العدد الخامس -

السنة الأولى، العدد الخامس، صفر 1408هـ، الموافق تشرين أول 1987م

بلغاريا بين الحقد الصليبي والخوف المبدئي

إعداد: فاطمة رجبَّوفا ومصطفى عليلوف
ترجمة: محمد ثاني
تتمة البحث المنشور في العدد السابق

المسلمون في بلغاريا:

ينتمي المسلمون في بلغاريا إلى ثلاثة أصول: أتراك وبلغار وغجر.

فعندما فتح العثمانيون بلغاريا، اعتنق كثير من السكان البلغار الإسلام، وقاموا بمساعدة العثمانيين في فتح بقية البلاد، ولذلك لقبوا بـ «البومغاتسي»، أي الأنصار. إلا أن هذه التسمية قد قزّمت الآن إلى «البوماتسي»، وعددهم حالياً 900 ألف تقريباً. ويتواجدون بكثرة في جبال «رودوبي» و«دوبروجا» و «سمولن» و«بورغاز».

أما المسلمون من الأصل التركي، فمعظمهم عثمانيون، وليس فيهم إلا عدد ضئيل من التتار، وهم الذين نزحوا إلى تلك المناطق من روسيا. وعددهم مليون و200 ألف تقريباً، ويقطنون في مناطق «سلستيرا» و«يورغاز» و«روسه» و«شومن» و«رازغراد» و«كرم علي» و«فارنا».

أما الغجر المسلمون فيهم بدو رحّل، يكونون ثلاثة أرباع الغجر المقيمين في بلغاريا، وعددهم حوالي 400 ألف تقريباً. وليس هناك إحصاء دقيق لعدد المسلمين منهم وأماكن تواجدهم، نظراً للطوق الحديدي المضروب حولهم من قبل السلطات الشيوعية.

وبصورة عامة، فإن عدد المسلمين يكثر في المناطق المحاذية لهضبة «مقدونيا» في يوغسلافيا، وكذلك في المناطق المحاذية لليونان وتركيا. وبهذا، يشكل المسلمون في بلغاريا حلقة متصلة في سلسلة مناطق ذات كثافة إسلامية. وتقدّر نسبة المسلمين في بلغاريا بحوالي 28% من عدد السكان البالغ عددهم 9 ملايين نسمة حسب آخر إحصاء (1986).

«تسامح ديني»

بقيام الحكم الشيوعي عام 1944، أعلنت الحكومة في حينه على الملأ، في أول بيان لها، أن حرية العبادات والتسامح الديني سوف تسود كافة المناطق. ونصت المادة 53 من الدستور على ضمان حرية الضمير والعقيدة للمواطنين وحرّية ممارسة شعائرهم الدينية. ويتيح الدستور وقانون العبادات ـ كما يدّعون ـ كافة الظروف والإمكانيات أمام المسلمين لممارسة شعائرهم الدينية، وأن أبوب المساجد ستفتح في كل الأوقات للعبادة والصلاة. هذا مختصر ما يتشدق به المسؤولون الشيوعيون ـ وقد بقي كله حبراً على ورق.

فمنذ استيلاء الشيوعيين على الحكم سنة 1944، بدأ النظام الشيوعي الماركسي يكشر عن أنيابه، معبّراً عن حقده الصليبي وعدائه المبدئي للقضاء على الإسلام، فبدأ بحملة إبادة للمسلمين أعد لها مخططاً رهيباً، تجلت معالمه في الخطوات التالية:

1- التهجير.

2- القضاء على الثقافة الإسلامية، وذلك بمنع التعليم الإسلامي، وبإغلاق المدارس الإسلامية.

3- التشتيت، ومحالة الصهر الاجتماعي.

4- سياسة التجويع وهدم البنية الاقتصادية.

5- القتل والإبادة الفردية والجماعية.

حقد صليبي

بعد الحرب العثمانية ـ الروسية (1877 ـ 1878)، والتي استمرت سبعة أشهر، تغير ميزان القوى لصالح الروس. فقد حاصر الروس الاستانة حتى اضطر السلطان العثماني للرضوخ لشروط قاسية لإنهاء الحرب، وكان من هذه الشروط أن يمنح الحكم الذاتي لبلغاريا تحت حاكم نصراني. وقد أدت هذه الحرب إلى تهجير ما يقرب من مليون مسلم تقريباً من مناطقهم. وقد نتج عن عملية التهجير هذه موت أكثر من 350 ألف شخص. بسبب المذابح والجوع والأمراض المتفشية. ولم يستطع الناجون منهم العودة إلى مناطقهم بعد انتهاء الحرب، لأن روسيا وبلغاريا منعتاهم من ذلك بهدف إذابتهم في المناطق التي وضعوا فيها. ذلك كان نتاج الحقد الصليبي.

أما اليوم، فالعداء المبدئي الذي تحمله حكومة بلغاريا الشيوعية للإسلام وأهله لم يأت بتصرفات أرقى منذ ذلك. لقد أضاف الحكام البلغار اليوم إلى حقدهم الصليبي الدفين عداء مبدئياً للإسلام وأهله.

«تنمية وتحسين»

فحين تم استيلاء الشيوعيين على الحكم في بلغاريا، تصاعدت عمليات التذويب والتهجير. ففي عام 1948، قامت الدولة تهجير المسلمين من إقليم «دوبروجا» في حملات متعددة، واستمرت عمليات التهجير ابتداء من شهور تموز. وفي شهر تشرين الأول، تم ترحيل العائلات المسلمة في مناطق «ستانلي» و«كوسوكافاك» بـ حمولة 28 عربة توجهت إلى شمال البلاد.

وفي عام 1950، تم ترحيل حمولة 60 عربة من نفس المناطق إلى منطقة «ترويان» ومن منطقة «رازاغراد» إلى «سومنو». وقد تم هذا التهجير تحت شعار «العمل ـ التنمية ـ التحسين). كما تميز بسياسة خاصة، تقوم على انتزاع الشبان والشابات من أهاليهم، وإجبارهم على العيش في مناطق أخرى ليس فيها كثافة إسلامية، مثل «صوفيا» العاصمة، و «يورغاز» و«ديمتروف غراد»، حيث لا يوجد تجمعات إسلامية مترابطة. ولا تزال هناك عائلات تجهل مصير أبنائها.

وهناك ناحية مهمة اتبعها الشيوعيون، وهي تشجيع الزواج المختلط، وخاصة لدى الفتيات المسلمات اللواتي انتزعن قسراً من أهاليهن ـ باسم التدريب على التمريض مثلاً، ثم وزعن على الإقليم البلغارية، وشجعن على الزواج من بلغار.

وقد هدف النظام الشيوعي من ذلك كله تفتيت الروابط بين الناس، وتمزيق الأسرة المسلمة، ومحاولة القضاء على ما في قلوب الفتيات المسلمات من إيمان وعفة وطهارة. فلا يمكن أن يعتنق المبدأ الشيوعي من عنده أي قيم روحية كانت أم معنوية أم خلقية.

الهرب من الاضطهاد

لم تكن خطط التهجير سرية، كما لم تكن قابلة للتخفيف. وخشية الإفناء، وقّت تركيا مع بلغاريا اتفاقية تبادل مواطنين سنة 1927، سمع بموجبها بالهجرة بين البلدين. ثم أيعد تجديد الاتفاقية سنة 1950 ألف مسلم إلى تركيا. وعام 1968 وقعت الدولتان اتفاقية أخرى سمح بموجبها للمسلمين الأتراك بالهجرة إلى تركيا. واستمر العمل بالاتفاقية المذكورة حتى عام 1978، وبلغ عدد المهاجرين بموجبها 130 ألف مسلم. فكان مجموع الذين هاجروا من بلغاريا إلى تركيا ما بين عام ي1920 و 1978 حوالي نصف مليون مسلم تقريباً.

هذا، ولا تزال المشكلة قائمة ومتفاقمة بسبب خوف السلطات الشيوعية من ارتفاع نسبة الولادة عند المسلمين، والتي تبلغ 3 أضعاف ما عند السلافيين إضافة إلى أن كثيراً من الذين هاجروا إلى تركيا كانوا من ذوي الخبرات الفنية والتقنية والحرفية، مما دفع ببلغاريا إلى وقف الهجرة نهائياً عام 1978.

سبعة آلاف مسجد!

ركزت خطة التدمير الثقافي للتراث الإسلامي على القضاء على المنبعين الرئيسيين للثقافة الإسلامية وهما: المساجد والمدارس الإسلامية.

فقد شهدت فترة الحكم الإسلامي لبلغاريا بناء العديد من المدارس الإسلامية والمساجد، مما أضفى على بلغاريا طابعاً إسلامياً. وقد بلغ عدد هذه المساجد 7000 مسجد في جميع أنحاء البلاد حتى عام 1908.

وعند تولي الشيوعيين السلطة، وضعت المساجد تحت الإشراف المباشر على قسمين: قسم رسمي وقسم غير رسمي.

فالمساجد الرسمية هي التي يؤمنها إمام معترف به من قبل السلطات، ومن البديهي أن يكون من أزلامهم. وأما المساجد غير الرسمية فقد أغلقت. ولهذا لم يبق من مساجد بلغاريا السبعة آلاف إلا قلة قليلة، إضافة إلى ما وضع برسم «الترميم»ن فضلاً عن تلك الهي هدمت جزئياً أو كلياً، أو حوّلت إلى كنائس أو مخازن للتبغ، أو مستودعات للمشروبات الروحية، أو غير ذلك. والشواهد على ذلك كثيرة.

فمثلاً، قامت السلطات بهدم مسجد في مدينة «موان» (الصورة 1)، وبنت مكانه مركزاً لإدارة المناجم. كما هدمت مسجداً في قرية «كوستندوفو» ـ مدينة «أورتكوفو» ومسجد «هاتيوس» هدمته السلطات بعد أن ربطت مئذنته بجرار زراعي (الصورة 2).

تحسين وترميم

وحوّل مسجد «بويوك» في قلب العاصمة «صوفيا» إلى متحف، وكان قد بني عام 1474. وحوّل كذلك الجامع الأسود في «صوفيا» إلى «كنيسة الجامع الأسود». ولم تبق السلطات الشيوعية في «صوفيا» إلا على مسجد واحد هو مسجد «بانياباتشي» (الصورة في العدد السابق)، وقد رضع تحت الترميم منذ مدة طويلة، وقد تقدمت منظمات عالمية عديدة ـ إسلامية وغير إسلامية ـ بعروض لترميمه، قوبلت جميعها بالرفض التام. وما زال المسجد إلى الآن في حالة مزرية فالمياه غير متوفرة، وليس هناك دورات للمياه أو أماكن صالحة للوضوء، فضلاً عن أن بابه الرئيسي مغلق بالحديد من الداخل وكأنه أشبه ببوابة سجن الباستيل، ولذلك يدخل المصلون إليه من باب جانبي لا يتعدى ارتفاعه 125سم!

وأغلق جامع باشا في قرية «باشوفو» ـ مدينة «فلينغراد»، وكذلك الجامع القديم في «سكيتوفور» مدينة «فلينغراد»، وآخر في قرية «دراكينوفو» ـ محافظة «كرج علي»، كما هدم مسجد آخر في نفس القرية.

ومنعت الصلاة في قرية «ياكوردا» ما عدا يوم الجمعة، ونزعت الآيات والمخطوطات تماماً من مسجدها، كما حدث من قبل في قرية «شابانلي». وأغلقت جميع المساجد في مدن «روسة» و«تمبول» و«زلاتوغراف».

هذا من حيث المساجد، أما المدارس فحدث عنها ولا حرج.

جريمة نكراء!

كان في بلغاريا حتى عام 1930 حوالي 2000 مدرسة إسلامية تركية، تتحمل كافة مصاريفها المؤسسات الوقفية الدينية. وفي العام 1946، أممت الحكومة  الشيوعية تلك المدارس، وسيطرت على المؤسسات الوقفية التي تغطي نفقاتها. وأفادت مصادر مطلعة أنه كان في بلغاريا 1199 مدرسة إسلامية توظف 3031 مدرّساً، ويقصدها 100376 طالباً. وفي سنة 1950، قامت السلطات بتقليل عدد وزمن الحصص المخصصة لتدريس الدين واللغة التركية. وعام 1959، دمجت تلك المدارس مع المدارس البلغارية، وأصبحت اللغة التركية تدرس باعتبارها لغة ثانوية. وفي عام 1974، منع تدريسها نهائياً، وأصبح التحدث باللغة التركية جريمة يعاقب فاعلها بتغريمه 5 «ليفا» (ه دولارات) عن كل كلمة. ومعلوم أن دخل الفرد الشهري لا يتعدى 200 «ليفا»!

وأجبر الشباب على توقيع تعهد يقضي بعدم دراسة القرآن الكريم. أما من يخالف هذا التعهد، بأن يدرس القرآن أو يحض على ذلك، أو يعلّم أبناء شيئاً عن الإسلام فإن جزاءه السجن خمس سنين. كما يمنع من مزاولة مهنته، وينفى من القرية التي يسكنها. وقد سجن الكثير بسبب تلك المخالفات، وتراوحت العقوبات ما بين 5 ـ 10 سنوات.

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *