العدد 181 -

السنة السادسة عشرة – صفر 1423هـ – أيار 2002م

مع القرآن الكريم: (مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)

مع القرآن الكريم:

(مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)

         قال الله سبحانه: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون @ متاع قليل ولهم عذاب أليم)  [النحل/116- 117].

==========================================

         لقد بعث الله سبحانه رسوله صلوات الله وسلامه عليه بالحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فبلغهم رسالة ربه، وبيَّن لهم حلاله من حرامه، وأرشدهم إلى ما فيه عزَّتهم، وحذَّرهم مما فيه ذلهم، فاتبعه المسلمون وأطاعوه، فعزّوا وعزّ الإسلام، وكانوا منارة الهدى ومصابيح الدّجى. وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يوصي المسلمين «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي» .

     وسار على هديه صلى الله عليه وسلم الخلفاء الراشدون، والمؤمنون من بعده، فكانوا وقَّافين عند الحق لا يتجاوزونه، وإذا اختلفوا في أمر ردّوه إلى الله والرسول، ففزعوا إلى العلماء من أهل التقوى، ينظرون لهم في كتاب الله وسنة رسوله، مبينين لهم الحق من الباطل، والحلال من الحرام، فإذا عرفوه اتبعوه والتزموه، فسادوا على الدنيا ونشروا العدل في ربوع العالم.

         ثم خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فزال سلطان الإسلام من الأرض، زالت خلافته الراشدة، ثم خلافته العاضَّة، وعاش المسلمون في حكم جبري، يتولاّه حكام لا يلتفتون إلى شرع الله ولا إلى سنة رسول الله، فأضاعوا الدين والدنيا، واتخذوا (مشايخ) بطانة لهم، يحللون لهم ويحرمون، يزينون لهم السوء، ويصدرون لهم الفتاوى (مفصَّلة) بالمقاس الذي يريدون: أجازوا لهم الاستعانة بجيش الكفر أميركا وأدخلوه أرض الجزيرة، وأجازوا الاتفاقيات الخيانية مع يهود في كمب دافيد وعربة وأوسلو وأخواتها، وجعلوا العمليات الاستشهادية عمليات انتحارية، وأنَّّ إرسال الجيوش لنصرة فلسطين مخالفة للشرعية الدوليّة… إلى أن وصلوا في فتاواهم إلى أن يقولوا إنَّ العمل لإزالة الحكام المجرمين المتسلّطين على رقاب المسلمين، وإقامة الخلافة الراشدة، هو خروج على ولي الأمر! ومدعاةٌ للفتنة. ثم خرقوا أموراً ما أنزل الله بها من سلطان فقالوا بالجهاد السلمي! وأن تفاوض عدوك لعله يعطيك شيئاً من حقك بدل القيام بالجهاد المعلوم من الدين بالضرورة الذي هو قتال الكفار لإعلاء كلمة الله، فتحفظ بيضة الإسلام والأرض والعرض، وقالوا بحوار الأديان وأنها كلها سواء وأن يتعرف كل واحد على الآخر دون أن ينكره ويبين الخطأ من الصواب… وهكذا خلطوا الحلال بالحرام بل أحلوا الحرام وحرموا الحلال بإخراج فتاوى ترضي الحاكم وتسخط رب الحاكم. لقد أصبح مشايخ السلاطين ذوي حظوة عند الحكام لا يكادون يفارقونهم في حلهم وترحالهم، وصارت الرعاية الصمدانية للحاكم لا تفارق ألسنتهم وهي تلهج بها في الدعاء للحكام في الخطب والمناسبات.

         إن التحليل والتحريم بغير ما أنزل الله، والافتراءَ عليه سبحانه من أكبر الجرائم في الإسلام التي توقع صاحبها في مهاوي الردى من خزي في الدنيا وعذاب أليم يوم القيامة.

         إنَّ المتدبر للآيتين الكريمتين اللتين بدأنا بهما يتبين له ما يلي:

         1 –  إنَّ هؤلاء (المشايخ) الذين يحللون الحرام ويحرمون الحلال يكونون متعمدين للكذب فهم يدركون أنهم يفترون على الله، وفي قرارة أنفسهم يعلمون ذلك. يقول سبحانه: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب) أي أنَّ قولهم هذا زور وبهتان فهو من طرف ألسنتهم لا أساس له فهو وصف باللسان لا حقيقة له، فهم يعلمون أنهم قالوا كذباً إرضاءً لصاحب السلطة بيعاً لدينهم بشيء من دنياهم بل بدنيا غيرهم.

         2 –  إنّ الذي يفتري على الله الكذب لا يفلح (إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) . وعدم الفلاح دلالة على مصيره الأسود في الدنيا والآخرة، فهو محتقر منبوذ عند الناس في الدنيا لصبغة النفاق التي تعلو جبينه، والتي تظهر للقاصي والداني لكثرة تزلفه للحكام الظلمة الخونة، وكذلك في الآخرة ولعذاب الآخرة أكبر.

         وقد ورد في آيات كثيرة بيان عظم جريمة هؤلاء:

         فهم من أظلم الناس: (ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام) [الصف/7].

         وهم أصحاب قلوب فاسدة غير طاهرة (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [المائدة].

     وهم يتجرأون على الله سبحانه يحللون ويحرمون جاعلين أنفسهم أرباباً من دون الله (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)  [التوبة/31] وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم كونهم أرباباً بأنهم يحللون ويحرمون. فقد جاء في الحديث الشريف «إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم».

         3 –  إنَّ هؤلاء الذين يحللون ويحرمون لا يكون نصيبهم في الدنيا، وهو الذي يأخذونه من أصحاب السلطة مقابل تغييرهم الحلال والحرام، لا يكون إلا قليلاً، فهم قد باعوا آخرتهم بشيء في الدنيا، فإذا كانت الدنيا كلها لا تساوي عند الله جناح بعوضة فكيف الشيء منها فهو قليل قليل. هذا عندما يبيعون آخرتهم بدنيا لهم يصيبونها، فكيف بهذا القليل عندما يبيعون آخرتهم بدنيا غيرهم، فيزيّنون السوء للحاكم، ويضللون الناس بواقعه، ويحسنون موقعه أمام البسطاء من الناس، وعندما يحقق الحاكم منهم ما يريد وينتهي دورهم، يقصيهم من حوله ويتخذ (مشايخ) بطانة غيرهم. وهكذا فنصيبهم من الدنيا قليل وعذابهم في الآخرة أليم (متاع قليل ولهم عذاب أليم) .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *