العدد 87 -

السنة الثامنة صفر 1415هـ, تموز 1994م

أميركا وأزمة اليمن

بقلم: محمد موسى

لا يجد المتتبع للموقف الأميركي من أزمة اليمن عناء في التوصل إلى أن الولايات المتحدة كانت تقف وراء انفصال جنوب اليمن، وإلى أنها حرصت خلال الأزمة على تثبيت الانفصال، بالرغم من أنها أعلنت غير ذات مرة عن تأييدها للوحدة اليمنية.

لقد قام زعيم جنوب اليمن، علي سالم البيض، بزيارة للولايات المتحدة في صيف سنة 1993. وحتى إن لم يوضع الإصبع قبل تلك الزيارة على شواهد على تحوّله عن الإنجليز إلى الأميركان، فإن مجرّد الزيارة تضع علامة استفهام كبيرة. ذلك أن قادة اليمن الجنوبي دأبوا منذ استقلالهم على التحلّي بثوب الماركسية، والتطرف في ادعاء التحرر وفي مهاجمة «الإمبريالية» كما يقولون، وعملائها. لذلك فإن زيارة متزعم الثورة والتحرر لقلعة «الإمبريالية» يعني الشيء الكثير. ولكن ما قام به أثناء تواجده في الولايات المتحدة أعطى ضوءاً على واقعه يتجاوز علاقة الاستفهام الكبيرة. فقد ذكرت التقارير أنه لم يتوقف في تلك الزيارة عند حد اللقاء بمسؤولين أميركيين، وعلى رأسهم الـ غور، نائب الرئيس الأميركي، وإنما تعدى تلك اللقاءات السياسية فاجتمع بمسؤولين في المخابرات المركزية «سي آي إي».

وما أن عاد إلى عدن في 19/8 حتى بدأ البيض مسيرة فصل جنوب اليمن، ولم تفلح جميع لقاءات الحوار في ثنيه عن عزمه، إذ اتخذ منها كسباً للوقت ليجعل من الانفصال حقيقة واقعة. وبالفعل فقد أصبح الانفصال أمراً واقعاً في كل شيء إلا في الإسلام. وهذا يؤكد أن البيض قد عاد من أميركا وقد حمل قرار فصل جنوب اليمن..

ولما عمدت صنعاء إلى تصفية القوات الجنوبية المرابطة في عمران، حضر المبعوث الأميركي بلليترو يحمل مذكرة من وزارة الخارجية الأميركية تطلب من الرئيس علي عبد الله صالح الفصل بين قوات الشمال وقوات الجنوب. ولما قام الشمال بالهجوم الشامل على الجنوب طلبت الولايات المتحدة وقف القتال، والفصل بين القوات والعودة إلى الحوار. ويفهم من هذا من غير ما حاجة إلى أعمال فكر أن الفصل بين القوا سيكرس الانفصال. وأن الحوار مع من عقد العزم على الانفصال سيمنحه الوقت الكافي لجعل الانفصال حقيقة واقعه. ولم تتوقف الولايات المتحدة عند هذا الحد، فقد أعلنت أكثر مرة أنها تؤيد الوحدة ولكنّ…ها ترفض فرض الوحدة بالقوة. قالت هذا اتضح للقاصي والداني أنه لن تكون هناك وحدة إذا لم تفرضها القوة، ما يعني أنها لا تؤيد الوحدة وإنما تريد الانفصال.

ولما أحاطت القوات الشمالية بمدينة عدن وجعلت منها هدفاً لمدافعها وصواريخها، حذرت الولايات المتحدة حكام صنعاء من احتلال عدن وأعلنت أنها أخذت منهم وعداً بذلك، مما دفع صنعاء إلى النفي.

وكانت مواقف عملاء أميركا في غاية الوضوح، وهي ليست مواقف مستقلة لأن موقف التابع لا ينفك عن موقف المتبوع، بل وتكشف عنه. فقد دعا وزير خارجية مصر فور اندلاع القتال مجلس الجامعة العربية للانعقاد واتخاذ قرار بالفصل بين القوات، لكنه لم يجد دولة واحدة مستعدة لإرسال قوات إلى بلد محارب فيه ما يزيد عن خمسين مليون قطعة سلاح. وقدمت السعودية دعماً مادياً ومعنوياً للجنوب قبل اندلاع القتال وبعده. وقادت الدولتان حملة إقليمية وعالمية لوقف القتال والفصل بين القوات، وذهب الرئيس حسني مبارك بعيداً عندما حذر حكام صنعاء من أن دخول عدن سيعتبر احتلالاً. والتساؤل هو: إذا كان علي عبد الله صالح عميلاً للولايات المتحدة، وإن البيض بقي على عمالته لبريطانيا، وليس العكس، كيف يقدم عملاء أميركا على تثبيت الانفصال؟! بل وكيف يقدمون على ضرب مصلحة أميركية؟!! صحيح أن الإبقاء على اليمن مفككاً وضعيفاً مصلحة حيوية للسعودية، ولكن بدهيات العمالة تقضي بأن لا يقدم التابع مصلحته على مصلحة المتبوع، وتحرّم تحريماً جازماً قيام التابع بتحقيق مصلحة له على حساب مصلحة المتبوع أو ضربها. وهذا خط فاصل في العلاقات الدولية. وحقيقة الأمر أن مواقف الدول الاقليمية تكشف أن مواقع طرفي اليمن هي العكس تماماً. لذلك كان موقف الأردن واضحاً وصريحاً عندما التزمت وسائل إعلامه بوصف قوات الشمال بقوات الشرعية. لذلك لم يكن غريباً أن يهرع العطاس إلى واشنطن بعد سقوط الجنوب وفشل الانفصال ليتلقى التعليمات الجديدة.

ويبدو أنه قد استهجن أمران في الأزمة اليمنية:

أولهما: تحوّل زعماء اليمن الجنوبي الذي يعتبر من مواقع بريطانيا الحصيفة، عن بريطانيا إلى الولايات المتحدة. ولكن هذا الاستهجان يزول إذا تذكرنا أن قد سبق البيض على درب التحوّل سلَفاه. ولا تزال محاولة علي ناصر محمد الغدر، بأصحابه سنة 1968 بعد أن تحوّل لأميركا، ماثلة في الأذهان. وإذا كانت زمرة من الحزب الاشتراكي، مثل البيض والعطاس، قد تحوّلت، فإن زمرة أخرى قد بقيت على ولائها للإنجليز مثل الأمين العام المساعد للحزب سالم صالح محمد. وقد قام جناح البيض بتصفية العديد من الجناح الآخر وأنحى بالائمة على الشمال. ويبدو أن قدرة أميركا على الوصول إلى زعامات اليمن الجنوبي وشرائها قد أتت عن طريق تسخيرها مع السعودية لأصحاب بيوت المال الحضارم في السعودية ليكونوا أدوات اتصال، وهم كثر.

وثانيهما: هزيمة الولايات المتحدة وقد أصبحت في رأي الكثيرين القطب الأوحد والمتفرد المطلق في السياسة الدولية. فلا يتحرك متحرك على الحلبة الدولية، ولا يسكن ساكن إلا بأمرها أو بإذن منها، وكان بإمكانها أن تتجنب الهزيمة بإنزال قوت لها على أرض اليمن، أو أن توعز لمجلس الأمن ليتبنّى قراراً بإرسال قوات دولية تحت عَلَم الأمم المتحدة لحفظ السلام. والفصل بين القوات المتحاربة، وبالتالي تكريس الانفصال.

لا يتسع المجال هنا لمناقضة مقولة التفرد والتوحد، وتكفي الإشارة إلى السياسة الأميركية. لقد غدا واضحاً أن الولايات المتحدة قد فقدت منذ عقدين مقومات دور شرطي العالم فتخلّت عنه، وأنها لا تتطلع إلى إحيائه من جديد. وقد غدت الولايات المتحدة تتصرف حيال الأزمات بشكل انتقائي، فلا تضع كامل ثقلها إلا من أجل مصلحة حيوية أو مصلحة يعتمد على تحقيقها تحقيق مصلحة حيوية. فقد قال الرئيس كلينتون في كلمة متلفزة بعد قرار الانسحاب من الصومال «هناك أزمات تكون فيها المصالح الأميركية هامشية، وهذه تستدعي مشاركة أميركية هامشية». وقال في مقابلة مع صحيفة الواشنطن بوست «هناك من يفترض أ،ه قد غدا بمقدور الولايات المتحدة، وقد انتهت الحرب الباردة، أن تحل جميع المشاكل بمبادرات أميركية. ولكن ببساطة فإن من غير الممكن أن تصبح الولايات المتحدة حلاّل المشاكل المطلق».

أما عن دور الأمم المتحدة والتعاون الأميركي معها، فقد أصدر كلينتون المرسوم رقم 25 بعد الانسحاب من الصومال، يبين فيه رؤيته لدور الأمم المتحدة، ويبين قواعد التعاون معها. وجاء في المرسوم «أن الولايات المتحدة لا تساند إنشاء جيش دولي دائم، كما أنها لا تخصص وحدات أميركية للتدخل في عمليات تقررها الأمم المتحدة. ليس من سياسة الولايات المتحدة توسيع عمليات تقررها الأمم المتحدة أو مشاركة الولايات المتحدة في مثل هذه العمليات». وقد حدد المرسوم شروطاً قاسية يجب الوفاء بها قبل أن تفكر الولايات المتحدة بالمشاركة في عمليات حفظ السلام وهي: أن تكون هناك عملية عسكرية واضحة، وموافقة أطراف النـزاع المعنية، وتوفّر التمويل اللازم والقوات اللازمة، ووجود مخرج، وأن تشمل الأزمة على تهديد للأمن العالمي. ومن هنا فإنه لم يكن أمام إدارة كلينتون إلا القيام بالضغوط السياسية والتحذيرات وليس أكثر.

وقد أظهر الرئيس علي عبد الله صالح عنداً وتصميماً على الحسم العسكري عندما أمر بالهجوم الشامل على جنوب اليمن غداة مغادرة بلليترو لصنعاء، وعندما ترك وفد الجامعة العربية ينتظر خمسة أيام قبل أن يأذن له بمقابلته .

ملاحظة: هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها وحده ولا تعبر عن رأي «الوعي».       

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *