العدد 12 -

العـدد الثاني عشر – السـنـة الأولى – رمضان 1408هـ – أيار 1988م

محنة جعفر الصادق

الصبر على ظنون الحكام من المحن، واستدعاء الحكام للصابرين، للتحقيق معهم في هذه الظنون بجو إرهابي عنيف من المحن أيضاً، وإرسال عيون الدولة لمراقبة التصرفات، وإحصاء الأنفاس وإرصاد الكلمات من المحن كذلك. ثم أليس من المحنة أن يوصي الإنسان أهله قبل كل استدعاء. لأنه لا يعلم مصيره ولا ما يجري له خلال هذا الاستدعاء. لأنه استدعاء ليس للتكريم.

تلك هي محنة إمامنا الجليل جعفر الصادق رضي الله عنه مع أبي جعفر المنصور.

لقد حدّث الصادق آباؤه الأئمة الطيبون، حدّثوه عن خذلان الناس لجده أبي عبد الله الحسين ـ رضي الله عنه ـ في ساعة العسرة، كما حدّثوه عن الخيانة التي كانت سبباً بإنزال الفاجعة العظمى بأهل البيت، بيت النبوة والرسالة، تكل التي سوّدت وجه تاريخ الأمة الإسلامية، حيث قتل ابنُ دعيّها ابنَ نبيها… ولا حول ولا قوة إلا بالله.

كما رأى الصادق عمه الإمام زيداً، كيف كانت نهايته ونهاية أولاده، حين اعتمد على من اعتمد، فخانوا الإمام ونكثوا العهود، فحلّت النكبة وكانت المصيبة، حيث قتل الإمام زيد قتلة آثمة، ثم نبش قبره من بعد ما ووري عليه التراب، فصلب جثمانه الطاهر، وذبح أبناؤه البررة.

وقد مرت تلك الفاجعة ولكنها تركت ندوباً في نفس الإمام الصادق صفي زيد ورفيق صباه، وزادته بحال الشيعة في عصره، الذين كانوا يغرون ولا ينصرون ويتكلمون ولا يفعلون ـ يحرضون وعند الشديدة يفرون، وأن المغرور من يخدع بهم. (كما قال إمام الهدى عليّ كرّم الله وجهه في إخوان لهم قبل).

وكما قال الإمام السبط الحسين يوم فاجعته بالطف.

ثم رأي ـ رضي الله عنه ـ أخيراً فعل المنصور بأولاد عمومته الأخوين الكريمين محمد بن عبد الله بن الحسن وأخيه إبراهيم حين خرج الأول في المدينة والثاني في العراق على حكم أبي جعفر المنصور.

وشاهد بأم عينيه حوادث المحن. ووقائع المصائب، من مطاردة وملاحقة وتشريد وسجون ومصادرة أموال بأهل البيت النبوي الكريم حتى لم تنج من ذلك تلك الشيبة الطاهرة عميد هذا البيت الرفيع العماد عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط، فمات في السجن مكموماً سنة 145 عقيب هذا الخروج.

في هذا الجو الإرهابي الفظيع، عاش الإمام الصادق، فكان لا بد أن يصيبه شيء من ذيول ذلك الإرهاب العنيف ولو أنه وقف بعيداً عن ذلك الخروج. ولو أن المنصور كان يصانعه الود والاحترام.

فالمنصور كان يتوجس خيفة من الإمام الجليل، وهذه الهواجس تدفع إلى الشك أحياناً، وهناك من يجعل الشك عنده يقيناً بالتزوير والدسّ اللئيم. فكان يرسل عليه العيون والجواسيس، لإرصاد كلماته، التي كانت يلقيها في حلقة درسه، كما يرصد حركاته وتصرّفاته.

إلا أن هذه المراقبة الشديدة، التي كان المنصور فيها بارعاً، بحيث كانت تقع دون أن يشعر الإمام بثقلها، وإن كان يعلم بوجودها.

ولكن عندما تبلغ هذه الشكوك منزلة الظن الغالب على التصديق، التي كان يأتي بها رجال دائرة مباحثه، فإنه يستدعيه بغير تكريم، وهو ذلك الإمام الصابر على فواجع أهل بيته ونكبات بني عمومته.

حين حصل خروج الأخوين الكريمين، همس رجال المباحث في أذن المنصور أن الإمام الصادق، يؤيد خروجهما. بل هو من ورائهما، والحقيقة خلاف ذلك. فاستدعاه للتحقيق معه، وقد استعمل المنصور في هذا غلظة القول، وسلك سبيل الإساءة في هذا التحقيق، ولم يراع نور الهدى، وطيب الأرومة، ووقار الشيخوخة، التي بلغت السبعين، ولا حرمة القربى أو صلة الرحم أو مكانة العلم.

ومن ذلك مناقشته وتحقيقه حين كان في الكوفة بعد أن بلغ الصادق وصيته لأهله (قال المنصور: أنت يا جعفر ما تدع حسدك وبغيك وفسادك على أهل البيت من بني العباس، وما يزيدك الله بذلك إلا شدة حسد ونكد، وما تبلغ به ما تقدره).

فقال الإمام الصادق، والله يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئاً من ذلك: هذا ولقد كنت في ولاية بني أمية وأنت تعلم أنهم أعدى الخلق لنا ولكم، وأنهم لا حق لهم في هذا الأمر، فوا لله ما بغيت عليهم ولا بلغهم عني شيء مع جفائهم الذي كان لي، وكيف أصنع هذا الآن وأنت ابن عمي، وأمس الخلق بي رحماً، وأكثر عطاء وبراً، فكيف أفعل ذلك فاطرق المنصور ساعة.

ثم قال: يا جعفر ما تستحي مع هذه الشيبة ومع هذا النسب أن تنطق بالباطل وتشق عصى المسلمين؟ تريد أن تريق الدماء وتطرح الفتنة بين الرعية والأولياء؟

قال الصادق: لا والله يا أمير المؤمنين ما فعلتن ولا هذه كتبي ولا خطي ولا خاتمي ـ كان المنصور قد أخرج له كتباً إلى أهل خراسان تدعوهم إلى نقض البيعة.

فانتضى من السيف ذراعاً فما زال يعاقبه وجعفر يعتذر إليه، ثم أغمد السيف واطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال أظنك صادقاً).

هذه أجوبة الصادق برقتها وصدقها، وذاك كلام المنصور بخشونته وقسوته وكل منهما يعتز بسلطان يعتمد عليه.

فإمامنا الصادق يعتز بسلطان الله الذي لا يغلب كل سلطان ولو بعد حين.

والمنصور يعتز بسلطان الحكم وقوة الجند. وهو زائل ولو بعد حين وما أن انتهت مسالة الخروج خروج الأخوين الكريمين حتى استدعى المنصور الإمام جعفر من المدينة المنورة، مرة أخرى إلى بغداد.

فكتب إلى واليه وابن عمه داود بن علي أن يسير إليه جعفر بن محمد ولا يرخص له في التلوم (التمكث) والبقاء وكان القصد من ذلك، هو التحقيق معه في التهمة الموجه إليه بأنه يجمع الزكاة من جميع الآفاق وأنه مد بها محمد بن عبد الله بن الحسن فكان التحقيق التالي.

(المنصور: يا جعفر ما هذه الأموال التي يجبيها لك المعلى بن خنيس؟).

الصادق: معاذ الله من ذلك يا أمير المؤمنين.

المنصور: ألا تحلف على براءتك من ذلك بالطلاق والعتاق؟

الصادق: نعم أحلف بالله أنه ما كان شيء من ذلك.

المنصور: بل تحلف بالطلاق والعتاق.

الصادق: أما ترضى بيميني بالله الذي لا إله إلا هو.

المنصور: لا تتفقه عليّ؟

الصادق: وأين يذهب الفقه مني.

المنصور: دع عنك هذا فإني أجمع الساعة بينك وبين الرجل الذي رفع عليك هذا حتى يواجهك. فأنوه بالرجل وسألوه بحضرة جعفر فقال: نعم هذا صحيح. وهذا جعفر بن محمد الذي قلت فيه ما قلت.

الصادق: أتحلف أيها الرجل أن الذي رفعته صحيح؟

الرجل: نعم: ثم ابتدأ باليمين فقال: والله الذي لا إله إلا هو الطالب الغالب الحي القيوم.

الصادق: لا تعجل في يمينك فإنني استحلفك.

المنصور: ما أنكرت من هذا اليمين؟

الصادق: إن الله تعالى حي كريم يستحق من عبده إذا أثنى عليه أن يعاجله بالعقوبة لمدحه له ولكن قل أيها الرجل: أبرأ إلى الله من حوله وقوته وألجأ إلى حولي وقوتي لصادق بر فيما أقول.

المنصور: أحلف بما استحلف أبو عبد الله به.

(قال راوي هذا الخبر فحلق الرجل بهذه اليمين، فلم يستمم الكلام حتى خر ميتاً فراع المنصور وارتعدت فرائصه، وقال للصادق يا أبا عبد الله سر من عندي إلى حرم جدك إن اخترت ذلك، وإن اخترت المقام عندنا لم نأل في إكرامك وبرك، فوا لله لا قبلت قول أحد بعدها أبداً).

على هذه الأحوال المضطربة، والنفوس القلقة التي لا تعرف مصيرها المحتوم. وبهذه الظنون المريبة التي عقوبتها الإعدام، أو السجن المؤبد.

وتلك العيون المحدقة والأحاسيس المرهفة التي تحصي الأنفاس، وترصد الكلام:

وتلك التحقيقات التي تعدت هذا العدد الذي ذكرنها والتي أبى الحكام فيها أن يتركوا إمامنا العظيم، في هداءة العلم يعلم الناس الطيب من القول والمأثور من جوامع الكلام النبوي، وهو الإمام في فقه الكتاب والسنة.

كما لم يتركوه وشأنه، يسبح الله في محرابه، مناجياً بذكر الآخرة، ويدعو على أولئك الظالمين، الذين فتكوا بالعترة النبوية الطاهرة، وقطعوا أغصان الدوحة النبوية المحمدية، مات الصادق موتة الصديقين والشهداء، فعليه سلام الله ورضوانه في الخالدين) مات الإمام الصادق رضي الله عنه سنة 148 هـ وله من العمر 68 سنة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *