العدد الخامس -

السنة الأولى، العدد الخامس، صفر 1408هـ، الموافق تشرين أول 1987م

المادة: أزلية أم مخلوقة؟

بقلم: أحمد الطرابلسي

يستطيع الإنسان بكل بساطة أن يتوصل إلى وجود الخالق المدبر. وطريق الإيمان هذا هو طريق البحث العقلي في واقع المادة ـ وهي كل ما يدركه الإنسان من أشياء ملموسة، وبذلك يتوصل الإنسان الذي يسعى فعلاً إلى الحق إلى تكوين فكرة مستنيرة عن المادة، وعمّا وراء المادة.

حقائق المادة

المادة تتألف من حقائق لها وجود يمكن قياسه قياساً فيزيائياً بطريقة ما. وهذه الحقائق المادية منها ما يكون وجوده مستقراً مثل «البروتون» و«النيوترون» و«الإلكترون»، ومنها ما يكون وجوده عابراً فيوجد في ظروف معينة للحظة قصيرة ثم يختفي مثل «الميزون»، ومنها ما يكون بشكل موجة مثل «الفوتون» الذي يشكل الضوء. وهذه الحقائق (الدقيقة) المكتشفة حتى الآن في الذرّة وفي نواة الذرّة تزيد عن الثلاثين. وهذه الجسيمات الدقيقة غالباً تكون مركّبة في جسيمات أصغر منها، فـ «البورتون» و«النيوترون» مثلاً يتألّف كل واحد منها من ثلاث «كواركات»، و«الكوارك» عرف منه حتى الآن ستّة أنواع مختلفة. والكون المادي كله، على عظمه، يتألف من هذه الجسيمات الدقيقة.

وعلينا أن نميّز بين المادة نفسها وبين الانفعالات والانطباعات التي هي من آثار المادّة. فالزمان ليس مادة بل هو أثر من آثار المادة. والمكان ليس مادة بل هو أثر من آثار المادة. والانفعالات النفسية من حب وبغض وخوف وطمع وكرم وشجاعة وغضب وحزب وأمل ويأس وتخيلات… هذه كلها ليست مادة بل هي من آثار المادة.

أمر بديهي

هناك حقيقة مقررة عند جميع الناس، هذه الحقيقة هي أنه من المحتّم أن يكون هناك شيء أزلي لا بداية له، هذه الحقيقة قررها العقل وقررها العلم.

فعقلاً: لا يوجد مفكّر، مهما كان فكره، يستطيع أن يفترض أنه في وقت من الأوقات لم يكن شيء إطلاقاً: لا كون مادي ولا غير مادي ولا إله ولا شي، ثم تكونت المادة ونشأ الكون من لا شيء وبدون خالق. لا يستطيع أي مفكر أن يقول بهذا، ولا حتى أن يفترضه مجرد افتراض. إذ لو جاز أنه في وقت من الأوقات لم يكن هناك شيء إطلاقاً، فما الذي أوجد الكون الذي ندركه اليوم؟

وأما العلم: فهناك قانون التفاعلات الكيميائية، وقانون التفاعلات النووية، وقانون تحولات الطاقة.

فالأول ينص: في أي تفاعل كيماوي المادة لا تُخلق ولا تفنى.

وفي الثاني: في التفاعلات النووية، المادة لا تُخلق من عدم ولا تفنى إلى العدم، بل تتحول من شكل إلى شكل. وقد وضع اينشتاين المعادلة: الطاقة = الكتلة (ضرب) سرعة الضوء.

وفي الثالث: عند تحول الطاقة من شكل إلى آخر فإن كمية الطاقة الناتجة تساوي كمية الطاقة المستهلكة.

إذاً فالأمر البديهي الذي لا مراء فيه هو أنه لا بد أن يكون هناك شيء أزلي، وهذا الشيء الأزلي إما أن يكون هذه المادة، وإما أن يكون شيئاً غير مادي. دعونا ننظر في المادة لنرى إذا كان من الممكن أن تكون أزلية.

نتيجة عقلية

إن كل حدث أمامنا في الكون يدعونا للسؤال: لماذا حدث هذا الأمر اليوم ولم يحدث بالأمس؟ والجواب البسيط: لأن العوامل اللازمة لحدوثه لم تكن قد اكتملت بعد، واكتمالها احتاج إلى بعض الوقت. وهذا الجواب يتضمن أن الكون الذي لا تنفك الحوادث تحصل فيه لم يأخذ الوقت الكافي بعد، أي أنه ليس أزلياً، إذ لو كان كذلك لوجب أن تحصل تلك الحوادث منذ الأزل أيضاً.

ثوابت علميّة

ونود أن نذكر القانون الثاني من قوانين الحرارة الزخمية (الثيرموديناميكا) في علم الفيزياء. هذا القانون ينص: (في أي جهاز متصلٍ ببعضه ومعزول عما حوله، وتكون درجة الحرارة في بعض أجزائه أعلى منها في بعضها الآخر، فإن هذه الحرارة ستنتقل من الأعلى إلى الأدنى حتى يحصل التعادل الحراري بين جميع الأجزاء، ولا يمكن أن تعود الحرارة بالاتجاه المعاكس).

لقد طبق علماء الفيزياء المفكرون هذا القانون على الكون كله باعتباره وحدة واحدة، تتصل أجزاؤها بعضها ببعض، وهو معزول عما حوله لأنه لا يوجد حوله شيء. ولاحظوا أن الكون فيه مناطق حرارتها عالية وأخرى حرارتها منخفضة، ولاحظوا الحرارة تنتقل فعلاً من الأعلى إلى الأدنى. فهذه الشمس مثلاً توزع من طاقتها على المجموعة الشمسية حولها. وهناك شموس تنطلق أشعتها وتتوزع في الكون. ويحتم علماء الفيزياء أنه سيأتي وقت تنضب فيه طاقة شمسنا، ويأتي وقت تنضب فيه طاقة جميع الشموس في الكون، ويحصل التعادل الحراري بين جميع أجزاء الكون، وتهبط الحرارة في الكون كله إلى أدنى درجة ممكنة وهي الصفر المطلق (_ 273ْ مئوية). أن علماء الفيزياء يحتمون هذا المصير للكون، وإن كانوا لا يستطيعون تحديد المدة اللازمة لذلك.

ويتساءل هؤلاء العلماء ويتساءل المفكرون: ما دام الكون يسير سيراً حثيثاً نحو هذه النتيجة، أي التعادل الحراري عند الصفر المطلق، وتوقف حركة الكون، فلماذا لم يصل بعد إلى هذه النتيجة؟ والجواب عند هؤلاء العلماء والمفكرين بشكل قاطع هو أن حركة الكون لم تأخذ الوقت الكافي للوصول إلى نهايتها، أي أن الكون ليس أزلياً، وإلا لكان قد وصل إلى النهاية المحتومة من أزمنة سحيقة.

ولا يستطيع أحد أن يدعي أن حركة الكون هذه نحو التعادل والاستقرار هي حركة دورانية لا نهائية، فهي ليس دورانية في هذا المجال، وهي ليست لا نهائية فكل يوم وكل لحظة تنقص الطاقة من الشمس هذه ومن غيرها من الشموس، وهي لا تعوض عما تفقده.

ضربة قاضية

وحين طبق العلماء هذا القانون على الكون المادي كله وخلصوا إلى النتيجة بالموت الحراري للكون وبأن الكون ليس أزلياً، وأن المادة ليست أزلية، أحس الشيوعيون وأصحاب الفكر المادي بأن زلزالاً هدّم عقيدتهم وأصابهم في الصميم. ولم يعرفوا حتى الآن كيف يردون على هذه المسألة. ولو كانوا منصفين مع أنفسهم لدخلوا فيما دخل فيه أهل العلم والفكر ولتركوا ماديتهم. ولكن من أين لهم؟ إن الكتب الشيوعية التي تناقش هذا القانون وتناقش النتيجة التي يحتمها هذا القانون تكتب أشياء متناقضة بعضهم يقول: إن الكون لا يعتبر جهازاً واحداً معزولاً ولذلك لا ينطبق عليه هذا القانون. وهذه مغالطة لأنهم لمّا لم يستطيعوا رد القانون العلمي، حاولوا التملص بالقول بأن الكون ليس جهازاً معزولاً، وهذا يعني أن هناك من يتدخل بأمور الكون من خارج الكون (وهو الله). ولكن الشيوعيين لا يؤمنون بالله، فكيف يقولون بأن الكون ليس معزولاً؟ وبعضهم يقرّ بالقانون وبأن الكون جهاز واحد متصل ببعضه ومعزول عن غيره، ولكنهم يدّعون بأن أجزاء الكون التي تخسر الحرارة تعوضها من مكان آخر. وهذا يناقض القانون الذي ينص على أن الحرارة لا تسير باتجاه معاكس إلا إذا تدخل متدخل من خارج الجهاز، وهذا المتدخل غير موجود حسب اعتقادهم. وبعضهم يقر بالقانون وبتطبيقه على الكون، ولكنها يغالط في بعض الشروح ويقفز قفزاً بهلوانياً فوق الحقائق ليضلل من يقرأ كتابته.

فالحمد لله الذي نجانا من الضلال المبين، وهدانا إلى صراطه المستقيم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *