العدد 177 -

السنة السادسة عشرة شوال 1422هـ – كانون الثاني 2002م

هيمنة الدولار … إلى متى ؟

          بعد أن تفتت الاتحاد السوفيتي سنة 1991م وانتهت الحرب الباردة، وانحل حلف وارسو، خلت الساحة للدول الرأسمالية الصناعية والغنية وأصبح العالم كله بدوله وقاراته أجزاءً من العالم الرأسمالي، وتبعاً له سواء في تبعيته للدولار أو في تبعيته لسياسة حرية السوق.

          إن حقبة ما بين الحربين الأولى والثانية من سنة 1914م ـ سنة 1944م كانت فترة اضطراب وأزمات مالية واقتصادية، أي فترة انفلات من أي ضابط أو قيد، سواء في أسعار الصرف أو في المبادلات التجارية، لأن المجهودات الحزبية والنفقات العسكرية، قد استغرقت كافة قطاعات الإنتاج في الدول التي اشتركت أو تأثرت بتلك الحروب، فقد أوقف العمل بنظام قاعدة الذهب. وأخذت كل دولة تطبع من أوراق البنوك ما لا يحصى من الكميات لتغطية النفقات الحربية دون أن يكون لهذه الكميات الورقية أي غطاء ذهبي. وبدأت في تخفيض قيمة عملاتها. ورغم المؤتمرات الدولية الاقتصادية، ومحاولة العودة إلى نظام قاعدة الذهب، فإنها لم تفلح.

          وحتى ما قبل سنة 1944م أي اتفاق بريتون وودز لم يكن للدولار دور في العالم، ولم يزد عن كونه عملة محلية، كما أنه لم يستأثر بمناطق خارج الولايات المتحدة مثل منطقة الإسترليني ومنطقة الفرنك التي اقتطعت وتأصلت نتيجة الاحتلال الاستعماري.

          فمنذ أوائل القرن التاسع عشر وحتى بدأت الحرب العالمية الأولى، ولندن هي مركز الثقل بالنسبة للمبادلات التجارية والتحويلات المالية عالمياً، ولأن قاعدة النظام النقدي عالمياً هي الذهب، وبريطانيا لها نفوذ واسع ووجود فعلي في مناطق شاسعة من العالم، فكانت الخزينة البريطانية هي المستقر الرئيسي للعملات العالمية.

          وعلى أساس قاعدة الذهب، كانت العملات الرئيسية الحالية تقوَّم على النحو التالي:

          1 ـ  الجنيه الإسترليني: تم تحديد قيمته بوزن (7.988) غرام من الذهب بموجب قانون صدر بتاريخ 22/06/1816م وكان الإسترليني يحتل المرتبة الأولى بين عملات التجارة العالمية بنسبة 21٪ من إجمالي مدفوعات التجارة الدولية عام 1900م.

          2 ـ  الفرنك الفرنسي: تحددت قيمته بوزن (322.58) مللغرام ذهب بموجب قانون صدر بتاريخ 10/04/1802م وكان يحتل المرتبة الثانية بنسبة 8٪ من التجارة الدولية كانت تدفع بالفرنك سنة 1900م.

          3 ـ  المارك الألماني: تم تحديد قيمته بوزن (398.2) مللغرام ذهب، بموجب قانون صدر بتاريخ 09/08/1873م ولم يكن المارك يلعب دوراً مهماً في التجارة الدولية.

          4 ـ  الروبل الروسي: تحددت قيمته بوزن (744) مللغرام ذهب بموجب الأمر الإمبراطوري الصادر 1897م ولم يكن الروبل يلعب دوراً خارج حدود الإمبراطورية القيصرية.

          5 ـ  الدولار الأميركي: بعد تقلبات عديدة تحددت قيمته بوزن (1.5) غرام ذهب بموجب القانون الصادر بتاريخ 14/03/1900م والمعروف، باسم (مشاق المعيار الذهبي) ولم يكن الدولار يلعب أي دور على المستوى العالمي نظراً لعدم وجود مصرف مركزي (تأسس مصرف الاحتياط الفدرالي سنة 1913م).

          ولما بدأت محادثات (بريتون وودز) سنة 1944م كان يترأس الوفد البريطاني في المحادثات الخبير الاقتصادي الشهير (كينز) فاقترح أن يوضع نظام لإصدار النقد العالمي يكون مرتبطاً بلجنة دولية لها حق الإشراف على ثبات أسعار الصرف (اتحاد المدفوعات الدولي) لكن الوفد الأميركي أصر أن يكون حق الإشراف للبنك المركزي الفيدرالي. وقد تم ذلك، واستقر الدولار حينئذٍ ليكون هو النقد الوحيد الذي يصلح لأن يكون أداة التبديل بالذهب وبسعر (35) دولاراً للأونصة الواحدة من الذهب. أي أصبح العالم يعيش على نظام (قاعدة الصرف بالذهب) وهذه هي المرحلة الثانية من مراحل نظام النقد العالمي.

          وكانت الأرصدة الذهبية المكدسة في خزائن وبنوك الدول الأوروبية، قد رحلت في فترة الحرب الثانية إلى الخزائن والبنوك الأميركية بالأطنان، وأصبح الدولار الأميركي مغطىً بالذهب بنسبة أكثر من 100٪ وخرجت أوروبا من الحرب محطمة ومدمرة يعمها الشلل الاقتصادي والاضطراب المالي، حيث إنها وصلت إلى حد الصفر.

          فاستطاعت أميركا جراء ذلك كله أن تقوم بعملية بناء جديدة للعالم، سياسياً واقتصادياً وأمنياً وعسكرياً، بناءً يضمن لها السير في تنفيذ مخططها، وهو السيطرة على العالم بأسره وبسط نفوذها في سائر القارات، وبخاصة مناطق النفوذ التي تستعمرها بريطانيا وفرنسا.

          فأوجدت هيئة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، وأعطته الصلاحيات ما مكنها من أن تكون لها الوصاية الفعلية على دول العالم بما فيها دول أوروبا.

          لكن ظهور الاتحاد السوفيتي واقتطاعه لأوروبا الشرقية وعدم التسوية النهائية لقضايا العالم، وتصفية تركة الحرب، جعلت أميركا تعدل عن خطتها الأولى. فعملت على إيجاد حلف الأطلسي وبرز انقسام العالم إلى معسكرين: المعسكر الرأسمالي وتتزعمه أميركا، والمعسكر الاشتراكي وتتزعمه روسيا، فنجت أوروبا بذلك من براثن الاستعمار الأميركي، ولكنها بقيت في دائرة الهيمنة الأميركية، ولكن ديغول خلخل هذه الهيمنة وهذا النفوذ بتحديه لأميركا في كثير من المواقف السياسية والاقتصادية.

          وأما من الناحية العسكرية، فإن بروز معسكر بزعامة الاتحاد السوفيتي، قد دفع أميركا إلى بناء حلف الأطلسي كما قلنا ثم إلى بناء قواعد عسكرية تزيد عن ستمائة قاعدة موزعة في جميع أنحاء العالم، وأخذت تبني أسطولها البحري الحربي الذي كان يحوي أربع عشرة حاملة طائرات، وآلاف الغواصات التي تسير بالطاقة النووية، والتي تحمل صواريخ تستطيع إطلاقها من تحت الماء وكان لها الأسطول السادس في البحر المتوسط، والأسطول الخامس والسابع في الهندي والهادي، وهذان الأسطولان دمجتهما في أسطول واحد هو الأسطول الخامس، وأصبحت قاعدته الرئيسية في البحرين، وهذا الدمج كان إجراءً اقتضته الهيكلية الجديدة للعالم بعد تفتت الاتحاد السوفيتي.

          نعم لقد بدأ الاحتكاك الفعلي بين العملاقين أو المعسكرين في حرب كوريا سنة 1950م وكانت روسيا قبل ذلك قد رفضت إخراج قواتها من إيران، ولم تخرج إلا بقرار من مجلس الأمن الدولي. وتصفية الحرب كانت قد أعطت روسيا دول البلطيق الثلاث: لاتفيا واستوينا ولتوانيا، كما أخذت قسماً من الأراضي الألمانية، ثم أخذت جزيرة شالين وجزر كوريل من اليابان، واقتطعت معظم منشوريا.

          وحيث إنها توصلت إلى صناعة السلاح النووي، فقد كانت المواجهة الفعلية لا بد منها بين المعسكرين، وبدأت الحرب الباردة.

          ويستحسن بنا أن نأتي بنبذة عن أوروبا آنذاك فالحرب الباردة كانت عاملاً مباشراً لأن تبقى أوروبا تحت حماية خطة الحلف الأطلسي، وخاضعة للهيمنة الأميركية، وبخاصة بعد أن تأسس حلف (وارسو). ولكن لا ننسى أن ديغول ببنائه لفرنسا جديدة، ثم إيجاد السوق الأوروبية المشتركة، كانت هذه منه بداية التحدي لسياسة أميركا في أوروبا، كما أنه انسحب من حلف الأطلسي، ثم نادى فيما بعد بالرجوع إلى قاعدة الذهب.

          أما الموضوع الأهم في بحثنا هذا، فهو الهيكلية الاقتصادية الجديدة للعالم التي بنتها وثبتتها أميركا لتسيطر بها على العالم. فقد تمكنت من خلالها أن تفتح الأسواق أمام منتجاتها وصناعاتها، ويحط المستثمر الأميركي رحاله في أي بلد يشاء، مع توفر الحماية، وضمان التنقل في الدخول والخروج، دون عوائق. هذه الهيكلية هي اتفاقية بريتون وودز، وما تمخضت عنه من مؤسسات مالية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ثم أتبعتهما باتفاقية التجارة الدولية (الجات).

          ويقضينا البحث العودة إلى حقبة سابقة إلى الوراء، فقد عاش العالم أكثر من قرنين من الناحية النقدية والمالية على نظام قاعدة الذهب حتى سنة 1914م وطيلة تلك الفترة لم يكن هناك أية مشاكل اقتصادية، ولا أزمات مالية، ولم يحصل أي اضطراب نقدي، وكان الدولار كل هذه الحقب على هامش المعاملات المالية، أي لا يعدو كونه عملة محلية فقط.

          ويجدر بنا أن نعود إلى نقطة البناء التي انطلقت منها أميركا في امتلاك زمام المبادلات الاقتصادية في العالم وهي اتفاق بريتون وودز، حيث بدأ العالم يعيش على نظام نقدي دولي جديد يسمى: (قاعدة الصرف بالذهب) حيث تسنم الدولار قمة هيكلية الاقتصاد والمال، وأخذ الدور الفعلي ليكون وحدة للتبادلات التجارية والتحويلات المالية، وأصبح دور الذهب ثانوياً. وصار السند الحقيقي للدولار ثم الاقتصاد الأميركي هو صندوق النقد الدولي، ومن بعده مجموعة البنك الدولي، وكان لصندوق النقد الدولي صلاحيات حق التدخل في ميزانيات الدول الأعضاء، كما له حق الإشراف والمراقبة والمعالجة إذا لزم الأمر. وأصبح البنك الفدرالي الأميركي مركز الثقل، وازدهر الاقتصاد الأميركي إلى حد بعيد حتى أواخر الخمسينيات.

          ثم بدأت الانتكاسة، واعترى الدولار الأميركي أزمات كبيرة متتالية وانحدر رصيد الدولار من الذهب من 100٪ إلى أقل من 20٪ كما أصاب الاقتصاد الأميركي عجز كبير، وانخفاض في ميزان المدفوعات، وفي الميزان التجاري مع كثير من الدول. وقامت أميركا بعدة محاولات لإنقاذ الدولار ودعمه، فقد أوعزت إلى فروع البنوك الأميركية خارج الولايات المتحدة أن تنقل ما بحوزتها من دولارات إلى داخل الولايات المتحدة، كمحاولة للتخفيف من عمليات استبدال الدولار بالذهب، فكانت فرنسا في عهد ديغول تقوم بعمليات استبدال بالمليارات مرات عديدة، كما قامت بريطانيا بنفس العملية، من أجل تفريغ الخزائن الأميركية من الرصيد الذهبي، حتى سنة 1968م إذ وقع الدولار في أزمة كبيرة مستعصية مما اضطر الرئيس الأميركي نيكسون إصدار قراره بتاريخ 15/08/1971م والقاضي بإلغاء تبديل الدولار بالذهب، ووضع القيود على كل الصادرات الخارجية التي تدخل الولايات المتحدة بنسبة 10٪ حيث أدى ذلك الإجراء إلى موجة من الاحتجاجات عالمياً، وأقفلت البنوك أبوابها، كما توقفت المؤسسات المالية والبورصات العالمية عن العمل. ولكن هذا القرار ظل ساري المفعول، وانتقل العالم إلى مرحلة جديدة في نظامه النقدي وهي مرحلة هيمنة الدولار.

          ذلك أنه تم إلغاء الارتكاز إلى قاعدة الصرف بالذهب أو بعد الذهب عن الساحة المالية والاقتصادية، حتى أصبح سلعة كباقي السلع التجارية، واستقر الحال لأن يكون الدولار هو قاعدة النقد، وعلى أساسه تثبت أسعار الصرف، كل ذلك أصبح مرتبطاً بالدولار فقط بعيداً عن الذهب، وهكذا انتقل العالم إلى مرحلة جديدة في نظامه النقدي بفرض الدولار الأميركي قاعدة للنظام النقدي العالمي. وإذا تتبعنا النشرة المالية يومياً نرى مدى ارتكاز المعاملات والبورصات والمبادلات التجارية، وتقييم أسعار صرف العملات وارتباطها بالدولار. ويتبع ذلك أسعار النفط وأسعار الذهب في الأسواق الحرة.

          فما الذي جعل من الدولار قاعدة يرتكز عليها نظام النقد العالمي مجرداً من أي سند آخر؟ وما هي طبيعة هذه الإجراءات؟ ما هي أسرار التحول الجذري في سياسة المال والاقتصاد في العالم، تحولاً جلب إليها النكسات والأزمات المالية المتتالية؟

          إن الدولار لا يملك القوة الذاتية، أو الصفة الذاتية المسلحة لدى كل دوائر المال التي توجد في الذهب، كما أن الدولار، لم يكن له دور العراقة القديمة المتركزة جراء وجوده فعلاً في مناطق يختص بها، ويكون فيها صاحب الشأن الأول في المعاملات المالية والتجارية كمنطقة الإسترليني ومنطقة الفرنك وغيرهما. فلم يبق للدولار إلا أن تكون قوته الحالية ودوره العالمي أمراً سياسياً قد أقرته وفرضته وثبتته الهيمنة الأميركية، والتطلع والطموح والجشع الأميركي، جراء الموقف الدولي الجديد، والتغير الطارئ على سياسة صندوق النقد الدولي، وتحيزه الفاضح لصالح الدولار ولمصلحة الاقتصاد الأميركي، وعندما رأت أميركا نفسها هي المنفردة في العالم فجاءت بفكرة العولمة، وأحيت اتفاقية التجارة الدولية (الجات) وأخرجتها إلى حيز الوجود بعد مرور ثماني دورات على سيرها المتعثر، وفرضتها على العالم، وقد وقعها حتى الآن حوالي مائة وست وثلاثين دولة.

          فأصبح في يد أميركا عوامل مساعدة ومؤثرة لفرض سياستها السيادية على العالم، منها وأهما صندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة الدولية الحرة، ومضايقتها للاتحاد الأوروبي بواسطة حلف الأطلسي فتسنم الدولار قمة الاقتصاد وقمة المال، وهو بلا رصيد ولا سند إلا الهيمنة والغطرسة الأميركية فقط ومما هيأ لأميركا هذه الأرضية هو تفتت الاتحاد السوفيتي وهبوط روسيا عن مكانتها العالمية حتى عادت لا هي قيصرية ولا هي اشتراكية ولا هي مؤهلة للعيش على حربة السوق بما أنها تئن تحت وطأة مخزونها النووي الذي تريد التخلص منه كما تعاني من اضطرابات سياسية في داخلها.

          وقد عمدت أميركا إلى حلف الأطلسي وفعَّلته ووسَّعته، وأخذت تخلق لأوروبا المشاكل الداخلية، لتفرض هيمنتها على دول الاتحاد الأوروبي والسوق الأوروبية.

          ومن العوامل المساعدة لأميركا في الهيمنة على أوروبا، موقف بريطانيا من الاتحاد ومن السوق، فبريطانيا لا تريد للوحدة الأوروبية أن تكتمل خوفاً من هيمنة ألمانيا وفرنسا، ولا تريد للسوق الأوروبية أيضاً أن تكتمل، حرصاً منها على منطقة الإسترليني وبقايا النفوذ القديم حتى لا يذوب الإسترليني في ثنايا هيمنة اليورو، الذي أصبح الآن مؤهلاً لأن ينافس الدولار، وينازعه في مناطق كثيرة من العالم.

          ولكن أوروبا بعد هذا التبدل الظاهر في الهيكلية الدولية والتغير الجذري في الموقف الدولي، أخذت في العودة إلى ذاتيتها اقتصادياً وسياسياً، واستقلاليتها كمنظومة متميزة تشكل تكتلاً له معالمه الخاصة، ومقوماته الذاتية، مع امتلاكها لإمكانيات متعددة وعريقة تمكنها من المنافسة والوجود الفعلي في السوق العالمية، وما طرح اميركا للعولمة في العالم، وتفعيلها لاتفاقية التجارة الدولية، إلا لضرب التكتلات الاقتصادية، والمنظومات الدولية مالياً واقتصادياً مثل منظمة (آسيان) ومنظمة (أوابك) وعلى رأس هذه المنظمات الإقليمية السوق الأوروبية المشتركة، وهذه المنظومة مستهدفة أكثر من غيرها اقتصادياً بعد أن خلخلتها سياسياً بتفعيل حلف الأطلسي، والتدخلات في مشاكل البوسنة والهرسك ثم مشكلة كوسوفا.

          إن أوروبا السياسية: الاتحاد الأوروبي، وأوروبا الاقتصادية: السوق الأوروبية المشتركة لهي حقيقة قائمة وموجودة باقتصادها المتنامي المزدهر، وبوجودها القديم في العالم أي بقاياها الاستعمارية، بفرضها العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) وبإزالة كافة الحواجز الجمركية والقيود التجارية، والعوائق العمالية، مع فرض منح وإعانات للدول الأضعف نموّاً فيها، لشاهد على وحدتها وتماسكها، ووجودها في الميدان الاقتصادي أمام أميركا، ولكن كونها لا تملك القوة العسكرية التي تمتلكها أميركا ولا تملك النفوذ السياسي والتأثير المالي الذي تمتلكه أميركا جعلها لا تمتلك المجابهة والتصدي لأميركا إلا بنسبة ضئيلة جداً ومع كل هذا فإن سياسة أميركا تتعثر سواء في إفريقيا أو في الشرق الأوسط.

          إن أميركا عندما رأت من نفسها دولة قوية ومزدهرة ورأت ما عليه الدول الاستعمارية من نفوذ وسلب لمقدرات العالم وثروات الشعوب رأت أنها أولى بذلك منها، فوضعت في مخططها قبيل الحرب العالمية الثانية أن تعمل على ضرب هذه الدول: ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، ضربها مع روسيا ليسقط الجميع صرعى في ساح القتال، وبالتالي تفرض هيمنتها عليهم جميعاً ثم على العالم بأسره، وتزول الحواجز أمام رأس المال الأميركي، وتنفتح الأسواق العالمية بأسرها أمام المنتج الأميركي والشركات الأميركية.

          إن ما يظهر من مشاكل إقليمية أو ثورات محلية أو صراعات حدودية في مختلف مناطق العالم النامي، لهو خير شاهد ودليل على المحاولات الجادة التي تقوم بها أميركا لتفريغ الساحة العالمية من أي منافس أو مشارك لها ولشركاتها ولرؤوس أموالها، واستئثارها لخامات البترول من منابعها الأصلية، وضمانة السوق العالمي لشركاتها ومنتجاتها وصناعاتها.

          وأخيراً… هل ستبقى اميركا هكذا جامحة في غلوائها، وسادرة في غطرستها، فاغرة فاها لتبتلع العالم، وتلتهم خبراته، وتستأثر بثرواته وتستعبد دوله وشعوبه؟ إلى متى سيظل العالم هكذا؟ ودوله وشعوبه تتطلع إلى الخلاص والانعتاق من ربقة الاستعمار؟ أما آن للشعوب المتطلعة إلى السيادة أن تحطم القيود وتخترق الحدود والسدود؟

          إن العالم وقد أرهقته تدخلات صندوق النقد الدولي وهيمنة الدولار يبحث عن ملاذ يقيه من تسلط هذه المؤسسات المالية. إن العالم ينتظر ميلاد دولة مبدئية، ذات عقيدة صحيحة وتشريعات صادقة. إن الأمر يتطلب مواقف جدية، حازمة وتضحيات جسام لإحداث هزات سياسية، توجه بها ضربات موجعة أولاً ثم قاتلة فيما بعد لسياسة أميركا، ولشركات أميركا، ونفوذ وهيمنة أميركا، وللدولار الأميركي، ولا تكون تلكم الهزات إلا إذا تناولت ما يلي:

          1 ـ  أن يبدأ بضرب الدولار، والإطاحة به عن عرشه، وذلك بإعلان فرض نظام (قاعدة الذهب) عالمياً.

          2 ـ  أن يعمل على أن تكون أسواق العالم الثالث غير متاحة لصادرات أميركا وللشركات الأميركية، بل يجب أن تغلق أمامها.

          3 ـ  المعركة الحامية الدامية على منابع البترول، وتصفية الحساب مع الشركات البترولية على أي وجه كان، مع الإثارة ابتداءً.

          4 ـ  عدم الاعتراف بشرعية صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وكافة المؤسسات المالية كأسواق البورصات ونوادي المال، وغيرها، ثم فضحها وكشف مساوئها والتشهير بها وبيان خطورتها، وتفصيل الأدوار التي قامت بها في تسلطها على الدول النامية والضعيفة.

          5 ـ  تصفية رؤوس الأموال المستثمرة في بلاد المسلمين والمقايضة عليها بما انتهبته الدول المستعمرة من ثروات بلاد المسلمين وامتصت دماءهم واستعبدتهم وأذلتهم.

          6 ـ  إسقاط كافة الديون التي تغل أعناق الدول القائمة في العالم الإسلامي، وإلغاؤها نهائياً، والمطالبة بالفوائض التي دفعت (ربا) لجدولة تلك الديون والتي تزيد مئات الأضعاف عن الدين الأصلي، ولا ننسى أن مقدار الديون على العالم حتى سنة 1999م هي: (2 ترليون و180 مليار دولار).

          كما تتخذ الإجراءات التالية فوراً:

          أ ـ  إعلان النفير العام والتعبئة العامة، وانتقال الأمة بعناصرها القادرة على حمل السلاح إلى جيوش متحركة معبأة للقتال.

          ب ـ  تحويل كافة قطاعات الصناعة إلى الجهود الحربية من أسلحة وعتاد، استعداداً للجهاد. وتحضيرات للمواد التموينية للجيوش وللكافة من رعايا الدولة.

          ج ـ  تنحية الوسط السياسي عن الساحة، وحجز العملاء منهم وتصفية أصحاب السوابق والذين يخشى خطرهم.

          د ـ  إعلان حالة التقشف إذا لزم الأمر.

          هذه الهزات السياسية التي ترتج لها جوانب المعمورة تكون بمجرد إعلان دولة الخلافة، خلال مدة تثبت فيها على قدميها.

          وسوف ترى دولاً تهادنها، ودولاً تفتح لها أسواق السلاح والمواد الاستراتيجية، ودولاً تعقد معها اتفاقيات تجارية ذلك اليوم الذي ينزل فيه نصر الله، وينجز فيه وعده لعباده المؤمنين (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) (الروم).

          (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) (الأحزاب).

          فكونوا ممن صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وكونوا من المنتظرين فلن يخلف الله وعده، ولن يخذل جنده، وليمكنن لعباده دينهم الذي ارتضى لهم، وليظهرنه على الدين كله، وليستخلفنهم في الأرض ليأخذوا زمام القيادة وليقتعدوا مركز السيادة لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.

          والحمد لله رب العالمين .

فتحي سليم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *