العدد 173 -

السنة الخامسة عشرة جمادى الآخرة 1422هـ – أيلول 2001م

الانتعاش الاقتصادي في ظل الإسـلام (2)

تحدثنا في الحلقة السابقة عن بعض الجوانب الإيجابية من ثمار العقيدة الإسلامية، والتي تؤثر بشكل مباشر في رفاه المجتمع المسلم عن طريق المحافظة على الثروة وعدم إضاعتها، وعن طريق زيادتها وتنميتها بالعمل، وعن طريق الحث على إيصالها إلى أكبر قدر مستطاع من أصحاب العوز والفقر، بالبذل والعطاء. وفي الحلقة هذه سنتحدث عن بعض الأحكام العملية المنبثقة من هذه العقيدة، ولها تأثير كذلك في رفاه المجتمع، وسدّ أبواب الخلل والفساد.

أولاً: الأحكام المتعلقة بالنقد:

النقد كما هو معروف في الأحكام الشرعيّة، هو الذهب والفضة، أي إن الأساس القائم عليه النظام النقدي في الإسلام هو الذهب والفضة، سواء أجعلت مباشرة نقداً، أم اتخذ غيرها من معادن أو أوراق نائبة عنهما، بحيث يمكن استبدالها بذهب وفضة في أي وقت، ودون أي عائق. ولا نريد أن نفصل كثيراً في طبيعة النقد وأحكامه، فقد ذكرنا ذلك مفصلاً عندما تحدثنا عن فساد الاقتصاد الغربي. أما كيف يصب هذا الأمر في دائرة الرفاه والانتعاش الاقتصادي في الدولة والمجتمع، فإن ذلك بحاجة إلى قليل من التفصيل.

فالذهب والفضة عندما تجعلان أساساً للنقد، فإن ذلك له عدة فوائد مردّها يصب في دائرة الرفاه منها: ثبات سعر الصرف في الأسواق، وذلك لأن قيمة الذهب والفضة هي في ذاتها، فهي سلعة كباقي السلع، وسعرها يميل إلى الثبات دائماً لا إلى التذبذب كباقي العملات التي لا تحمل قيمتها في ذاتها، وهذا معناه أن قيمة مجهودات الناس، وقيمة مدخراتهم تبقى دائماً محفوظة، وفي ازدياد مستمر، فلا تنخفض بسبب تذبذب أسعار الصرف، ولا تنقص الأجور التي يتقاضونها مقابل مجهوداتهم، ولا تسلب قيمة مدخراتهم من بين أيديهم، دون أن يملكوا مع ذلك دفعاً ولا رداً.

وهذا كله على عكس النظام الرأسمالي الذي يعتمد النظام الورقي الإلزامي، فهذا النظام معرض دائماً لتذبذب الأسعار كما هو مشاهد محسوس، ففي يوم تجد الدولار، أو الدينار مرتفعاً، ثم في اليوم التالي تجده منخفضاً، وهذا غالباً ما يكون نابعاً من تحكمات الدول صاحبة الغطاء النقدي إن كان التأثير عالمياً، أو يكون بفعل الدول نفسها إن كان بشكل داخلي محدود.

فدولة مثل الولايات المتحدة تلجأ إلى سد العجز في ميزان مدفوعاتها عن طريق التلاعب بالدولار وذلك بطباعة أوراق زائدة وطرحها في الأسواق، وبالتالي إلجاء الدول الأخرى وإجبارها على شراء هذا الفائض لتحافظ هذه الدول على عملاتها ومدّخراتها النقدية، وصناعاتها.

فقد كانت الولايات المتحدة وما زالت تلجأ إلى خفض قيمة الدولار عن طريق طرح كميات كبيرة منه في الأسواق وبالتالي تنخفض قيمته، فتضطر الدول مثل ألمانيا، واليابان، أو دول أوروبا إلى شراء هذا الفائض من السوق لتحافظ على غطاء عملاتها.

وكما يحصل في الدول الكبرى يحصل في الدول النامية، فتلجأ إلى خفض قيمة عملتها لسبب من الأسباب، إما أن يكون بسبب انخفاض في حجم الناتج العام، أو بسبب تراكمات ربا الديون، أو بسبب اقتراض أموال جديدة، أو بسبب نفقات جديدة تتكفلها الدولة (عجز في ميزان المدفوعات).

وهذا الخفض لقيمة العملة يؤدي إلى خراب اقتصادي كبير في المجتمع، إذ تُنهب قيمة مدخرات الناس وخاصّة إذا رافقها غلاء في الأسعار، وتنخفض قيمة الأجور، ولا يتشجّع الناس للإقبال على المشاريع ولا على الأعمال الاقتصادية المنتجة.

وهذا كله يؤدي بالمجتمع إلى التردي الاقتصادي، وإلى السلب والنهب على حساب الآخرين، وبالتالي إلى المشاكل الاقتصادية وضيق العيش.

على العكس من ذلك عندما يوجد نظام نقدي ثابت مستقر، فإن مجهودات الناس، ومدخراتهم وصناعاتهم ومشاريعهم دائماً في نموّ مستمر، لأن أي زيادة في حجم الاقتصاد العام ستؤدي إلى رفع قيمة النقد، وإلى انخفاض الأسعار، وليس إلى سلبها من أيدي الناس عن طريق التلاعب بالنقد.

وهذا يؤدي إلى وصول المال إلى أكبر قطاع من الناس بسبب ازدياد الثروة، وتوزيعها بشكل صحيح، وإلى إنشاء مشاريع جديدة.

أما بالنسبة لواردات الدولة فهي كذلك ستزداد بسبب ازدياد الروافد الاقتصادية وقوتها، فيؤدي ذلك إلى قوة الدولة الاقتصادية مما يمكنها ويساعدها في تصدّر مركز القيادة بين الدول، والتي غالباً ما يبدأ اقتصادها بالانحدار والتردي أمام النظام الصحيح في دولة الإسلام.

ثانياً: حرمة الربـا والكنـز:

الربا والكنـز هما من الأمور الخطيرة على اقتصاد الدول، وعلى مستوى العيش والرفاه لدى الأفراد، بل على اقتصاد العالم بشكل عام.

وخطر الربا آتٍ من عدة أمور أبرزها، أنه يوجد طبقة في المجتمع تعيش على دماء الناس دونما إنتاج، ولا مشاركة في اقتصاد المجتمع، فهذه الطبقة تضع أموالها في مؤسسات الربا، فيشغّلها عامّة الناس في الزراعة والصـناعة وغير ذلك، فتفرض هذه المؤسسات على المسـتثمرين في القطاعات المختلفة نصـيباً معلوماً من المال ـ اسمه شرعاً الربا ـ ولا يهمها أربحت هذه المشاريع أم خسرت، قدرت على السداد في الموعد المضروب أم لم تستطع، وقد تلجأ المؤسسات إذا عجز شخص عن السداد أن تحجز على مشروعه، وعلى الأموال التي رهنها للبنك مثل السيارة والبيت والأرض وحتى أثاث المنـزل.

والنظام الربوي كذلك يوجد طبقة من المتحكمين، سواء أكان من جهة المشاريع، أو من جهة الأسعار، أو من جهة القرار السياسي.

فمن جهة المشاريع، فالناظر في واقع المؤسسات الربوية يرى أنها لا تقرض إلا من يستطيع السداد أو من يوثق بقدرته الاقتصادية من أصحاب العقارات والأموال المنقولة وغير المنقولة، أما الفقراء أو أصحاب الطبقة الوسطى فهؤلاء لا تثق المؤسسات بقدرتهم على السداد، لذلك غالباً ما يقدم على المشاريع والصناعات أصحاب رؤوس المال ولا يقدم عليها الفقراء أو متوسطو الحال. وهذا معناه أن المشاريع تبقى حكراً على هؤلاء.

أما من جهة الأسعار والأجور، فإن الرأسمالي بسبب تحكمه بالمشاريع يستطيع أن يفرض السعر الذي يريد، وذلك لغياب المنافسة الكاملة في المجتمع، وغالباً ما تتفق الشركات الكبرى على المستهلكين، ولا تتدخل الدولة بسبب دفع هذه الشركات للضرائب.

أما التحكم في الأجور، فإنه آتٍ من التحكم بالمشاريع كذلك، فالعامل مضطر للعمل بالأجر الذي يفرضه صاحب المؤسسة وغالباً ما يلجأ العمال للثورة على أصحاب الصناعات والشركات لرفع مستوى أجرهم بسبب التحكمات.

ولا يقف الحد عند التحكم بالأفراد بل يتعداه إلى القرار السياسي على مستوى الدولة، لأن القضية عند الغرب هي قضية مادية وليست مبدئية، فمن يملك أكثر يستطيع أن يدفع أكثر، ومن يدفع أكثر يستطيع أن يجمع أصواتاً أكبر، وبالتالي يستطيع أن يصل إلى الفوز بالوصول إلى سدّة الحكم والتأثير في القرار السياسي، أما الفقراء فلا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً.

وخطر آخر لهذه المؤسسات، أنها توجد إحجاماً وإحباطاً عند الناس وذلك عند تفكيرهم بالاقتراض من هذه المؤسسات للمشاريع الإنتاجية، أما الإحجام، فإن المسلم الذي يعتقد بحرمة الربا لا يقترب من هذه المؤسسات انطلاقاً من وازع خوف الله تعالى الذي يحذر من الربا بقوله: ]وأحل الله البيع وحرم الربا[ (البقرة/ 275).

أما من لا يردعه الحرام، فإنه يصيبه الإحباط بسبب ما يراه وما يسمعه عن جرائم البنوك في المجتمع، وكيف تفعل بمن لا يقدرون على السداد.

وخطر رابع أنها، أي مؤسسات الربا، تجعل من الناس طبقتين، طبقة عالية ذات ثروات كبيرة تعيش بمستوى كبير من الرفاه، وطبقة هابطة بمثابة عبيد عند الطبقة تلك، ثم تجعل من الأقوى مسيطراً على الأصغر، حتى ينتهي الأمر في نهاية المطاف إلى حوت، أو حيتان معدودة في المجتمع تكون سيدة البحر تبتلع من تشاء من السمك الصغير، وتسيطر على من تشاء في الأسواق وفي الحياة.

أما على مستوى الدول الكبرى وما تفعله مع الدول الفقيرة، فإن تلك الدول المسماة عظمى، تجعل من الدول الفقيرة أو النامية مطية أو تبعاً لها بسبب تلك الديون المتراكمة، فلو نظرنا إلى الولايات المتحدة وسياساتها في دول العالم الثالث (كما تسمّى)، لرأينا أنها تلجأ لإقراض دول مقابل عمالات سياسية تقدمها لها.

أما خطر تلك القروض التي تأخذها الدول سواء بالاقتراض المباشر من الدول الكبرى، أو من صندوق النقد الدولي، فإنه خطر كبير، حيث تعمد تلك الدول إلى فرض شروط قاسية على الدول المقترضة مثل خفض قيمة عملتها، ورفع الأسعار، وخفض الأجور، والتقشف في الإنفاق وغير ذلك من تحكمات سياسية، وهذا بالتالي يؤدي إلى الدمار والخراب الاقتصادي لتلك الدول، وقد يؤدي في بعض الأحيان إلى اضطرابات قد تودي بأنظمة الحكم.

ففي الأردن حدثت اضطرابات خطيرة كادت أن تسقط النظام الحاكم سنة 89 وذلك بسبب آثار الاتفاق الذي جرى بين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبين مسؤولين في الأردن، حيث فرض على الأردن إجراءات تمثلت في رفع الأسعار، وسياسة تقشف عامة للنفقات، وذلك مقابل جدولة ديون الأردن البالغة 7 مليار دولار لمدة أطول بعد انقضاء المدة الأولى.

وفي المكسيك كمثال آخر لجأت الحكومة سنة 1994 إلى خفض قيمة (البيسو) مقابل الدولار بنسبة 13٪ ثم تعويمه، وجاء هذا القرار بناء على توصيات من صندوق النقد الدولي، ولم يمض شهران على هذا القرار حتى كان البيسو قد فقد حوالي 40٪ من قيمته مقابل الدولار وذلك نتيجة تدافع المستثمرين لبيع ما يملكونه من أسهم وسندات بالعملة المكسيكية، ولجوء العديد منهم لتحويل أموالهم للخارج، إضافة إلى لجوء الكثيرين لتحويل مدخراتهم إلى الدولار لضمان الحفاظ على قيمتها، وقد حاول البنك المركزي التدخل لإنقاذ الوضع، ولكن كل محاولاته باءت بالفشل بعد أن فقد نصف احتياطه، ولولا تدخل الولايات المتحدة في نهاية المطاف لحدثت كارثة اقتصادية في المكسيك، فقد قدمت لها 20 مليار دولار، وأقنعت صندوق النقد الدولي بتقديم 17.8 مليار دولار.

أما تأثير هذه الأزمة النقدية فقد كان كبيراً في اقتصاد تلك الدولة، وظهرت له آثار سيئة حيث ارتفع معدل التضخم من 7٪ إلى 34.8٪، وتدهور الناتج الإجمالي بنسبة 9.6٪ بعد أن كان في السنة السابقة إيجابياً بمعدل 3.5٪، وحتى بعد مرحلة الاستقرار النقدي دخلت المكسيك في مرحلة ركود اقتصادي، وظل العجز في الميزان التجاري 6.1 مليار دولار حتى سنة 2000.

ومن الأمثلة كذلك على مآسي صندوق النقد الدولي ما حدث لدول شرق آسيا، ففي دول شرق وجنوب شرق آسيا مثل تايلاند، ماليزيا، إندونيسيا،… وغيرها كان هناك تدفق للأموال من الخارج للاستثمار في أسواق تلك الدول، وخاصة الأسواق المالية، وهذا دفع المؤسسات المالية للتوسع في الإقراض معتمدة على هذه التدفقات الخارجية، إلا أن معظم الأموال المقترضة من هذه المؤسسات المالية قد اتجهت اتجاهات غير منتجة وخاصة للعقارات، فأدى إلى ارتفاع غير طبيعي في أسعارها في بداية الأمر، ولكن بعد تزايد العرض وقلّة الطلب عليها واجهت المستثمرين أزمة انعكست على المؤسسات المقرضة فأصبح عندها أزمة سيولة نتيجة الإقراض المفرط، وعدم السداد لها من قبل المستثمرين، وفي ظل هذا الوضع حصل فزع عند المستثمرين في أسواق المال فأخذوا يبيعون أسهمهم بالعملات المحلية ثم استبدالها بعد ذلك بالدولار، فأدى ذلك إلى انخفاض في قيمة العملات المحلية بشكل كبير، ففي تايلاند مثلاً انخفض (الباهت) حوالي 27٪ أمام الدولار وفقد البنك المركزي في محاولات لإنقاذه من التدهور حوالي 23 مليار دولار.

لقد أدت هذه الأزمات في دول شرق وجنوب آسيا إلى مشاكل اقتصادية خطيرة تمثلت في تدهور خطير في قيمة عملاتها المحلية، وفي احتياطاتها من العملات الصعبة، وإلى عجز في سداد التزاماتها المالية الخارجية، مما ألجأ هذه الدول إلى صندوق النقد الدولي وإلى شروطه القاسية المتمثلة في رفع الأسعار، وفي ترشيد الاستهلاك المحلي، وفي خفض الأجور، وإلى خفض النفقات في جميع المجالات، هذا عدا عن الربا المترتب على الديون والذي يبقي تلك الدول لفترات طويلة رهناً لهذه المؤسسات، ويبقي اقتصادها نهباً لربا القروض.

هذه بعض الأمثلة لمآسي المؤسسات الربوية الدولية، وهناك مآسٍ كثيرة يحتاج عرضها إلى بحث بذاته، مثل ما يجري في البرازيل أو دول أفريقيا، أو الدول العربية…

إن الناظر في أسباب هذه الأزمات، وهذه المشاكل الاقتصادية الخطرة، على الدول وعلى شعوبها يرى أن مردّ ذلك كله هو مشاكل النقد وارتباطه بغطاء غير ثابت، وليس له قيمة في ذاته، وخضوع هذا الغطاء لأهواء الدول العظمى، وكذلك راجع إلى النظم الربوية سواء أكان ذلك في أسواق المال والبورصات، أو في المؤسسات المقرضة (البنوك)، أو الشركات المساهمة.

وإن خلاص العالم من هذه المخاطر لا يكون إلا بالتخلص من نظام النقد السقيم المستند إلى الدولار الأميركي، والتخلص من مؤسسات الربا وما شابهها من أسواق القمار، وباعتماد نظام الذهب والفضة المستند إلى ذاته كغطاء أو كأساس لأي إصدار نقدي في العالم.

هذا ما يتعلق بمسألة الربا ومخاطرها أما مسألة الكنـز فسنتحدث عنها في الحلقة القادمة إن شاء الله .

[يتبع]

أبو المعتصم ـ بيت المقدس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *