اندفعت أقوى دول العالم من أجل ملئه ففشلت في ذلك فشلاً ذريعاً، وهذا جلي في العراق وأفغانستان وفلسطين، ولكنه موجود في كافة بلدان المسلمين وإن بدرجات متفاوتة.

أما كيف تسلسلت الأحداث حتى قبل 11 سبتمبر لتصنع هذا الفراغ الذي ينتظر من يملؤه فإن ذلك يمكن متابعته وتبيانه على النحو التالي:

كانت المنطقة الإسلامية والتي يسمونها غالباً بالشرق الأوسط منطقة نفوذ للقوى الاستعمارية الغربية طوال الفترة التي تلت هدم الخلافة العثمانية، ولم تخرج هذه المنطقة من تلك الحقبة بعد. وكانت الدولة المسيطرة في قطرٍ ما تساعد عملاءها في ذلك القطر حتى يبقى حكمه قوياً مستقراً ولا تطمع دولة أو دول أخرى بالسيطرة عليه. وفي إطار الصراع بين تلك الدول الغربية المستعمرة فيما بينها كانت تحاول إحداها إيجاد الفراغ في بلد ما من أجل خلخلة نفوذ الحكام في ذلك البلد، أي أن الدول الكبرى كانت تتعمد إيجاد الفراغ السياسي أو العسكري أو الاستراتيجي في بلد ما تمهيداً لإدخال نفوذها وملء الفراغ به في ذلك البلد، على أمل أن تقضم ذلك البلد من نفوذ الدولة المنافسة وضمه إلى مناطق نفوذها في المنطقة الإسلامية. وباستثناء أعمال سوفياتية غير متواصلة في إيران وأفغانستان، وباستثناء أعمال فرنسية في المغرب العربي ولبنان وبشكل أضعف في مناطق أخرى، فإن الصراع في المنطقة الإسلامية كاد ينحصر بين بريطانيا وأميركا. وعلى الرغم من اتفاق الطرفين الضمني على عدم السماح بإدخال النفوذ السوفياتي إلى المنطقة الإسلامية ومقاومته بشراسة بحكم وجودهما في المعسكر الغربي المناهض للاتحاد السوفياتي، إلا أن حرباً ضروساً كانت تدور بين هاتين الدولتين الغربيتين في المنطقة، وكان حكام المسلمين العملاء وجيوشهم هم أدواتها.

وعلى الرغم من سقوط بريطانيا من مرتبة الدول العظمى بداية الستينات من القرن العشرين بعد اتفاق العملاقين السوفياتي والأميركي على حصر السياسة الدولية بهما، إلا أن عصب القوة البريطانية والمتمثل بعملائها في الشرق الأوسط وأفريقيا ظل يرفدها بشريان العظمة، فظلت دولة عظمى لها تأثير فعال في العالم بالرغم من اتفاق العملاقين على إخراجها من السياسة الدولية.

وبسقوط الاتحاد السوفياتي طمحت بريطانيا أن تعود للحلبة الدولية بزخم كبير، إلا أن إصرار الولايات المتحدة على التفرد بالسياسة الدولية قد حرم بريطانيا من أي أمل حقيقي في العودة للمشاركة في رسم السياسة الدولية، بل إن الولايات المتحدة قد شرعت فعلاً في قطع شريان العظمة لبريطانيا. وقد تجلى الإصرار الأميركي في التفرد في حرب إخراج العراق من الكويت، وبدأت بعدها الجهود الأميركية لإيجاد الفراغ في العراق، وكانت تلك الجهود فعالة لدرجة أن عراق صدام حسين قد أصبح منهكاً بالفراغ العسكري الذي أوجدته السياسات الأميركية بعد حرب الكويت والذي تمثل في فرض مناطق حظر الطيران في شمال البلاد وجنوبها، والحملات العسكرية المتقطعة التي لا حول للجيش العراقي بها ولا قوة إلا الصبر. وكان من تأثير ذلك أن الأنظمة التابعة لبريطانيا في المنطقة قد انتابها ضعف شديد في الأردن واليمن ومشيخات الخليج بحيث أصبح الحفاظ على نفسها أكبر هم لها، ولم تعد بقادرة على المبادرة بالفعل لخدمة بريطانيا، وكانت تنثني مع أمواج الرياح الأميركية حتى لا تنكسر، وأصبح أمل أميركا بخلع بريطانيا ووراثتها في المنطقة أملاً حقيقياً.

وفي خضم هذه الفترة وقبل 11 سبتمبر فإن حدثاً كبيراً قد نجم عن انهيار الاتحاد السوفياتي في المنطقة الإسلامية لم ينتبه إليه بالاهتمام الكافي. كان ذلك الحدث متمثلاً في الانهيار السريع للأحزاب الشيوعية واليسارية في المنطقة الإسلامية. وبهذا الانهيار تكون المنطقة الإسلامية من الناحية الأيديولوجية الداخلية قد انتقلت من الصراع الفكري الثلاثي بين مبادئ الإسلام والرأسمالية والاشتراكية إلى الصراع الثنائي بين الإسلام والرأسمالية. وكان متوقعاً كما حصل أن ترفد مياه الذوبان للأحزاب الشيوعية واليسارية نهر الإسلام الذي صار يقوى بهذه الروافد الجديدة، ولكنه لم يصبح جارفاً إلا بعد 11 سبتمبر 2001م. ويمكن القول بثقة بأن الاسلام قد ملأ الجزء الأعظم من الفراغ الأيديولوجي الناجم عن غياب الاشتراكية واليسار داخل البلدان الإسلامية. وهكذا أصبح الصراع الفكري ذا معالم أوضح في المنطقة الإسلامية بين التيار الإسلامي في الشارع وبين النظم العلمانية والأحزاب المساندة لها في الحكم، وبهذه القطبية الثنائية في الصراع الفكري أصبح العمل السياسي ضد الحكام أشد أثراً وأعظم فاعلية ضد الحكام العملاء في المنطقة الإسلامية. وللتدليل على وضوح هذه الصورة فإن الأحزاب والحركات الإسلامية هي وحدها التي أصبحت تقاتل المحتل في البلدان المحتلة في فلسطين وأفغانستان والعراق، فاختفى حزب نجيب الله الشيوعي تماماً من أفغانستان، وفي فلسطين أخلت الجبهات الشعبية والديمقراطية وغيرها من حركات اليسار ساحة الصراع أمام تعاظم كتائب القسام وسرايا القدس، وفي العراق كان الاختفاء الأكبر لحزب البعث أمام القاعدة والجيش الإسلامي وغيرها من جماعات القتال الإسلامية حتى من بقي من فلول البعث فإنهم صاروا لا يقودون أتباعهم ومؤيديهم بعيداً عن الإسلام، أي لم يعد لغير التشكيلات الإسلامية مشاركة تذكر في القتال، لأن غيرها إنما تحركه الأنظمة العلمانية وتأمره بالقيام ببعض الأعمال الرمزية حتى لا تظهر الصورة وكأن الساحة قد باتت خالية كليةً من غير الحركات والأحزاب الإسلامية. وهذه صورة للأثر السياسي للقطبية الثنائية على مستوى الداخل في البلدان الإسلامية.

ومما فاقم الفراغ الأيديولوجي في المنطقة أن قناع الديمقراطية والانبهار بالغرب قد سقط عن الأنظمة في المنطقة الإسلامية وتمرغ في التراب بعد الحملات الأميركية التي تلت 11 سبتمبر 2001م. وذلك أنه قد بان عوار النموذج الأعظم للديمقراطية والحرية أي للولايات المتحدة والتي أخذت تقصف بأطنان القنابل المشاركين في حفلات الزفاف في أفغانستان والعراق، والتي تعمدت تقتيل الأطفال والشيوخ والنساء بلا رحمة، وبصور التعذيب التي كشفتها أميركا نفسها عن واقع السجون في أبو غريب وما ابتدعته من السجون الطائرة والمبحرة وفي البر في غوانتنامو، وقد برزت أميركا للعالم كخزان شرور فعلي، وتقزز المسلمون والعالم من أميركا وأفعالها وسياساتها، وسقط تبعاً لذلك آخر منبهر بالحضارة الغربية في المنطقة الإسلامية وأصبح مخجلاً لأي كان الدفاع ليس عن أميركا فحسب، بل وعن أي من القيم الحضارية الغربية التي يرى المسلمون منها ألوان العذاب يومياً، بل وفي كل ساعة في العراق وأفغانستان مباشرة، وفي فلسطين بالإذن الذي منحته أميركا ومعها أوروبا لشارون للتقتيل والترويع تحت حجة محاربة الإرهاب. وانهارت الأخلاق العسكرية الأميركية بهذه الصور والأحداث وتجلى ذلك في القصف الأميركي لأفراد المحاكم الإسلامية وهم يخلون مواقعهم ويفرون نحو الجنوب أمام تقدم الجيش الأثيوبي، فكان ذلك كمن يتفنن في قتل جثة مقتولة أصلاً.

وما يهمنا هنا أن كل هذا أنتج فراغاً أيديولوجياً كبيراً في المنطقة الإسلامية، والتي لم يبق فيها من أهل المبادئ سوى دعاة الإسلام. وغدت الأنظمة التي تحكم بغير الإسلام وقد فقدت مبرر وجودها الأيديولوجي تماماً، ولم يعد لها من حجة لاستمرار التمسك بالرأسمالية.

وواضح لكل ذي بصيرة أن هذا الفراغ الأيديولوجي لا يستطيع ملأه إلا دين الإسلام، وهذا الفراغ وإن كان أيديولوجياً صرفاً، إلا أنه أصبح ينضج أجواءً أخرى كمثل الضعف السياسي لهذه الأنظمة، والتي أصبحت أقل إقناعاً لشعوبها بسبب استمرار تمسكها بالمبادئ العلمانية ورفضها الحكم بالإسلام. والحركات الإسلامية التي ربحت الحرب الأيديولوجية قد صار ذلك يزيد في قوتها بشكل عام في الصراع السياسي أو العسكري ضد هذه الأنظمة، فخصبت التربة للعمل السياسي المجدي الذي يقوم به العاملون لإقامة الخلافة الإسلامية، كما وخصبت لتنبت نباتاً جديداً من الجماعات الإسلامية والتي تنتهج العمل العسكري للإطاحة بالأنظمة هذه، وكثير من هذه الجماعات قد نشأ بعد أن لم يكن قبل تلك الفترة، وهذه مؤشرات على الخصوبة العالية للتربة الإسلامية في إنبات العاملين للتغيير ضد هذه الأنظمة.

لم يقف مستوى الفراغ عند هذا الحد، فقد أرادت أميركا بهجماتها السياسية والعسكرية بعد 11 سبتمبر أن توجد فراغاً شاملاً يمهد لها لرسم سايكس بيكو جديدة للمنطقة الإسلامية، فقامت بالحملات العسكرية على أفغانستان والعراق، وكادت أن تنتقل إلى الفريسة الثالثة والرابعة لولا أنها قد صدمت بحجم الروح العدائية لدى المسلمين، وصدمت بتأجج غير مسبوق للروح القتالية في المنطقة ضد أميركا.

أوجدت أميركا فراغاً عسكرياً في عراق صدام حسين حتى تملأه جيوشها، وكان لها ما خططت له من احتلال العراق وهزيمة جيش صدام، لكنها قد صعقت بحجم المقاومة العراقية التي أفقدت واشنطن صوابها، فعجزت أميركا وهي صاحبة أقوى جيوش العالم عن ملء الفراغ العسكري في العراق، وبقي هذا الفراغ حفرة يكاد الجيش الأميركي لا يخرج منها وهو بعزته وكرامته. وكذلك أفغانستان، بل وحرب صيف 2006م في لبنان قد جرت الجيش الإسرائيلي الذي وصمته الهزائم العربية بأنه جيش لا يقهر إلى ذات الحفرة.

هذا الفراغ العسكري الكبير الذي عجز الجيش الأميركي عن ملئه، وذاك الفراغ الناتج عن انحسار دائرة الرعب التي كان جيش يهود يرسمها فيما حوله، والعجز الأكيد للجيوش في بلاد المسلمين عربية وغير عربية عن ملئها في المنطقة على الرغم من امتلاكها من أدوات الحرب ما لا تملكه المقاومة في العراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين، كل ذلك قد أوجد ظرفاً جديداً في المنطقة الإسلامية لم يكن أبداً موجوداً قبل ذلك وبهذا الشمول، وهذا الظرف الجديد هو الفراغ العسكري الشامل والمتمثل في عجز وشلل الجيوش في بلاد المسلمين عن القيام بواجباتها في الذود عن حمى المسلمين، وعجز جيوش الدول الكبرى عن فرض الأمن في المنطقة، وبروز جماعات المقاومة بشكل لافت، ليؤكد بشكل واضح أن القوة الوحيدة القادرة على ملئه لهي دولة الخلافة الإسلامية والتي يبين العاملون لها للأمة الكيفيات العملية وغير الخيالية في توظيف طاقات الأمة للذود عن حمى الأمة، وأن الأمة باتت تؤمن بإمكانية ذلك لا سيما وهي ترى جيوش دول الكفر تتمرغ عظمتها وبشكل جماعي أو منفرد على أيدي رجال آمنوا بربهم في أفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين وهم لا يملكون إمكانات الجيوش والمتوفرة فعلاً في بلدانهم أو محيطهم.

ومن الناحية العسكرية فإن هذه الدولة الإسلامية ستكون عظمى إذا هزمت جيشاً عظيماً، وهزيمة هذه الجيوش المحتلة للبلدان الإسلامية تبدو هدفاً سهل المنال في ظل خصوبة التربة الإسلامية حتى قبل قيام الخلافة الإسلامية وقدرتها على إنبات الرجال الذين يقاتلون كما قاتل أجدادهم أبطال الإسلام الأوائل، وفي ظل الرعب المتعاظم الذي دب في صفوف الكفار فعلاً من طريقة المسلمين في القتال.

هذا هو الفراغ العسكري الذي أضيف إلى الفراغ الأيديولوجي في المنطقة الإسلامية، أما الفراغ السياسي، فإنه كذلك قد أصبح معولاً لهدم هذه الأنظمة. وذلك أن الهجمات العسكرية الأميركية كانت ترافقها هجمات سياسية لا تقل وطأة على الأنظمة من الهجمات العسكرية التي استهدفت بعضها، وكانت أميركا تخطط من وراء الفراغ الذي ستوجده هجماتها السياسية القضاء على أي نفوذ لغيرها في المنطقة وربط المنطقة تماماً بالعجلة الأميركية. تمثلت الهجمات السياسية الأميركية والمندفعة بعقلية عسكرية عنجهية لا تقيم كبير وزن لغيرها من القوى، ولا ترى غيرها في الميدان، تمثلت في مشروع الشرق الأوسط الكبير والجديد والمطالبات الحادة للأنظمة العربية وباكستان بالإصلاح وبالتدخلات في كافة مناحي الحياة السياسية الداخلية لهذه البلدان، صحيح أن هذه الأنظمة قد لزمت السكون أمام هذه الهجمات محاولةً حماية نفسها من رياح التغيير الأميركية، ووافقت مكرهةً على بروز المعارضة الداخلية، وأجرت الانتخابات في مشاهد وكأنها الفتح المبين للسياسات الأميركية كمثل تلك التي جرت في السعودية، ومشاركة النساء فيها في الكويت. وصحيح أيضاً أن النفوذ غير الأميركي بدا وكأنه قد ذاب، وأن الأنظمة كلها قد باتت مع أميركا أمام هجمتها تحت شعار “إما معنا أو ضدنا”. كل ذلك صحيح، وأن هذه السياسة قد أحيت الحاجة للتغيير في المنطقة عند الفئات الساكنة. ولكن ما نتج عنها فراغ سياسي كبير في المنطقة الإسلامية، وهذا الفراغ بحاجة لمن يملؤه، وأن هذه الأنظمة قد أصبحت مشلولة في العمل السياسي، ويمكن تبيان ذلك على مستويين:

على المستوى الأول: عجز سياسي شامل وظاهر في السياسة الإقليمية، فالعرب قد قرروا حصار الشعب الفلسطيني في نتيجة الانتخابات بعد أن كان الدعم المالي يغطي عجزهم العسكري عن تحرير فلسطين، فتعرت الأنظمة العربية والإسلامية بهذا الحصار بشكل لم يكن كذلك أبداً من ذي قبل. وبدا انحناء هذه الأنظمة أمام التمدد الأميركي بشكل أفقدها وجودها، فاختفت هذه الدول من الوجود وكأنها أقل من مقاطعة صغيرة في الولايات المتحدة، وقرر العرب كسر الحصار الدولي حسب تصريحات عمرو موسى، لكن الحصار مستمر، ولم يعد أحد يفرق بين قدرات المواطن العادي وبين قدرات الحاكم في السياسة الإقليمية لهذه الأنظمة، فاشتعل الأمل في التغيير، وانخرطت المزيد من قطاعات الأمة في الجهد من أجل التغيير أمام اختفاء ظاهرة الدولة وظاهرة الاستقلال بشكل سريع. فبعد أن كانت الأنظمة الحاكمة تجد ما يغطيها قبل 11 سبتمبر فقد انحسرت عنها آخر ورقة توت كانت تتغطى بها. وأمام هذا العجز السياسي والشلل عن العمل وفقدان القدرة على الثبات على أي موقف، فإن خلخلة غير كبيرة في الأوضاع الداخلية يمكنها أن تكسر هذا الجدار اللعين لهذه الأنظمة والذي بنته لها قوى الاستعمار ليحميها من شعوبها.

أما على المستوى الثاني، وهو الأكثر حسماً، أي المستوى الداخلي لكل نظام، فإن الفراغ السياسي ملاحظ بشدة في أنظمة البلدان المحتلة في فلسطين والعراق وأفغانستان، وكذلك في لبنان والسودان. وفي كل هذه البلدان فإن الشغل الشاغل هو البحث عن التغيير، وأما في غير هذه البلدان فإنه يختلف من بلد لآخر، فتركيا وباكستان ومصر يلاحظ فيها الفراغ السياسي بشكل جزئي، ولكنه لا يلاحظ في بلدان أخرى كالسعودية واليمن وليبيا وتونس. ولكن استمرار فراغ الدولة في السياسة الإقليمية قد أوجد فراغاً قيادياً شاملاً في المنطقة الإسلامية، وهذا الفراغ القيادي وأمام خصوبة التربة للتغيير يدفع باتجاه بروز القيادات الإسلامية البديلة من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه يضعف ارتباط القيادات العسكرية المحلية والضباط بالقيادة السياسية فتصبح هذه القيادات العسكرية السند أكثر قابلية للبحث في تغيير هؤلاء الحكام وأكثر قبولاً بالقيادات الإسلامية البديلة.

وتعاني الأنظمة الحاكمة في المنطقة من الفراغ الاستراتيجي بشكل شبه كامل، فيضرب ببعضها بواسطة التفجيرات المتلاحقة كما في السعودية وأحداث صعدة في اليمن والجزائر والمغرب، ويضرب بواسطة الخلخلات الاقتصادية والمتمثلة في الانهيارات في أسواق المال وفقدان المواطنين أموالهم كما في مصر والسعودية وباقي دويلات الخليج، ما يزيد من حدة الفراغ في المنطقة ويزيد من الدفع باتجاه التغيير ويزيد من قبول الأمة واستيعابها لوجوب وضرورة التغيير.

وأما ما يشير الى أن ولادة دولة الخلافة الإسلامية سيكون ولادة دولة عظمى فوراً، فإن لذلك مؤشرين:

المؤشر الأول: إن ترابط المنطقة الإسلامية ووحدتها قد عمم فشل أميركا وعجزها عن سد الفراغ العسكري في العراق وأفغانستان على المنطقة برمتها، وأن الفشل الأميركي ليس محصوراً في هذين البلدين، بل إن آلة الرعب العسكرية الأميركية قد انطفأ بريقها في المنطقة بكاملها، وأصبحت هزيمة أميركا في أي من تلك البلدان يتبعها هزائم متلاحقة وخروج لجيوشها وقواعدها العسكرية من بلدان المنطقة الأخرى، وفي حرب صيف 2006م ضعف المحور (الإسرائيلي) في إمكانية إسناد الجيش الأميركي. وهذا الانكشاف للمنطقة برمتها وزوال مظلة الرعب التي كانت تفرضها البوارج الأميركية وحاملات الطائرات قبل أن تخوض غمار الحرب فعلاً في العراق، قد جعل الشرق الأوسط برمته منطقة فراغ شامل من الناحية العسكرية، وأن بروز الدولة الإسلامية في أي من أقطاره سيعمل على فرض المظلة العسكرية الإسلامية على كامل المنطقة حتى بتلك القدرات العسكرية المحدودة الموجودة اليوم لدى المسلمين، أي أن الدولة الإسلامية بحكم الظرف الحالي من الفراغ العسكري ستفرض حمايتها العسكرية للمنطقة برمتها وليس للبلد الذي تقوم فيه ابتداءً فحسب. هذا من ناحية الواقع الدولي لمنطقة الشرق الوسط.

وأما المؤشر الثاني فإنه مفهوم من مجمل الفراغ الأيديولوجي والسياسي والقيادي والاستراتيجي في كافة دول المنطقة، بمعنى أن المناخ الحالي يجعل الأنظمة التي يكاد يأكلها الفراغ تتساقط بسهولة بالغة أمام الوهج الأول لدولة الخلافة، فليس فيها نظام واحد قادر على أن يسند نفسه بذاته، بل لا يملك أي مبرر لجيشه وشعبه لمقاومة التمدد الأول للدولة الإسلامية في ظل الشلل الذي يعاني منه عسكرياً وسياسياً واقتصادياً واستراتيجياً.

وهذه الظروف المثلى التي تشكلت بسبب الفشل الأميركي العسكري في العراق وبشكل أقل حدةً في أفغانستان، وما لحقه من ارتباك في المشاريع السياسية الأميركية، يمكن من الناحية النظرية أن تتغير فتنقلب، لا سيما إذا طال الانتظار وتمكنت الدول الكافرة من علاج الفراغ كما هو حاصل مع إيران والتي تنفرد في المنطقة في استقرارها وعدم شمولها بالفراغ المذكور، لكن المؤشرات تشير الى استشراء هذا الفراغ لا سيما مع قوة العمل الإسلامي للتغيير، والذي عليه يعقد الأمل في ضرب أي نظام من الأنظمة السياسية الضربة الكاسرة القاضية والتي لها ما بعدها من أصداء.

أبو نبيل / فلسطين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *