العدد الخامس -

السنة الأولى، العدد الخامس، صفر 1408هـ، الموافق تشرين أول 1987م

لسنا أصوليين بل مسلمون

بقلم: هشام نعماني

طالعتنا جريدة السفير في 16/07/1987، وفي صفحتها الحادية عشرة، بمقال تحت عنوان: «دعوة لسلطة الدين أم سلطة رجال الدين» موقّع باسم د. رهيفة رمّاح. وبما أن المقال مليء بالافتراءات والدس على الإسلام، الأمر الذي يرفضه كل مسلم غيور على دينه وعلى أمّته، فقد رأينا وجوب الرد تبياناً للحقيقة ودحضاً للباطل.

(هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)
[الحج: 78].

جرأة زائدة:

بدأت كاتبة المقال حديثها بالتهجم على الإسلام والمسلمين، وأنهته بنفس ما بدأت به. والذي لفت نظري مدى جرأتها الزائدة والتي لم أجد لها تفسيراً، فتساءلت من أين استمدت هذه الجرأة لتتطاول على عملاق أنى لها ولغيرها النيل منه. وقدّرت أن يكون هذا المقال قد كتب في أوّل هذا القرن، وأكاد لا أصدّق أن إنساناً يعيش في ثمانينات القرن العشرين يحمل أفكاراً كهذه عفى عليها الزمن واندثرت منذ أن حمل الاستعمار عصاه ورحل تاركاً وراءه إرثاً ثقيلاً من أفكاره ووجهة نظره والتي بين أيدينا عيّنة منها.

وإذا كانت الكاتبة تتوقع لمقالها أن يحدث الأثر الذي توقعته، في صفوف المسلمين فقد خاب فألها، لأن الأمة واجهت تشويهات أكثر من ذلك وصدّتها وأبرزت زيفها. وهي في صراع فكري منذ الغزو الصليبي والاستشراقي وحتى الآن. ولقد سبق وتعرّض الإسلام لهجمات متلاحقة من قبل المستشرقين ومن قبل كتاب وفلاسفة الغرب الماكر، ومن قبل المستغربين من أبناء المسلمين فلم يزده ذلك إلا صلابة ونقاء وصفاء.

واطمئن الكاتبة أن سباباً وشتائم كهذه سمعنا منها الكثير، وناقشنا وتصدينا للكثير من حاملي هذا الفكر المضلل، ولم يؤثر ذلك على سير القافلة ولا على ذلك العملاق المنتفض الذي أسمته الكاتبة «أصوليون»، تماماً كما تطلق عليه أنظمة المنطقة، وكما تسميه دول الغرب والمتربصة شراً بالإسلام والمسلمين.

أولاً: اختارت الكاتبة عنواناً لمقالها هو «سلطة الدين أم سلطة رجال الدين». والمعروف أن السلطة أو السلطان واحد، وهذه الأمة تختار من ينوب عنها في الممارسة العملية لهذا السلطان عن طريق مبايعة خليفة بيعة شرعية على العمل بكتاب الله وسنة رسوله يقابل ذلك السمع والطاعة من الرعية ف يكل ما يقول ويفعل الخليفة المبايع ما لم يؤمر بمعصية.

بدعة اخترعها الغرب:

ثانياً: بالنسبة إلى كلمة «رجال الدين» الواردة في العنوان، أقول أنه ليس هنالك رجل دين ورجال دنيا في الإسلام. وفكرة فصل الدين عن الدنيا أو فصل الدين عن الحياة أو فصل الدين عن الدولة هي فكرة رأسمالية لا علاقة للإسلام بها من قريب ولا من بعيد. فالإسلام دين منه الدولة. وفيه أحكام تتعلق بكل شؤون الحياة. أما موضوع السلطة الزمنية والسلطة الروحية فهو بدعة اخترعها الغرب الرأسمالي لمنع تدخل الكنيسة في شؤون الحكم والأمور المدنية فكانت فكرة الدين عن الحياة عند الغرب، لأن الدين عندهم كهنوت، بينما الدين عندنا هو عقيدة ونظام حياة وليس فكرة «كهنوتية» حتى نفصله عن الحياة. وحبذا لو استعملت الكاتبة وكل من يستعمل هذا التغبير كلمة علماء بدلاً من كلمة «رجال دين»، لأن لكل واحدة منهما مدلولاً يختلف عن مدلول الأخرى، وحتى لا يقع الخلط غير المبرر.

متنورون جداً!

ثالثاً: تقول الكاتبة في الفقرة الأولى: نسجل خيبة أمل كبيرة من تردد أغلب المثقفين التقدميين والديمقراطيين المتنورين واستنكافهم عن مجابهة هذا التيار. أقول: جيّد أن تصاب الكاتبة بخيبة أمل كبيرة من تردد رفاقها ممن تسميهم تقدميين وديمقراطيين متنورين. وأتساءل: أين هو هؤلاء الذين تستنجد بهم من المتنورين جداً والتقدميين جداً حتى نراهم عن قرب ليطالنا نورهم وإشعاعهم، ونتعرف على مستوى تقدميتهم وديمقراطيتهم وتنورهم. ليتها تدلنا على أحدهم، وإذا كان بعض من ذكرت موجوداً في هذه الدنيا وسكت فإن سكوته خير له ولنا وهذا عين العقل وعين الصواب، لأنه ليس هنالك إنسان عاقل في هذه الدنيا يعرض عليه النور الحقيقي ويأبى إلا أن يعيش في الظلمات. قال تعالى: (الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [إبراهيم: 1]. وقال سبحانه: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) [البقرة: 257].

هل تقصد الكاتبة بالمتنورين أولئك الذين اشتغلوا أدلاء سياحيين لدبابات شارون وهي تنتشر في الطرق الدولية والفرعية، وتدلهم على مفاصل البلاد، والمتنورون لم نسمع بهم أيام كان موقعو اتفاق 17 أيار يتصدون للعزّل بالرصاص في بئر العبد ويسقط منهم شهيد لأنهم قالوا: لا لاتفاق 17 أيار. ولا سمعنا أنهم منعوا مجلس النواب من التصويت بالأغلبية على اتفاق الذل. ولم نسمع عنهم أنهم رفضوا ومارسوا رفضهم عملياً ضد وجود قوات الحلف الأطلسي في بيروت، ولم نسمع من التقدميين ـ جداً ـ رفضاً لتواجد أساطيل أميركا وطائرات والأواكس في بحار وسماء الخليج العربي، بل لم نسمع أو نرى تظاهرة تستنكر الأمن المستعار لناقلات نفط العرب في ظل الأعلام الأميركية ذات النجوم الحمراء. لماذا لم نسمع ضجيجهم عن ذل استعارة أعلام الدول الكبرى الطامعة المستعمرة (المتقدمة جداً) لنحمي بها ناقلات نفطنا ونفطهم، ولكي نؤمن وصول النفط إلى الدول التي فتكت بكل قيمة فيمنا وكل كرامة وعزة لنا، تلك الدول التي استنفدت كل وسائل الإذلال حتى تفتقت عبقريتها عن تصوير عملية تسليم الأعلام الأميركية في مسرحية الأسياد؟!! سبحان الله: أمننا مستعار من أميركا والغرب، وغذاؤنا مستعار، وكساؤنا مستعار، وفكرنا مستعار، وثقافتنا مستعارة، واقتصادنا مستعار، والديون ترهق كاهل أبناء ودول المنقطة، وخيراتنا تنهب ونتشدق بالديمقراطية والتقدمية والتنور!! بالله عليكم في أي قرن تعيشون؟!

لفظة خبيثة!

رابعاً: في الفقرة الثانية، لم يعجب الكاتبة «هاجس التيارات الأصولية المسلمة» ومرة أخرى أقول للكاتبة أن تعبيرها «الأصوليين» هو تعبير أطلقه حكام الغرب وبعض الأنظمة المرتبطة كلياً بالغرب ونصارى لبنان وأعلام «القوات اللبنانية» وإسرائيل وكل من هو في صف أعداء المسلمين، وهذا التعبير لا يعبّر بصدق ودقة عن الواقع. وأحشى أن يتحول هذا الإسم مع وبفضل جهود الأنظمة إلى لفظة مرادفة للإرهاب يقصد من تردادها تنفير المسلمين من كل من يعمل على إخراجهم من عبودية العباد إلى عبادة الله الواحد القهار. لذلك أرى أن كل مسلم غيور لا يقبل بغير ما سمّاه به، رب العالمين من (هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ) وحرصاً على تمييز العاملين من غير العاملين من المسلمين يطلق أغلب علماء المسلمين على هؤلاء العاملين اسم «دعاة للإسلام» أو حملة دعوة أو مسلمين ملتزمين. وليسوا أصوليين بالمعنى الذي تعنيه الكاتبة والأنظمة الخبيثة. وليس ذلك تبرؤاً من الأصول، فالأصول قد تكون أصول الدين أو أصول الفقه، أو أصول الفرد حيث ينتسب بنسبه، ولكن حرصاً حتى لا ينسب المسلم لغير الإسلام، فنحن مسلمون نتبنى الإسلام وعقيدته ونظامه وننسب إلى الإسلام، ولسنا أصوليين بل مسلمون.

وتضيف الكاتبة في الفقرة نفسها «حيث يصف بيان الأصوليين الموارنة بالأقلية الكافرة المسلّطة على رقاب أكثرية الشعوب المسلمة».وأقول ماذا أزعجها في هذا الكلام؟ هل أزعجها وصف الموارنة بالأقلية الكافرة؟ وماذا يضرّها هي؟ فمن مقياسها للأمور يبدو أن لا قيمة لهذا الوصف لديها، ولا ينطبق على المقاييس التي تحملها، لأنها تقسّم الناس إلى تقدمي ورجعي، وديمقراطي وغير ديمقراطي. وإذا حصل وخالفها الغير في مقاييسه وقناعاته فهذا شأنه لا يعنيها ذلك، فلا وجود في قاموسها كافر وغير كافر، فما هي المشكلة عندها إذن؟ هل يا ترى لأن الأكثرية تطالب بتنحية الأقلية عن الحكم؟ وأجيب عليها من مقاييسها هي عن الديمقراطية التي تتغنى بها. فالديمقراطية التي تتغنى بها تقول بالأكثرية في الرأي والحكم والتشريع وسن القوانين، ومن مقياس ديمقراطيتكم يحق للأكثرية المطالبة بتنحية الأقلية، وهذا حق ومطلب يعترف به التقدميون الذين تستنجد بهم الكاتبة وحتى أرباب الديمقراطية نفسها. فلماذا إذن كل هذه الشفقة على الموارنة «والقوات اللبنانية»؟ أخوفاً من أن يستغلوا مطالبة المسلمين بالحكم ليستدروا عطف العالم كما تقول هي؟ هل الإسلام قزم لهذه الدرجة وهل المسلمون أقزام بهذا المستوى حتى تضعهم في مقام «القوات اللبنانية» وتدعوهم للتخلي عن دينهم وما يأمرهم به إرضاء لـ «القوات اللبنانية» وإسرائيل حتى لا تزعجهم عقيدة وقناعات المسلمين. وهل العالم ليس له آذان وعيون حتى يسمع ويرى بنفسه من دون المرور بقنوات إعلام «القوات اللبنانية»، وأي حجم تعطين لهؤلاء؟!

إن من يريد أن يغير وجه الأرض لا ينظر إلى ردة فعل هذا وذاك، وأن من يحمل مبدأ صحيحاً وعقيدة سلمية لا يتخلى عن مبدئه وعقيدته لمجرد أن حملها يزعج جاره، واسأل الكاتبة إن كانت تتخلى هي قناعاتها لمجرد أنها لا تعجب غيرها وتحدث ردّة فعل سيئة لديه؟ أظنها لا تفعل مهما كانت ردة فعل الطرف الآخر.

ثم ألا يحق للمسلمين أن يكونوا أصحاب فعل وليس أصحاب ردود فعل؟ أما آن لهم أن يكونوا سباقين وروّاداً ويكون للآخرين ردود الفعل؟ لم تنكر الكاتبة هذا الحق لقوم وتقر به لغيرهم؟

العصا السحرية:

خامساً: في الفقرة الثالثة تقول: «نود سؤال الأصوليين عن تلك العصا السحرية التي يلوحون لنا بها كلما صادفتنا مشكلة سياسية أو حضارية أو ثقافية مستعصية، ونعجب كيف يتأتى لهم الحصول على حول جاهزة وتحت الطلب لكل هذه المشاكل التي أعجزت الجامعات ومراكز الأبحاث وأنظمة الكمبيوتر والنظائر الإلكترونية والمختبرات والمراصد في غرب العالم وشرقه ونحن لا نملك من هذه المؤسسات شيئاً».

أقول، لماذا لوحت هي أيضاً بعصيّ سحرية عديدة مثل الكمبيوتر والنظائر الإلكترونية والمختبرات والمراصد؟ وما دخل المراصد بالمشاكل السياسية؟ وما علاقة المختبرات بالمشاكل الحضارية؟ وهل يحتاج الحاكم إلى مرصد فلكي كي يستطلع أحوال شعبه ويرعى شؤون من خلال المرصد الفلكي أم من خلال مختبر الكيمياء؟ أم هل يحتاج إلى الكمبيوتر للوقوف على ما وصلت إليه سياسته الداخلية والخارجية والمالية من اهتراء؟

وحني تتساءل الكاتبة عن «تلك العصا السحرية التي يلوّحون بها كلما صادفتنا مشكلة سياسية أو حضارة أو ثقافية مستعصية، أقول أن المسلمين لا يعترفون بأن هنالك مشاكل حضارية تجابههم، لأن الغرب الرأسمالي والأنظمة المستغربة المحلقة بالغرب إلحاقاً هم الذين يعانون من المشاكل المتعددة، والتي جنوها حصاد تعلقهم بحضارة الغرب الزائفة. ثم أسألها عن أية حضارة تتحدث؟ عن الحضارة التي حولت المرأة إلى دمية بين أيدي شركات الإعلان والتسويق لعرضها على الشاشات لجذب المستهلكين وملء الجيوب الرأسمالية. أم لعلها تتحدث عن حضارة أقتل أخاك ظالماً أو مظلوماً التي يتبعها الغرب من خلال إشعال الحرائق المدمرة للثروات والشعوب في شتى بقاع العام الإسلامي. وحيث يتم تجربة أحدث ما توصلت إليه مصانعهم من اختراعات لإبادة البشر، من أسلحة كيماوية وقنابل عنقودية وقنابل بابالم، أم أنها تعني حضارة التمييز العنصري الفاضح حينما يعلق «المتحضرون جداً» يافطة على أبواب مطاعمهم «ممنوع دخول الكلاب والعرب» أو «الكلاب والسود» أو رفض مدارس البيض استقبال التلاميذ السود، أم أنها حضارة الإباحية التي تطالب بسن قانون يتيح للرجل أن يعقد قرانه على رجل آخر، أم أنها حضارة الإيدز أو السيدا، ونماذج كثيرة من الحضارة لا يتسع المقال لسردها.

إسلام واحد لا «إسلامات»!

سادساً: في الفقرة الرابعة تفتتح الكاتبة فقرتها بقولها «نود استيضاح الأصوليين» حسناً سأوضح لها إن كانت تريد أن تعلم، أما إن كانت تريد أن تطعن وتتهجم فهذا شأنها:

1- هذه الفقرة مليئة بالأخطاء الفاحشة كما هو حال باقي المقال؛ ويؤسفني أن أقرأ لمن يكتب عما يجهل وهو يظن أنه يعلم، فإن يكتب المراء وهو يعمل ويقع في خطأ أمر لا شيء فيه ولا يضير صاحبه، أما أن يكتب عما يجهل وهو يدعي أنه يعلم فتلك مصيبة عظمى.

2- قولها «لأي إسلام نعود والإسلام كما نعرفه ليس إسلاماً واحداً بل إسلامات متعددة». يبدو أنها توهمت أنها تعرف الإسلام، لأن الإسلام واحد وليس إسلامين أو ثلاثة. ويبدو أيضاً أنها وقعت في الخطأ الذي يقع فيه العوام حين يقولون «نحن الإسلام» ويعنون «نحن المسلمين» فحذار من الخلط بين مفهوم الإسلام ومفهوم المسلمين، ومن تحميل الإسلام أوزار بعض المسلمين. وإذا كانت تتعامى عن الحقيقة الواضحة، فالشمس لا ينكر وجودها أحد. والإسلام هو دين الله الذي بلغنا به سيدنا محمد ، والذي أركانه معروفة ودستوره معروف في كتاب هو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولا يطاله تحريف وتزييف. هذا القرآن الذي ورد فيه أنظمة تنظيم شؤون الإنسان كلها، من اقتصادية واجتماعية وسياسية وعسكرية.

3- حين تقول «المعروف أن في الإسلام سبعة مذاهب ينضوي تحت كل منها اثنتا عشرة فرقة أي أربعة وثمانون فرقة، فهناك على سبيل المثال السنة وفرقها، والرافضة وفرقها، والخارجية وفرقها، والقدرية وفرقها والجبرية وفرقها والجهمية وفرقها والمرجئة وفرقها» وأقول:

أ- أن هناك مذاهب في الإسلام وليس هنالك فرق، وكل الأسماء التي ذكرت لم يبق لها أثر.

ب- أن المذاهب الحية التي ما زال لها مقلدون ستة: المذهب الشافعي والحنفي، والمالكي والحنبلي والجعفري (الأمامي الإثنا عشري)، والزيدي.

ج- أن الفرق شاسع بين المذاهب وبين المفرق، فالمذهب خط اجتهادي لتوضيح حكم الشرع في مسألة من المسائل، أما الفرقة فهي مجموعة من الناس تجمعت لسبب معين، يجمعها هدف مشترك يكون سياسياً أو عسكرياً أو غيره. والمذهب لا يعني تقسيماً للمسلمين إلى فئات أو طوائف ولا يحمل معنى التمزيق، لأنه «مدرسة اجتهادية» إن جاز التعبير.

وحتى أبسّط الأمر أكثر، نفترض أن هنالك جامعة من الجامعات تدرس تخصصات عدة وكل تخصص يتعلمه الطلبة على يد أستاذ معين، ولا يتدخل أستاذ في مادة من المواد التي لا يعرفها ولا يدرس في تلك المادة لأنها خارجة عن تخصصه، ولا يحق له أن يشرف على طلاب غير الطلاب الذين في برنامجه الذي وضعته له إدارة الجامعة، فهل يسمى هذا تمزيقاً للجامعة، أو أن الجامعة مقسمة إلى كليات وفصول ويجب توحيدها؟ وكيف نوحدها؟ هل تتوحد كلية الهندسة مع كلية الحقوق وعلى أي أساس يتم توحيدها على رغم اختلاف المنهج والأستاذ والمادة؟ فالجامعة اسمعها يحمل معناها وهي «جامعة» وينظر إليها ككيان معنوي واحد على رغم تقسيماتها الهيكلية والإدارية، وكذلك الإسلام والمسلمون، فالإسلام دين واحد والمسلمون أمة واحدة، ووجود المذاهب أمر صحي يدل على عافية ورقي الفقه ورقي معرفة الأحكام الشرعية. وكلما تعدد المجتهدون كلما كان ذلك مؤشراً على كثرة العقليات المبدعة التي يفرزها المجتمع الإسلامي الحي الغني بفقهائه.

سابعاً: في الفقرة نفسها تقول: «وإذا سلمنا جدلاً أن المسلمين اتفقوا على توحيد هذه المذاهب جميعها، وهذا ما نشك به بعد مرور ما يزيد على أربعة عشر قرناً».

من قال أن الإسلام يطلب منا توحيد المذاهب وبالتالي توحيد الاجتهادات؟ ومن قال أن المسلمين حاولوا توحيد المذاهب طيلة أربعة عشر قرناً وفشلوا؟ أعود فأكرر، لعل في التكرار إفادة، أن المذاهب هي خطوط اجتهادية لمجتهدين في الشرع، وأتباع المجتهدين هؤلاء لا يشكلون فرقاً وطوائف متناحرة ورأي كل مجتهد هو رأي الإسلام في المسألة التي اجتهد فيها. فالمذاهب إذن ليست كيانات سياسية كما تفهم الكاتبة وبعض الناس، وبالتالي لا تشكل كيانات ضمن الكيان الواحد الذي هو الدولة الإسلامية والأمة الإسلامية.

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *