العدد 182 -

السنة السادسة عشرة – ربيع الأول 1423هـ – أيار وحزيران 2002م

المناورات السياسية

المناورات السياسية

المناورة السياسية هي أعمال تقوم بها الدولة قاصدةً غاياتٍ غير الغايات التي تظهر من القيام بالعمل. وقوة المناورة تكمن في إعلان الأعمال وإخفاء الأهداف، كتحريك جيش إلى وجهة والـمُـراد في الحقيقة وجهة أخرى. وهي محصورة في الأعمال وليس في المبادئ والأفكار. فالمبادئ والأفكار لا مكان للمناورة فيها بل الصراحة والوضوح في العلن وفي الخفاء.

======================================

          إلا أن المناورات السياسية عند الرأسماليين هي طريقة عندهم للغش والخداع وتزييف الحقائق والتزوير وامتصاص دماء الشعوب واستعمارهم ونهب خيراتهم، حيث إن قاعدة (الغاية تبرر الواسطة) هي الأساس الذي تبنى عليه المناورات السياسية عندهم.

          إن الرأسماليين بزعامة الولايات المتحدة يستخدمون المناورات السياسية في كافة الأفكار والأعمال والوسائل، المبدئية وغير المبدئية، السياسية وغير السياسية، بحجة التطور والتغير للظروف والأوضاع للقوى السياسية وغيرها، وبذريعة الغاية تبرر الوسيلة، كل ذلك بهدف التضليل والخداع الفكري والسياسي للقوى السياسية والفكرية، ومن أجل تسخير الشعوب، بما فيها الشعوب التي تعتنق الرأسمالية، لخدمة مصالح الرأسماليين.

          فالولايات المتحدة تناور عملياً في أفكار الديمقراطية والحرية والمساواة وفصل الدين عن الحياة وسائر الأفكار الرأسمالية البحتة، وفي أفكار حقوق الإنسان، والإرهاب، والمعارضة، والتعددية، والحوار، والتحرير، والنظام العالمي الجديد، وهيئة الأمم، وسائر الأفكار الاستراتيجية وغيرها من الأفكار، وهي تناور في الأعمال والوسائل المتعلقة بهذه الأفكار.

          والأفكار الرأسمالية وغيرها، من زاوية فكرية، لها مدلولات وغايات محددة، إلا أن المبدأ الرأسمالي أباح التضليل الفكري لشعوب العالم والقوى المؤثرة فيها بهدف تسخيرها لمصلحته ومصلحة من يقوم عليه، عن طريق التلاعب بمدلولات وأهداف الأفكار عملياً، ولهذا تقوم الولايات المتحدة بأعمال الضغط والابتزاز والاستغلال وإشعال الحرائق واصطناع الأزمات ونصب الفخاخ، تحت ستار هذه الأفكار العفنة سواء من ناحية فكرية أم عملية، فالفكر الرأسمالي وكل فكر يبنى عليه هو فكر قاتل للإنسان لأنه يراد منه إحكام سيطرة الرأسماليين والأميركان على العالم وعلى شعوبه وأحزابه، ليتمكنوا من مص دمائهم وسحق ضعفائهم واستغلال طاقاتهم وكنوزهم وثرواتهم وليمعنوا في إذلالهم لجعلهم يتلمسون حقيقة أنهم عبيد لهم، وحتى حكام الولايات المتحدة ليسوا أكثر من أدوات لهؤلاء الرأسماليين المجرمين، ولهذا كان من الطبيعي أن يكون كل أمر موضع استغلالٍ للرأسماليين وموضع مناورة، ولهذا أيضاً لا عجب في استغلال هيئة الأمم ومؤسساتها والمناورة في أفكارها وأعمالها ووسائلها، وفي استغلال المؤسسات الإقليمية والمحلية، والحلف الأطلسي ونحو ذلك من أجل تحقيق مصالح الرأسماليين التي لا تعرف الشبع ولا تفهم منطق القناعة، فهم على استعداد لتبديد وحرق كميات كبيرة من السلع حرصاً على رفع أسعار السلع في السوق من أجل مصلحتهم الأنانية، ولو كان الكثير من البشر في حالة حرمان وفقر وجوع وبحاجة ماسة لهذه السلع.

          وهم على استعداد لزج شعوب العالم في الحروب والكوارث والمصائب من أجل الاستعمار والسيطرة، ولهذا لا نستغرب كل ما يصدر عنهم من أفكار وأعمال شيطانية، لأنهم قد فاقوا إبليس في التلبيس والخداع والمكر والخبث والتضليل، والنجاة من خطرهم والقضاء عليهم لا يكون إلا بالاستقامة، وعليه فالتصدي لهؤلاء الأوغاد وأدواتهم – بالمعارك السياسية – لا تكفي للقضاء عليهم، وقيام الشعوب بالثورات والنضال والكفاح وأعمال التحرير من سيطرتهم واستعمارهم وإرهابهم لا تكفي أيضاً لمحق قوة تأثيرهم، لأنهم في الواقع ثمرة من ثمار الفكر الرأسمالي النتن والعفن، وعليه فلا بد من التصدي للأصل والفرع، الرأسمالية ومن يقوم عليها ويتزعم نشرها بالاستعمار والسيطرة، فيجري دفن الرأسمالية فكرياً وعملياً، ويمحى من الوجود أثرها بلا رجعة.

          وتجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد تعارض بين الحقائق، وبروز التعارض الشكلي بينها سببه عدم إدراك حقيقة النظرة التي يجب أن ينظر إليها، فقط ينظر إلى حقيقة من زاوية فكرية، وأخرى من زاوية عملية، فالنظر إلى الحقيقتين من زاوية واحدة تؤدي إلى بروز التعارض بينهما. وعليه فلا يوجد تعارض بين حقيقة كون الرأسماليين هم الحكام الحقيقيون للدول الرأسمالية وأنهم يقومون باستئجار الحكام الشكليين لكي ينفذوا مصالحهم، لأن هذه الحقيقة يجب أن ينظر إليها من زاوية عملية، وبين حقيقة أن الدول الرأسمالية تتبنى فكرة الديمقراطية والحرية وسائر الأفكار الرأسمالية، وهذه الأفكار لها مدلولات وأهداف محددة تختلف في نظرتها الفكرية عما هو مشاهد ومحسوس من زاوية عملية من وجود احتواء وتمييع وتسخير وتضليل في هذه الأفكار وغيرها، وعليه فمعالجة التعارض الظاهري بين الحقائق يكون من خلال النظرة إلى الحقائق شكلاً ومضموناً وبعداً ومن خلال تحديد النظرة التي يجب أن ينظر إلى الحقائق من خلالها، نظرة فكرية أو عملية، نظرة عقائدية أو شرعية، مع ضرورة توخي حسن الربط مع قوته عند المفكر والسياسي، ومن هنا فلا تعارض بين حقيقة أن الديمقراطية والحرية تحتم أن تختار الشعوب وتستأجر حكامها وسائر أجهزة وسلطات دولتها لتشرع وتنفذ لها القوانين التي تريدها، ولها حق العزل والتغيير والتبديل، وبين حقيقة أن أصحاب رؤوس الأموال سواء في أميركا أو غيرها من الدول الرأسمالية، هم الذين يستأجرون الحكام وغيرهم من أجهزة الدولة وسلطاتها، وهم الذين يتلاعبون في صياغة الرأي العام وتشكيله فكرياً وعملياً لخدمة مصالحهم الخبيثة والأنانية، وهم الذين لهم حق عزل الحكام أو التخلص منهم كما حصل مع جون كنيدي.

          فالحق إذن أنه لا تعارض بين الحقائق، لأن الحقيقة الأولى تتعلق بالنظرة إلى الرأسمالية وأفكارها من زاوية فكرية، والثانية تتعلق بالنظرة إليها من زاوية عملية. ومن هنا كان لزاماً على الحركات والقوى الإسلامية محاربة الأفكار الرأسمالية والأفكار التي تبنى عليها محاربة لا هوادة فيها، ومكافحة من يقودها عمليا – الولايات المتحدة – كفاحا فكرياً وسياسياً، والتصدي لمن ينادي بهذه الأفكار من الحكام الخونة والحركات الرخيصة التابعة في العالم كله ومنه العالم الإسلامي تصدياً قوياً ومؤثراً ومثيراً.

          إن من يدرك حقائق الإنسان وحقائق الفكر الرأسمالي، فكرياً وعملياً، شكلاً ومضموناً وبعداً، يدرك مدى خطورة سموم هذا الفكر القاتلة للإنسان والماحقة للبشرية، ويعلم حقيقة المعاناة التي تعاني منها شعوب الأرض بسبب شرور هذا الفكر ومن يقوم عليه، ويبصر مدى السيطرة والنفوذ لأصحاب رؤوس الأموال والشركات على القوى السياسية والفكرية والعلمية ونحوها، ويتفهم خطر هؤلاء على شعوبهم وشعوب الأرض، ويستوعب حقيقة الحكام في العالم من أنهم ليسوا أكثر من دمى تسخر لخدمة مصالحهم وأهدافهم الأنانية الخبيثة، ولهذا يجب دوام التصدي لهؤلاء الرأسماليين وأدواتهم من القوى السياسية بالمعارك السياسية التي تفضح أمرهم وتكشف مناوراتهم وخداعهم وتضليلهم، وتبرز حقيقة إجرامهم وجرائمهم، فعن طريق المناورة يخدعون شعوبهم ويظهرون لهم وكأنهم يختارون حكامهم وتشريعهم ويمارسون الحرية القذرة والحقيرة، والديمقراطية الحيوانية والغريزية، ويستغلون الفكر الرأسمالي الضال والمضل، الذي يبيح استخدام فن المناورة في كل فكر وعمل وغاية ووسيلة، ولهذا يستغلون الأفكار والأعمال والوسائل مهما كان نوعها وصفتها عن طريق تغيير جوهرها وأبعادها بهدف تخليد سيطرتهم على شعوب الأرض، ويعمدون إلى جعل هذه الشعوب تعيش في دوامة من المشاكل والفوضى والاضطراب والنـزاع والقلق والتفرق والصراع والحروب من أجل الاستغلال والسيطرة والاستعمار والاستعباد.

          فالحرية في أميركا من زاوية عملية يراد منها جعل الشعب الأميركي يتلهى بالجنس والركض وراء لقمة العيش وتفكيك الأسرة وشرذمتها وقطع الصلة بالرحم والأقارب والجيران والعيش في ظل أجواء الأوهام والخرافات والترهات الفكرية، والحرية خارج أميركا يراد منها بالإضافة إلى ما سبق الاستعمار والهيمنة وهكذا سائر الأفكار الرأسمالية وما يبنى عليها من أفكار كهيئة الأمم وما يتصل بها من أفكار ومؤسسات كحقوق الإنسان والتعددية والحوار والرأي والرأي الآخر وكصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ومن هنا يجب التركيز على كشف حقائق الفكر الرأسمالي وما يبنى عليه ومن يتزعم قيادته عمليا لشعوب العالم لتقول كلمتها ولتتخذ موقفها، وعلى إبراز حقائق الفكر الإسلامي وما يبنى عليه من أفكار ومن يتزعم قيادته عملياً لكي تنقاد شعوب العالم للفكرة الإسلامية فكرياً وسياسياً، بقيادة من يقوم على الفكرة الإسلامية بشكلها ومضمونها وبعدها من القوى الإسلامية سواء أكانوا أحزاباً أو أفراداً أم دولة، وهذا الأمر يستلزم كشف القوى المخادعة والمتآمرة على الفكرة الإسلامية حين تزعم شكلاً أنها تقوم على الفكرة الإسلامية، وهي في جوهرها وأبعادها مسخرة ضد الفكرة الإسلامية وضد أهلها وتعمل لصالح الفكرة الرأسمالية ومن يقوم عليها، فالفكرة الإسلامية تحرم استخدام الغاية تبرر الوسيلة في المناورة الفكرية والعملية في المسائل والقضايا المبدئية التي يجب كشف حقائقها وإبراز مواقفها بشكل حي وصريح ومبلور ومحدد، بلا احتواء وبلا ميوعة وبلا جمود في معانيها وأهدافها ودوافعها ومواقفها العملية، فمثلاً حقيقة الجهاد شرعاً، أنها من الحقائق الأساسية المصيرية والمبدئية، وهي طريقة الإسلام في نشره والدعوة إليه، وهذه الطريقة لا يجوز التخلي عنها، ومضمون هذه الحقيقة أن يزحف الجيش الإسلامي لقتال الكفار والمشركين وكل ما له علاقة بالقتال لتحطيم الحواجز التي تعترض نشر الإسلام في العالم كله، وأعمال هذه الحقيقة هي مباشرة القتال بالفعل بدافع سيادة الإسلام في العالم أجمع، وبهدف جعل نور الإسلام مشرقاً على كوكب الأرض لتنعم البشرية بسعادة الدنيا والآخرة، ولتنقذ شعوب الأرض من بؤس وظلام وسموم الرأسمالية والرأسماليين في الدنيا والعذاب الأليم الأبدي في الآخرة، وهكذا سائر حقائق الإسلام فلا يعمد إلى تغيير مضمونها وأبعادها، أو تجميدها أو تمييعها أو المناورة والتضليل في جوهرها وأهدافها، ومن البداهة في الإسلام أنه لا يجوز أخذ حقائق الفكر الرأسمالي أو الحقائق المناقضة للإسلام، ثم إضفاء الصفة الإسلامية عليها بحجة أن الرأسمالية والرأسماليين يعمدون إلى المناورة بسبب الضعف في حالة المسلمين، فهذا الأمر لا يجوز بأي حال من الأحوال، وحرمة هذا الأمر هي من البديهيات في الإسلام، فكما أنه لا يجوز القول بالزنا الإسلامي والربا الإسلامي والخمر الإسلامي، فلا يجوز القول بالديمقراطية الإسلامية أو الشركات المساهمة الإسلامية أو القومية الإسلامية، فالحقائق لها مدلولات وأهداف محددة من ناحية فكرية، فالزنا والربا والسرقة والكفر والشهيد والإيمان والإسلام والجهاد لها مدلولات وأهداف محددة في الإسلام من ناحية شرعية فلا يجوز تغييرها أو تبديلها أو تمييعها، وكذلك الديمقراطية وفصل الدين عن الحياة ونحو ذلك من الأفكار الرأسمالية، وكذلك الشركات المساهمة والقومية لها مدلولات وأهداف محددة تتناقض كل التناقض مع الإسلام وحقائقه، ولهذا لا يجوز أخذ هذه الحقائق وإضفاء الصفة الإسلامية عليها بل يجب محاربتها ونبذها ويجب كشف حقائق الإسلام بصورة نقية صافية ومبلورة، والقوى الإسلامية التي تتجسد فيها الفكرة الإسلامية بحقائقها فكرياً وعملياً، شكلاً ومضموناً وبعداً، وتحارب الفكرة الرأسمالية ومن يتزعمها وينادي بها، فكرياً وعملياً، شكلاً ومضموناً وبعداً، هذه القوى هي القوى المخلصة والواعية والإسلامية بحق، وما عداها فهو إما مخادع وإما تابع للغرب وفكرته، بوعي أو بدون وعي، بحسن نية أو بسوء نية، ولهذا يجب على القوى الإسلامية المخلصة والواعية فكرياً وسياسياً، محاربة كل فكر وكل موقف يؤدي إلى مزج الإسلام بالكفر، وإبراز حقائق الإسلام بشكل واضح، ومصارعة الحقائق الرأسمالية التي تتعارض مع الإسلام سواء من ناحية فكرية أو عملية، ولهذا لا بد من المواجهة بين الإسلام والكفر، بصبر وصدق وصراحة ووضوح، وتستبعد المناورة التي تقوم على أساس الغاية تبرر الواسطة استبعاداً كلياً، فالمناورة تفقد المرء الصدق والصراحة والجرأة والكفاح، والعالم قد عانى من مناورات الرأسمالية والشيوعية مما جعله يفقد الثقة والولاء لهذه الأفكار والقوى التي تقوم عليها، ويمقت ويكره هذه الأفكار ومن ينادي بها مقتاً وكراهية شديدة، وبما أن القوى السياسية الإسلامية تريد كسب ثقة شعوب العالم بفكرتها وبها ليسهل عليها تقبل الفكرة الإسلامية واعتناقها، والتخلي كلية عن الثقة والولاء للرأسمالية ومن يقوم عليها بقيادة الولايات المتحدة، وكسب الثقة والولاء يستلزم الصراحة والصدق والصبر والمواجهة وكشف الحقائق، ولهذا لا بد للقوى السياسية الإسلامية القيام بواجب مواجهة الرأسمالية بزعامة الولايات المتحدة والتصدي لكل القوى التي تروج للرأسمالية وأفكارها وما يبنى عليها، على أساسي الفكرة الإسلامية وحقائقها، لكي يسهل على القوى الإسلامية كسب ثقة وولاء شعوب الأرض بسرعة لكي تنقذ بالإسلام قبل أن يلحقها الفناء في الدنيا والخلود في جهنم بالآخرة .

عبد الهادي محمود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *