العدد 150 -

السنة الثالثة عشرة – رجب 1420هـ – تشرين الثاني 1999م

غزوة بني المصطلق

  على رأس ستة أشهر من غزوة بني قريظة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني لحيان، ليثأر لأصحاب الرجيع، خبيب بن عدي وأصحابه، رضي الله عنهم أجمعين، وأظهر أنه يريد الشام ليأخذهم على حين غرة، ولكنه صلى الله عليه وسلم وجدهم قد حَذِروا، وتمنّعوا في رؤوس الجبال، ولهذا قفل راجعاً، وهو يقول كما روى جابر بن عبد الله: «آيبون تائبون إن شاء الله، لربنا حامدون، أعوذ بالله من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال.». ولم يُـقم صلى الله عليه وسلم بالمدينة إلاّ ليالي قلائل، حتى أغار عيينة بن حصن الفزاري، في خيل من غطفان، على إبل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها رجل من بني غفار (يقال إنه ابن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه) وزوجته، فقتلوا الرجل، واحتملوا امرأته، وساقوا الإبل. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرخ بالمدينة: الفزعَ الفزعَ، فتوافد الفرسان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما اجتمعوا إليه أمّر عليهم سعد بن زيد وطلب منه أن يخرج في طلب القوم حتى يلحق به في الناس، واستنقذ المسلمون بعض الإبل، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذي قَـرَد، وأقام فيه يوماً وليلة، وقسّـم الفيء بين المسلمين وعاد إلى المدينة.

   ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق من خزاعة، في شـعبان سـنة سـت، كما روى ابن إسحاق وروى البخاري عن مغازي موسى بن عقبة أنها كانت سنة أربع، وروى الواقدي أنها كانت  في شعبان سنة خمس، والله أعلم. فقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجمعون له، وأن قائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث، أم المؤمنين، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيهم على ماء لهم يقال له المريسيع، فاقتتل الناس، وهزم الله بني المصـطـلق، وقُـتل منهم عشرة، وأُسر سائرهم، واستشهد من المسلمين واحد أصابه أنصاري خطأً.

                قال الواقدي: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لليلتين مضتا من شعبان سنة خمس من الهجرة في سبعمائة من أصحابه إلى بني المصطلق، وكانوا حلفاء بني مدلج، فلما انتهى إليهم دفع راية المهاجرين إلى أبي بكر الصديق (ويقال إلى عمار بن ياسر)، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة، ثم أمر عمر بن الخطاب، فنادى في الناس: أن قولوا لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم.

                فبينا الناس على ذلك الماء، إذ ازدحم مسلمان: مهاجري وأنصاري، فصاح الأنصاري: يا معشر الأنصار، وصاح المهاجري: يا معشر المهاجرين، فاشرأبت أعناق المنافقين، وخرجت الفتنة من أوكارها، فقال رأس المنافقين عبد الله بن أبي في رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم وكان غلاماً حدثاً: أوَقد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدّنا وجلابيب قريش (يعني المهاجرين) إلاّ كما قال الأول: سمّن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل، فمشى بذلك زيد بن أرقم إلى رسول الله، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب، فقال عمر: مُـرْ به عبّـاد بن بشر فليقتله، وهنا تجلت حكمة الرسول القائد، وبعد نظره، ونفاذ بصيرته فقال: «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، لا، ولكن أذّن بالرحيل» فارتحلوا، وكان ذلك في ساعة لم يعتد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرتحل فيها، ما أثار استغراب المسلمين، وقد سأل أسيد بن حضير رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سرِّ هذا الارتحال المفاجئ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: عبد الله بن أبيّ. قال: وما قال؟ قال: زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال: فأنت يا رسول الله، والله، مخرجه منها إن شئت، وهو، والله، الذليل، وأنت العزيز. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم بطوله حتى أمسى، ثم ليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم التالي حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس. فلما وجدوا مسّ الأرض، وقعوا نياماً. وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغلهم عن الفتنة التي أثارها عبد الله بن أبي.

                وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبيّ فيما بلغك عنه، فإن كنت لا بدّ فاعلاً فمرني به، فأنا أحمل رأسه، فوالله، لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعُني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا. فيا لروعة الإيمان، ويا لقوة العقيدة، كيف تحيل أبرّ الناس بوالده إلى فدائي جاهز لقتل والده المنافق!! ثم كان من أمر عبد الله بن أبيّ، أنه إذا أحدث الحدث، كان قومه هم الذين يعاتبونه ويعنّـفونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب: كيف ترى يا عمر، أما والله لو قتلته يوم قلت لي، انف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. فقال عمر: قد، والله، علمتُ لأمر رسول الله أعظم بركة من أمري. ونزلت في هذه الواقعة، وما كان من عبد الله بن أبيّ سورة «المنافقون» وفيها قوله تعالى: (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السموات والأرض ولكنَّ المنافقين لا يفقهون   يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكنَّ المنافقين لا يعلمون ) .

                وقد أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني المصطلق سبياً كثيراً فقسّـمهم في المسلمين، روى البخاري عن سعيد بن المسيب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبياً من سبي العرب، فاشتهينا النساء، واشتدت علينا العزوبة، وأحببنا العزل، وقلنا نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا قبل أن نسأله، فسألناه عن ذلك، فقال: «ما عليكم أن لا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا كائنة.». وكانت جويرية بنت الحارث من بين السبي، ووقعت في سهم ثابت بن قيس (أو ابن عم له)، وكاتبته على نفسها، وجاءت رسول الله تستعينه على كتابتها، قال رسول الله: فهل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أقضي عنك كتابك وأتزوجك، فقبلت فقضى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابها وتزوجها، فقال المسلمون، حين بلغهم الخبر: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردّوا ما بأيديهم، وقيل إنه أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فكانت بركتها على قومها عظيمة. ثم قدم أبوها فأسلم، وأسلم معه ابنان له، وناس من قومه، وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فلما سمعوا به ركبوا إليه فهابهم، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكوهم أنهم قد هموا بقتله، فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بان يغـزوهـم، فقـدم وفدهـم عليه صلى الله عليه وسلم وأوضحوا له أنهم إنما خرجوا لإكرامه، وليؤدوا إليه ما قِبَـلهم من الصدقة، وفيه وفيهم نزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبيّـنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين  ) .

                وفي طريق العودة الظافرة إلى المدينة، أشاع أهل الإفك بأم المؤمنين عائشة، ما آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآل أبي بكر رضي الله عنه، إلى أن نزلت براءتها في أربع عشرة آية من سورة النور فسُـرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمر بثلاثة ممن أفصح بالـفـاحـشـة فحـدّهـم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *