العدد 188 -

السنة السابعة عشرة – رمضان 1423هـ – تشرين الثاني 2002م

التضليل السياسي والإعلامي

التضليل السياسي والإعلامي

 

إن التضليل السياسي هو تضليل عامة الناس والشعوب وذلك ببث الأفكار المضللة والخاطئة بهدف الحصول على مكاسب سياسية لمصلحة فئة معينة. وهناك مصطلحات وعناوين تذاع وتعلن بشكل شبه يومي في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة. نحن نسمع باستمرار مصطلحات مثل “الرأي العام العالمي” و”الرأي العام الأميركي” وغيره من هذه المصطلحات.

ــــــــــــــــــــــــــ

في العالم اليوم دول معدودة على الأصابع نستطيع أن نقول أن لها سيادة كاملة على قراراتها كما أن لها سيادة كاملة على أفعالها, أي بمعنى آخر أن القرار السياسي يصدر من راسمي سياسة ذاك البلد الذين هم رجال مفكرون يضعون سياسة الدولة ويرشدونها الى ما فيه مصلحتها. هؤلاء الرجال لا يظهرون في العلن ويعملون بدون أضواء ولا إعلام, توفر لهم الدولة كل الوسائل المتاحة من معلومات وغيرها حتى يقوموا بواجبهم على أكمل وجه.

         فعلى سبيل المثال, حكومة الولايات يتناوب على حكمها حزبان رئيسيان هما الديمقراطي والجمهوري. إن أميركا لها سياسة محددة وواضحة في الشرق الأوسط. ملخص هذه السياسة هو السيطرة على منابع النفط في منطقة الخليج العربي, ودعم الحكومات العربية التي تتماشى مع سياستها وضرب أية محاولة لوصول الإسلام الى الحكم, وضمان وجود دولة (إسرائيل) كماهي والحيلولة دون توسعها أفقيا أو بالأحرى جغرافيا, وضرب محاولات (إسرائيل) لتصبح منافسة لمصالح أميركا في المنطقة. هذه معالم السياسة الأميركية العامة التي رسمت من قبل راسمي السياسة وتنفذها الأحزاب الحاكمة. إن رئيس الولايات المتحدة هو فعليا الناطق الرسمي للحكومة ومنفذ سياساتها. وعلى هذه الاحزاب أن تتبني هذه السياسات وتجعلها جزء أساسياً من برنامجها السياسي، مع أن لكل حزب أسلوبه الخاص وطريقته في تنفيذ هذه السياسات ومن هنا يأتي التباين والاختلاف في مظهر هذين الحزبين ولكن الهدف النهائي واحد.

         إن هناك قناعة عامة لدى الناس أن الرأي العام الأميركي هو الذي يسير السياسة الأميركية. هذه أفكار ساذجة وسطحية ولكننا إذا تعمقنا وحللنا ما يجري بطريقة موضوعية وقرأنا ما بين السطور نجد أن الأمر غير صحيح لعدة أسباب أهمها:

         أولاً: إن الدولة الأميركية هي التي تتحكم تحكماً كاملاً بوسائل الإعلام والسياسات الإعلامية. ومن هنا فإن الدولة هي التي تحدد ما على المواطن الأميركي أن يراه أو يقرأه أو يسمعه, وعليه فإنها تحدد مسار تفكيره وتحدد مطالبه بدون أن يحس وبذلك توجد رأي عام أميركي يتماشى ويتوافق مع توجهات حكومته. فمثلاً في حرب الخليج الثانية دأبت وسائل الإعلام الأميركية والعالمية ونشطت نشاطاً منقطع النظير لتجيير الرأي العام العالمي ضد النظام العراقى آنذاك. فقد ضخمت الخطر العراقى بشكل كبير أولاً على جيرانه وثانياً على العالم أجمع وذلك بتصوير هذا النظام متمثلاً برئيسه بالوحش الكاسر الذى يريد حرق الأخضر واليابس وأنه إذا لم يوقف هذا الخطر عند حده فسيكون وبال ذلك خطيراً جداً على العالم بشكل عام وعلى العالم الغربي بشكل خاص. وقامت الأجهزة الإعلامية ببث البرامج الوثائقية والمقابلات التلفازية بشكل يومي لفضح, على حد زعمها, وحشية النظام العراقي في التعامل مع أهل الكويت واختلقت بعض القصص والأحداث التي تصور بشاعة القتل والعنف الخ حتى غدا الشعب الأميركي أو بالأحرى أصبح هناك رأي عام أميركي بضرورة وقف هذا الخطر الداهم. والنتيجة، أن أصبح سهلاً على الحكومة الأميركية تمرير مشروع إرسال جيوش أميركية الى الجزيرة العربية. نعم لقد وجهت الحكومة الشعب الأميركي لقبول الدخول في الحرب عن طريق أجهزتها الإعلامية العملاقة والبيانات السياسية الصادرة عن مؤسسات الدولة. وأشدد على أنه من المستحيل التأثير على هذه الأجهزة الإعلامية من قبل مؤسسات مستقلة غير تابعة للنفوذ الأميركي, فكل ما يبث من خلال هذه الأجهزة من ألفه إلى يائه مدروس بعناية ودقة من قبل مختصين ومفكرين حتى يضمنوا أن تصل الرسائل الموجهة بدقة الى عامة الناس ويضمنوا الفائدة الكبرى من هذه المعلومات المنشورة. وأود ان أشير الى مقابلة صحفية مع زبغنيو بريجينسكى, مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي السابق المخضرم ريتشارد نيكسون, أجرتها معه قناة سي إن أن قبيل حرب الخليج حيث قال “أنا آخذ فقط عشرين بالمائة من الأخبار السياسية المنشورة في الجرائد والتلفاز أما الثمانون بالمائة الباقية فإنها ببساطة كذب وتضليل” وشهد شاهد من أهله, فهذا الشخص يعرف بالضبط مجريات وطبيعة الأمور وما يحدث وفي الوقت نفسه يعلم ما تبثه الأجهزة الإعلامية.

         لذا فإن ما يروج له المفكرون والسياسيون والإعلاميون العرب والمسلمون حول ضرورة حشد الطاقات وتكثيف الجهود لمحاولة التأثير على الرأي العام الأميركي لكسب التأييد الأميركي ماهو إلا تضليل سياسي لهذه الأمة ومحاولة توجيه أسلحتها نحو الهدف الخطأ وتشتيت طاقاتها وتبديدها. هذه الجهود مضللة وغير مجدية أصلا ولن تؤتي أكلها. فهؤلاء المنادون أو الناعقون أنه يجب التركيز على التأثير على الرأي العام الأميركي لصالح أهل فلسطين صنفان لا ثالث لهما إما عندهم غباء سياسي لا يعرفون قواعد اللعبة السياسية ومخدوعون بوهم الديمقراطية الزائفة وإما هدفهم التضليل السياسي والترويج لأفكار مضللة ومفاهيم تشتت أفكار الناس وأعمالهم بدون فائدة أو نفع وهؤلاء هم أبواق الغرب. هؤلاء يدعون أنهم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ولكنهم ليسوا كذلك البتة.

         على الناس أن يعـوا أن الذي يحكم أميركا هـم فئة قلية من الناس وليس الـشـعـب الأميـركي كما يعتـقـد البعض. هذه الفئة هي التي ترسم السياسات وتنفذها الحكومات المتعاقبة إما الحزب الديمقراطي وإما الجمهورى. والخلاف الوحيد بين هذين الحزبين هو الأسلوب الخاص لكل منهما وليس المضمون. أما بالنسبة الى السياسة الخارجية فإنها سياسة واحدة بالنسبة للحزبين على سواء ولكن بأساليب مختلفة.

         ويقال مثل هذا بالنسبة لدولة يهود فإن الوضع مشابه إلى حد كبير, فهناك راسمو السياسة الإسرائيلية الذين يحددون أطر ومعالم هذه السياسة والأحزاب الحاكمة تنفذ هذه السياسة. أما التضليل السياسي التي تتبعه وسائل الإعلام العربية والسياسيون والمفكرون ما نسمعه ونشاهده يومياً من أن شارون هو العائق الأساسي لما يسمى بعملية السلام, أي بمعنى آخر إذا سقطت هذه الحكومة فسيتم التوصل الى تسوية دائمة لما يسمى بقضية فلسطين. ما نلحظه أن الهجوم مركز على شخص شارون بالذات وليس على الحكومات الإسرائيلية أو الشعب الإسرائيلي. ألا يعلم هؤلاء ان كل أفراد الشعب اليهودي هم مثل شارون بل أكثر حقدا وكراهية للمسلمين. ألا يذكر الناس أيام حكم نتنياهو وتعنته ومراوغته وصلابة موقفه من عملية السلام والقدس والمستعمرات واللاجئين. ألا يذكر الناس التصريحات الرسمية والاعلامية آنذاك من أن نتنياهو هو العائق أمام تحقيق السلام وأن حكومة برئاسة حزب العمل هي القادرة على التوصل الى تسوية نهائية للنـزاع المستفحل بين المسلمين واليهود. وسقط نتنياهو وسقطت معه حكومته اليمينية المتطرفة وابتهج الناس وزفت البشائر بالنصر المبين بقدوم باراك رجل السلام وبدأت المفاوضات وفتحت قنوات الاتصال. كل هذا واليهود أيام نتنياهو وأيام باراك يستبقون الزمن ويستغلون الوقت الضائع ويبنون المزيد من المستعمرات والبنية التحتية ويستقبلون المزيد من المهاجرين الجدد ويرسخون أقدامهم على الأرض ويجعلون الأمر مستحيلاً لمجرد التفكير بالانسحاب من الضفة الغربية وغزة وخصوصاً القدس الشرقية. ونذكر عندما بدأت المفاوضات الجادة تحت ضغط القيادة الأميركية كشر باراك عن أنيابه وظهر على حقيقته ولم يتنازل عن شبر واحد من أهداف اليهود الأساسية. وعندما بدأت الانتفاضة العام الماضي تجرأ باراك بما لم يجرأ أي من أسلافه على اقترافه من قتل وقصف بالطائرات وتدمير واغتيالات وهدم بيوت لأهل فلسطين. ثم جاء شارون فاستمر في القتل والقصف والتدمير والاغتيالات والهدم، ولكنه لم يغلف ذلك بمناورات سياسية كما كان يصنع باراك، فقال حكام العرب إن عملية السلام أصيبت بنكسة كبيرة. وبدأت وسائل الإعلام والبيانات السياسية العربية تروج أنه إذا سقطت حكومة شارون يمكن الرجوع إلى طاولة المفاوضات مع حمائم حزب العمل يوسي بيلين وبيرس بمشاركة يوسي ساريد (ميرتس). كل هذا يحدث واليهود يبنون ويتحصنون ويثبتون أقدمهم على هذه الأرض. وبالمقابل فإن مسئولي السلطة ينتظرون ويتفرجون على الانتخابات الإسرائيلية ويعقدون الآمال على الحكومة القادمة. ولنفترض أن حكومة شارون سقطت وعاد حزب العمل الى الواجهة السياسية والى الحكم, ماذا نتوقع؟ هل سيصلون الى معاهدة سلام مع أهل فلسطين بحيث تسلم الأرض إلى أهلها ويعاد اللاجـئـون؟ بالـطـبـع لا, ولكن لن يقولوا ذلك جهراً بل سيستأنفون المفاوضات مع السلطة وترجع اللقاءات العلنية والسرية ولكن الى اين؟ لن نصـل معـهـم إلى شيء, وإذا ما ضغطت عليهم أميركا بشدة مجدداً فعندها سيطيحون بحكمومتهم ويدعون إلى انتخابات جديدة ويرجع الليكود الى الحكم وهكذا دواليك.

         أما آن للناس أن يفيقوا ويصحوا من غفوتهم ويعوا ما يدور حولهم. أما آن لهم أن يعوا الواقع المر والذل والمهانة الذي يعيشون فيه. كفانا سذاجة!! ننتظر من انتخابات الى أخرى ونعول على هذا الرئيس الأميركي أو ذاك أو تلك الحكومة الإسرائيلية أو غيرها. كلهم سواسية لم ولن يجرأ أي رئيس أميركي أو حكومة إسرائيلية على الخروج عن الإطار العام لسياسة الدولة. فرابين عندما فكر بإرجاع جزء من الجولان الى سوريا قتل مع أنه أي رابين من مؤسسي هذه الدولة ومن المخلصين لها. سئل مرة بعد توقيع اتفاقيات أوسلو من قبل صحفي إسرائيلي أنك تنازلت عن إسرائيل الكبرى فرد عليه: نعم تنازلت عن إسرائيل الكبرى لأجل إسرائيل العظمى. الظاهر أن رابين آنذاك وصل إلى قناعة شخصية وذلك بإمكانية التنازل عن جزء من الجولان لأجل جلب مصالح أعظم لدولة (إسرائيل). ولكن هذه المبادرات من قبل رابين الظاهر أنها كانت نتيجة ضغط هائل من أميركا مقابل وعده بمكاسب عظمى لدولة (إسرائيل) فهمهما رابين وخاصته ولم يفهمها الآخرون.

         هكذا هم حكام أميركا، وهكذا هم حكام يهود، فهل يعي ذلك من لا زالوا يراهنون على تغيير حاكم بحاكم؟ (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)  [ق] .

بقلم: عبد الرحمن البدري –  محلل سياسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *