العدد الخامس -

السنة الأولى، العدد الخامس، صفر 1408هـ، الموافق تشرين أول 1987م

كلمة «الوعي»: لا يوجد أمر إلا تعرضت له شريعتنا

يوزع في لبنان كتابٌ صغير اسمه «جهالات خطيرة في قضايا اعتقاديه كثيرة»، تأليف الدكتور عاصم بن عبد الله القريوتي وهو كتابٌ جيد بشكل عام، ومع ذلك فإنه لا يخلوا من حاجة إلى الدقة في أماكن عدة. ونحن الآن نود أن نلفت النظر إلى نقطة واحدة وردت في ذيل الصفحة (10) كما يلي:

«وأما إذا كان الأمر مسكوتاً عنه في شريعتنا ولم يُتعرَّض له بحلّ أو حُرْمة فيجوز لولي أمر المسلمين أن يضع لذلك أحكاماً وترتيبات يلزم الناس بها لما فيه من المصالح العامة. ومن أمثلة ذلك تنظيم مرور السيارات والسير على جهة معينة ونحو ذلكن فهذا لا يعد من الشرك بالله عز وجل، لأن الله قال: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) ولم يقل: «ومن حكم بغير ما أنزل الله…» للفرق بينهما كما تقدم. ولقد كثر من الكاتبين في هذا الموضوع تجاهل هذا التفريق مع أهميته ولهذا اقتضى التنبيه».

الملاحظة الأولى:

قوله: «إذا كان الأمر مسكوتاً عنه في شريعتنا ولم يتعرض له بحل أو حرمة»، هذا القول خطأ لأنه لا يوجد في الدنيا شيء ولا يوجد فعل إلا وقد بيّنت شريعتنا حكمه، قال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) وقال:   (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا). وهذا البيان للأحكام قد يكون صريحاً بتسمية الشيء وتسمية حكمه كتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، وقد يكون هذا البيان بنص عام مثل: (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا) فيدخل كل شيء في الأرض تحت عموم هذا النص أنه مباح لنا إلا ما جاءت نصوص أخرى تستثنيه، وقد يكون هذا البيان بنصب علامة وهي العلة، فحيث وجدت العلة ينطبق الحكم بالقياس.

إن القول بأن شريعتنا لم تتعرض لبعض الأمور يعني أن الشريعة ناقصة، وهذا قول مردود قطعاً. قد يبحث المجتهد عن حكم مسألة ويجده، وقد يبحث عن حكم آخر ولا يجده. وإذا قصر نظر المجتهد ولم يهتد إلى الحكم الذي يبحث عنه فإنه لا يجوز له أو لغيره أن يقول بأن هذه المسألة لا يوجد لها حكم أو أن الشريعة لم تتعرض لها، فليبحث مرة أخرى أو ليترك الأمر لمن هو أعلم منه (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ).

علماء أصول الفقه حينما تعرضوا لهذه المسألة فريق منهم جاء بالرأي ذكرناه أعلاه، أي أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم والأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي وأنه لا يوجد فعل إلا وله حكم ينطبق عليه بالاسم أو الصفة، أو يدخل تحت عموم نص ما، أو نصب عليه أمارة (أي علة) يأخذ حكمها بالقياس. فحسب رأي هذا الفريق من علماء الأصول لا يوجد شيء ولا يوجد فعل إلا وتعرض له الشرع بحكم شرعي.

وفريق من علماء أصول الفقه قال: إن ما سكت عنه الشرع بيّن حكمه أنه عفو (أي هو كالمباح) واستدلوا على رأيهم بقوله : «الحلال ما أحل الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا لكم» وقوله في حديث آخر: «وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها» وقرأ: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) فحسب رأي هذا الفريق لا يوجد شيء أو فعل أهمله الشرع ولم يتعرض له، فما بيّنه صراحة فيها وما لم يبيّنه صراحة يكون داخلاً تحت عموم أنه معفو عنه.

فلم يبق عذر لقائل يقول بأن الشريعة تركت أموراً لم  تتعرّض لها بحل أو حرمة، أو أن الشريعة تركت مناطق فراغ يملؤها ولي الأمر. بل إن ما يشتبه على بعضهم هو المباح أو العفو فظنوه فراغاً أو ظنوا أن الشرع أهمله.

الملاحظة الثانية:

المثل الذي ضربه صاحب العبارة من أن تنظيم شؤون السير هو من الأمور التي لم تتعرض لها الشريعة بحل أو حرمة، فإنّا نقول له: بل تعرضت له الشريعة بالحل. إذ أنه من المعلوم أن السير في الطرقات من الأمور المباحة والطرقات هي من الأماكن العامة، ويباح للسائر أن يمشي عن يمين الطريق أو عن شمالها، ويباح له أن يختار هذا الطريق أو ذلك. وهذا الواقع كان جارياً أمام الرسول وأقره، ويوجد في آداب الطريق أحاديث كثيرة. فإذا رأى الإمام أن ينظم السير بمنع بعض المباح وبالإلزام ببعضه الآخر كان له ذلك، لأن الشريعة أمرت بطاعة ولي الأمر ما لم يأمر بمعصية. فتكون الشريعة قد بيّنت أن ولي الأمر أمره مطاع في تنظيم المباحات، وبيّنت أن السير في الطرقات هو من المباحات، فيكون هذا المثل قد تعرضت له الشريعة وبيّنت حكمه بجلاء، فلا يصح لأحد أن يقول بأن الشريعة لم تتعرض له.

الملاحظة الثالثة:

قوله: إن الله قال: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ… ) ولم يقل: «ومن حكم بغير ما أنزل الله…». هذا التفريق من صاحب التذييل يكشف بوضوح عما في ذهنه، وهذا الذي في ذهنه خَطِر جداً لأنه لا يتوقف عند حدود المثل الذي ضربه عن تنظيم شؤون السير. في ذهنه أن الله أنزل أحكاماً، هذه الأحكام التي أنزلها تعالج جانباً من مشاكل الحياة وتترك جوانب؛ هذه الأحكام التي أنزلها الله نلتزم بها فنكون قد حكمنا بما أنزل الله؛ وبما أن هناك جوانب أخرى أهملتها شريعتنا (لم تتعرض لها بحلّ أو حرمة) فلا بد لنا أن نبحث عن أحكام لها من غير شريعتنا أي (من غير ما أنزل الله). وبناء على ذلك فلا بأس بمن يقول: الكتاب والسنة هما مصدر رئيسي من مصادر التشريع وليسا المصدر الوحيد، ولا بأس بمن يقول: نحن نستفيد من تجارب الشعوب والأمم في حقل التشريع (أي نستورد التشريع)، إن هذا التصور ضلال. لأنه لو جاز لنا أن نستفيد من الأمم الأخرى في حقل العلم والصناعة وما يندرج تحت عموم: «أنتم أدرى بشؤون دنياكم»  فإنه لا يجوز لنا أن نميل قيد شعرة عما جاء في شريعتنا من أحكام. قال تعالى: (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) وقال رسول الله : «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد».

إن ما يجوز لنا أن نأخذه من خبرتنا أو من الأمم الأخرى من العلوم والصناعات هو مما أباحه لنا شرعنا. وهذا من جنس تنظيم أمور السير في الطريق. والحديث الشريف: «أنتم أدرى بشؤون دنياكم» هو نص في إباحة هذه الشؤون لنا فنصبح مخيرين فيها بين أن نأخذها من أنفسنا أو من غيرنا. لكن علينا أن نفهم حدود هذا النص (… شؤون دنياكم)، وهذه الحدود تُفهم من نصوص أخرى، وهذا بحث قائم بذاته، ولكن يَجْمُل بنا أن نشير هنا إلى أن الأمور العملية (من طب وفيزياء وكيمياء وفضاء ونبات وحيوان… ) وما ينتج عنها من صناعات، كلها من المباحات الداخلة في هذا الحديث. والأمور الإدارية التي تنظّم أعمالاً مباحة هي أيضاً من المباحات الداخلة فيه.

وبذلك تكون هذه التنظيمات الإدارية وهذه الأبحاث العلمية والأعمال الصناعية سائرة بموجب ما أنزل الله ويصحّ أن نقول مجازاً: (هي حكم أو عمل بما أنزل الله)، ولا يصح أن نقول: (هي حكم أو عمل بغير ما أنزل الله)، لا يصح ذلك على سبيل الحقيقة ولا على سبيل المجاز.

إن الله تعالى خاطب نبيه بقوله: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) وبقوله: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ)؟ وهذه الآيات حصرت الحكم بما أنزل الله. فإذا علمنا أن ما أنزله الله كافٍ وافٍ فهمنا أنه لم يبق مجال للحكم بغير ما أنزل الله.

وقد ورد نظير ذلك في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط»، وهو يقصد: (كل شرط يخالف من أنزل الله) فعبارة (ليس في كتاب الله) تعني (يتعارض مع ما في كتاب الله).

لذلك لا يصح القول: «لا بأس بمن يحكم بغير ما أنزل الله» لأنها بالنتيجة ترادف «عدم الحكم بما أنزل الله». وأملنا أن يصحّح الكاتب هذا القول.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *