العدد 187 -

السنة السادسة عشرة – شعبان 1423هـ – تشرين الأول 2002م

مع القرآن الكريم: الحرص على إيمان الناس

بسم الله الرحمن الرحيم

مع القرآن الكريم:

الحرص على إيمان الناس

قال تعالى: (طه @ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى @ إلا تذكرة لمن يخشى @ تنزيلاً ممن خلق الأرض والسموات العلى)

الآيات الكريمة التي معنا وهي آيات مكية تكشف عن أمر لا بد لحملة الدعوة أن يلاحظوه، وهم يتبعون منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة وهو حرصه صلى الله عليه وسلم على إيمان الناس واتباعهم الطريق الصحيح والمنهج القويم، وقبل التعرض لمعنى هذه الآيات الكريمة لا بد من ذكر بعض الآيات التي أكدت هذا المعنى وبينت مدى حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إيمان قومه، منها قوله تعالى: (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين) [النحل] وقال تعالى: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) [يوسف] فالرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على إيمان قومه يحزن لكفرهم ويفرح لإيمانهم، لذلك كانت الآيات تنزل عليه لتسري عنه همه مما يلقاه منهم من عناد وكفر، ومن هذه الآيات آيات سورة طه التي معنا حيث نزلت لتذكر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الوحي لا ينزل عليه ليشقى أي ما أنزلنا عليك القرآن لنكلفك ما لا طاقة لك به من العمل والدعوة، ولكن جعلناه رحمةً ونوراً ودليلاً إلى الجنة، لمن يخشى الله وعقابه فيتقيه، فالله أنزل كتبه وبعث رسله رحمة رحم الله بها العباد ليتذكر ذاكر، فما أنزلناه إلا تذكرةً لمن يخشى الله من الناس ممن أعمل عقله وحواسه ولم يغلقها أمام الحجج والبراهين الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا إكرام وفضل من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم. جاء في فتح القدير في تفسيره للآيات «والمعنى ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا فهو كقوله تعالى سبحانه تعالى: (فلعلك باخع نفسك) [الكهف/6]» وقد حصل أن شكا الرسول صلى الله عليه وسلم لربه مرتين ما يلقاه من قومه من التكذيب قال تعالى: (وقال الرسول إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً) [الفرقان] وقال تعالى: (وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون @ فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون) [الزخرف].

         فالحرص على إيمان الناس أمر مطلوب ولكن كما أخبر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن لا يصل هذا الحرص إلى حد الشقاء والحسرة قال تعالى: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً) [الكهف] وقال تعالى: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) [الشعراء] وقال تعالى: (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون) [فاطر].

         فحامل الدعوة لديه مهمة واحدة هي التبليغ، والنتائج بيد الله وحده، والآيات الدالة على ذلك كثيرة، قال تعالى: (وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) [الرعد] وقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [النحل] وقال تعالى: (وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) [آل عمران] وقال تعالى: (قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعوا وإليه مآب @ وكذلك أنزلناه حكماً عربياً ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق) [الرعد] وقال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) [النحل].

         إذاً فالرسول صلى الله عليه وسلم يحرص على إيمان قومه، ويشكو همه لربه لما يجده من إعراض عن دعوته، فتنزل الآيات تسري عن الرسول صلى الله عليه وسلم وتنزل لتبين له أن لا تذهب نفسه عليهم حسرات، وتنزل لتبين له أن وظيفته هي التبليغ عن الله بشكل واضح أما النتائج فهي بيد الله وحده، لذلك تكون آيات سورة طه قد جمعت كل هذه الأعراض التي مرت بها الدعوة وعالجتها قال تعالى: (طه @ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى @ إلا تذكرة لمن يخشى @ تنزيلاً ممن خلق الأرض والسموات العلى) .

         وهذه الأعراض التي مرت بها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة قد أكدت على علاجها آيات مكية كثيرة وبنفس التوجيه الذي في مقدمة سورة طه كما قال تعالى: (واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون @ إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) [النحل] وكما قال جل شأنه: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ @ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ @ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ @ إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)  [يونس] .

         وتنزل الآيات المكية لتزيد من ثبات المؤمنين بتأكيد نصر الله تعالى لدعوتهم مهما تآمر عليها الكفار ومهما مكروا لها فهي منصورة لا محالة من مثل قوله تعالى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ @ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ @ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات] وقوله تعالى: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) [غافر].

         أما الكفار فتكذيبهم لن يحول دون وعد الله بالفتح والتمكين، فكثير منهم لن يؤمن، حتى لو نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات مادية كما طلبوا جهالة منهم وعناداً واستكباراً، قال تعالى في سورة الرعد: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ) إلى قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ @ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَاب) . وقد تحقق وعد الله تعـالى فيهم فأصـابهم القتل والحرب، وتحقق وعد الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بظهوره عليهم وفتحه أرضهم مكة وقهره لهم، فالله تعالى لا يخلف وعده، ندعوا الله تعالى أن يعجل لنا بوعده ونصره، فهو وحده المستعان. (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) [غافر] .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *