العدد 150 -

السنة الثالثة عشرة – رجب 1420هـ – تشرين الثاني 1999م

(بالمؤمنين رؤوف رحيم)

                قال الله تعالى: (إنّـا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً) البقرة/119؛ وقال عزّ من قائل: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً )  الإسراء/105؛ وقال سبحانه وتعالى: (يا أيها النبي إنّـا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً   وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً) الأحزاب/45 ـ 46؛ وقال أصدق القائلين: (وما أرسلناك إلاّ رحمةً للعالمين )  الأنبياء/107؛ وقال جل وعلا: (لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم )  التوبة/128  صدق الله العظيم.

                تحلّ على المسلمين في شهر رجب، وفي السابع والعشرين منه، ذكرى الإسراء والمعراج، وهي ذكرى تبعث من جهة، على الاعتزاز والافتخار بنبيّ هذه الأمّـة، الذي أنعم الله عليه بهذه المعجزة الخارقة، ومن جهة أخرى على الحسرة والألم على ما آلت إليه أرض الإسراء، حيث يعيث المغضوب عليهم إفساداً وترويعاً وقتلاً وتشريداً. وبهذه المناسبة العظيمة نستعرض وظيفة الرسول في الناس، ونتعرض لبعض مزايا رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه.

                فالرسول سفير بين الله والعباد، وقد يكون من الملائكة فيكون سفيراً بين الله، وواحد من خلقه اصطفاه لحمل رسالته إلى الناس، قال تعالى: (الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس) الحج/75. والرسول شاهد على الناس أنه بلّغهم عن ربّـه ما أُمر بتبليغه دون زيادة أو نقصان أو تحريف أو تبديل: (ما على الرسول إلا البلاغ) المائدة/99، وهو نذير وبشير، ينذر العصاة بما أعدّ لهم الله خالقهم من عذاب، ويبشر المتقين بما ينتظرهم من نعيم مقيم، (إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً )  الفتح/8، (إنْ هو إلاّ نذير لكم بين يدي عذاب شديد )  سبأ/46؛ والرسول يبيّن عن ربّه ما نُـزِّل إليهم: (وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نُـزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون )  النحل/44، والرسـالة رحمـة للعالمين: (وما أرسـلناك

إلا رحمة للعالمين )  الأنبياء/107، والقرآن الكريم شفاء لما في الصدور: (وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين) الإسراء/82، (قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاء) فصلت/44.

                أما واجب الناس تجاه رسولهم، فهو التصديق برسالته، وبكل ما جاء به: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) الحشر/7، وطاعته في كل أمر يأمر به: (قل أطيعوا الله والرسول) آل عمران/32. (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) النساء/59. وطاعة الرسول أمارة على حبّ الله: (قل إن كنتم تحبّـون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) آل عمران/31، والمؤمنون مأمورون بالتأسي برسولهم الكريم، على النحو الذي جاء به: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) الأحزاب/21. والرسول عليه الصلاة والسلام يأخذهم بالرحمة واللين، ويعفو عن مسيئهم، ويستغفر لمذنبهم، ويستشيرهم في أمرهم: (فبما رحمة من الله لِنتَ لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر) آل عمران/159.

                ورسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه من هذه الأمة، فهو منّـا ومن أشرفنا نسباً، وأكرمنا محتداً، وقد ذكَّـر اللـه الناس بفضـلـه عليهم أن بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، قال تعالى: (لقد منَّ

الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أَنفُـسِهم) آل عمران/164، وقُـرئت من أَنْفَسِهم أي من أعلاهم وأشرفهم، فهو رسول مِنّـا، كما قال تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين )  الجمعة/2، فما دام رسولنا مِنّـا، فإنه يشق عليه عنتنا والمشقة علينا، وهو حريص علينا أن نؤمن، وحريص على أن لا ندخل النار، وهو بالمؤمنين من أتباعه رؤوف رحيم. قال تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم )  التوبة/128.

                هذه الآية الكريمة، من أواخر سورة التوبة، وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب قال: آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ: آخر ما أنزل من القرآن (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) إلى آخر الآية، والراجح أن آخر آية نزلت من القرآن قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين )  أخرج ابن مردويه عن أنس قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) فقال علي بن أبي طالب: يا رسول الله، ما معنى من أنفسكم؟ قال: نسباً وصهراً وحسباً ليس فيَّ ولا في آبائي من لدن آدم سفاح، كلنا نكاح، وأخرج الحاكم عن ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) يعني من أعظمكم قدراً.» وأورد صاحب الظلال: [ولم يقل: جاءكم رسول منكم، ولكن قال: «من أنفسكم» وهي أشد حساسية وأعمق صلة، وأدلّ على نوع الوشيجة التي تربطهم به، فهو بضعة من أنفسهم، تتصل بهم صلة النفس بالنفس، وهي أعمق وأحسّ.].

                (عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم )  أي يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها، وقد جاء في الحديث الشريف: «بعثت بالحنيفية السمحة»، وفي الصحيح: «إنّ هذا الدين يسر، وشريعته كلها سمحة كاملة، يسيرة على من يسّـرها اللـه تعالـى عليه» فالـرســول صلى الله عليه وسلم لا يلقي أحداً من أمته في المهـالك، ولا يدفع به إلى

المهاوي، حتى إذا كلفكم بالجهاد وفي شدة القيظ، فليس ذلك استهانة منه بكم، ولا قسوة في قلبه عليكم، وإنما هي الرحمة في إحدى صورها، الرحمة بكم من الذل والهوان، والرحمة بكم من الذنب والخطيئة، والحرص عليكم أن يكون لكم شرف حمل الدعوة، وحظ رضوان الله، والجنة التي وعد المتقون، كما ورد في الظلال.

                وقيل إن الرسول صلى الله عليه وسلم حريص عليكم أن تدخلوا الجنة، حريص عليكم أن تؤمنوا، وشحيح بان تدخلوا النار، وهو شديد الرأفة والشفقة وعظيم الرحمة بالمؤمنين. قال الحسين بن الفضل: لم يجمع الله لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلاّ للنبي محمد صلى الله عليه وسلم فإنه قال: (بالمؤمنين رؤوف رحيم )  وقال تعالى: (إن الله بالناس لرؤوف رحيم )  الحج/65. وقال عبد العزيز بن يحيى: نظم الآية لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ، حريصٌ بالمؤمنين رؤوف رحيم، عزيز عليه ما عنتم، لا يهمه إلا شأنكم، وهو القائم بالشفاعة، فلا تهتموا بما عنتم ما أقمتم على سنته، فإنه لا يرضيه إلا دخولكم الجنة.

                وقد كان صحابته الكرام رضوان الله عليهم متأسين برسولهم الكريم في الحرص على المسلمين، وفي الرأفة بهم والإشفاق عليهم، وفي الحرص على سعادتهم في الدنيا، وعلى هدايتهم إلى ما يرضي الله، والعالم كله يذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو أن شاة عثرت بأرض العراق لحسبت أن الله سائلني عنها، لِمَ لَمْ أعبّد لها الطريق. نسوق هذه المزايا في رسولنا القائد، وفي خلفائه من بعده، لنرى هل من حكام المسلمين اليوم من يعزّ عليه عنت الأمة وشقاؤها وذلّها وهوانها؟! هل هم حريصون على دين الأمة وعقائدها ومقدساتها؟! هل منهم من يعزّ عليه أعراض المسلمين ودماؤهم وبلادهم وأموالهم؟! هل من حريص عليهم وعلى حاضرهم ومستقبلهم؟! أظن أن الإجابة محسومة بالنفي القاطع، ولهذا ففي ذكرى إسراء نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، نجدّد الدعوة للمسلمين أن يوجدوا من أنـفـسـهـم حـاكـمـاً يسيتر فيهـم على سـنـة المصطفى، وعلى نهـج خلفـائـه وأصـحـابـه الأخـيـار، (والله غالب على أمره) q

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *