العدد 242 -

العدد 242، السنة الواحدة والعشرون، ربيع الأول 1428هـ، الموافق نيسان 2007م

الآثار الأخروية للحكم بغير ما أنزل الله (2)

الآثار الأخروية للحكم بغير ما أنزل الله (2)

 

3- الأكل من النار وغضب الجبار:

في سورة البقرة، بعد أن تحدثت الآيات عن بعض أحكام الشريعة مثل تحريم أكل الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل لغير الله به، توعدت الآيات من يكتمون أحكام هذه الشريعة مقابل ثمن قليل يأكلونه، لأن كتمان الشريعة ممن يعرفون، يستلزم قطعاً أنواعاً من الانحراف عنها، قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ @ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ @ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ) [البقرة 174-176]. فهؤلاء الذين يكتمون الحق المنـزل لقاء ثمن رخيص مقابل ذلك الكتمان، إنما يأتون حراماً يعذبهم الله عليه بنار يأكلونها في بطونهم الجشعة، فهي نار على الحقيقة يأكلونها يوم القيامة جزاء بما اقترفوا من أكل الرشا على الدين، أو أن الله تعالى سمى ما أكلوا من الرشوة ناراً؛ لأنه يؤديهم إلى النار. وبعد ذلك النوع من العذاب المادي الملموس تذكر الآيات لوناً آخر من عقاب معنوي محسوس. ( وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ). وذلك لأنه تعالى غضبان عليهم لأنهم كتموا وقد علموا فاستحقوا الغضب، فلا يكلمهم الله ولا يزكيهم، أي لا يثني عليهم ولا يمدحهم، بل يعذبهم عذاباً أليماً… ثم قال تعالى مخبراً عنهم: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ). فهو يخبر سبحانه أنهم في عذاب شديد عظيم هائل، يتعجب من رآهم فيه من صبرهم على ذلك من شدة ما هم فيه من العذاب والنكال والأغلال، عياذاً بالله من ذلك. وهذه الآيات وإن كانت تتوعد أصلاً علماء اليهود الذين مردوا على كتمان الحق المنـزل إذا خالف أهواءهم أو أهواء ساداتهم، إلا أن وعيدها يشمل كل من عمل عملهم وكان على شاكلتهم.

قال القرطبي: «وهذه الآية وإن كانت في الأحبار، فإنها تتناول من المسلمين من كتم الحق مختاراً بسبب دنيا يصيبها».

4- اللعنة وطمس الوجوه:

إذا كان الله عز وجل قد كرم الإنسان وخلقه في أحسن تقويم، وكرمه ثانياً إذ أنزل إليه أحسن تشريع، فإن الإنسان ببطره نعمة ذلك التكريم يكون منتكساً في فطرته، مرتكساً في وجهته، معرضاً نفسه في الآخرة لطمس البصر بعد طمس البصيرة، وهذا هو شأن المعرضين عن الإيمان بشريعة الله المنـزلة. قال تعالى داعياً أهل الكتاب للنـزول على حكم هذه الشريعة ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ءَامِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ) [النساء 47].

وهو عقاب شديد وعقاب مخوف ينتظر المعرضين عن الإيمان بما أنزل الله، قال ابن جرير في تفسير هذه الآية: ( مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا ) قال بعضهم: طمسه إياها، محوه آثارها حتى تصير كالأقفاء. وقال آخرون معنى ذلك: أن نطمس أبصارهم فنصيِّرها عمياء.

واللعنة أيضاً -وهي الطرد من رحمة الله- تنتظر المتلاعبين بالشريعة الذين كان سلفهم الأول هم أصحاب السبت، الذين اعتدوا في سبتهم بالتحايل على الشريعة فمسخوا قردة وخنازير.

وقد أسلم كعب الأحبار -وكان من علماء اليهود- لما سمع تلك الآية، وحكى عن نفسه ذلك فقال: ركبت إلى المدينة فإذا تالٍ يقرأ القرآن يقول: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ءَامِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ) فبادرت الماء فاغتسلت، وإني لأمس وجهي مخافة أن أطمس، ثم أسلمت.

5- عذاب الخزي والهوان:

قال تعالى: بعد أن ذكر جوانب من أحكام الشريعة في سورة النساء ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) [النساء 13] ثم شرعت الآيات في بيان جزاء من يتعدى تلك الأحكام ويتجاوز تلك الحدود… ( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ) [النساء 14]. فهي عاقبة رهيبة مفزعة، أن يؤول مصير عبد إلى أن يتولى الرب القهار الجبار إدخاله إلى النار، لتوصد عليه أبوابها في عذاب قائم ومهانة دائمة. فكل من  اعتدى على حدود الله مكذباً أو جاحداً أو مبدلاً أو مبعضاً فهو متوعد بهذا العذاب المهين «لكونه غيّر ما حكم الله به، وضادّ الله في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب المقيم».

وحدود الله التي تتوعد الآيات بالعذاب من تعداها، هي مجمل أحكام الله وهي كل عمل لا تحل مخالفته، ولهذا سميت في الآيات طاعة لله وللرسول، فمعنى ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) أي: يتابع حدوده، كما دل عليه قوله في مقابله ( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا ).

وقد قال الله تعالى في آية أخرى: ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ) [التوبة 63] وتوعد الله بعض العصاة بعقاب وخزي عظيم وسمى معصيتهم محاربة لله ورسوله -بالرغم من كون بعضهم من عصاة المسلمين- فقال تعالى: ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [المائدة 33]. قال صاحب رسالة (تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن) تعليقاً على هذه الآية: «فإذا كان هذا حكم الباغين المحاربين الخارجين عن طاعة الإمام، الذين شقوا عصا الجماعة، فما بالك بمن دعا الناس كافة عرباً وعجماً، مؤمنهم وكافرهم إلى قانون اخترعه هو أو غيره من جنس الخيالات الباطلة، فخرج هو، وأخرج به عن طاعة الله وطاعة رسوله، وحاربهما وشاقهما بمخالفة أمرهما، أليس هو أولى بذلك..؟ بلى وربك! فإنه رأس الفساد، وأم الشرور والخبائث… وما يعقله إلا العالمون».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *