العدد 170 -

السنة الخامسة عشرة ربيع الأول 1422هـ – حزيران 2001م

كيفية تحويل العملات الكاسدة إلى ذهبية وفضية في دولة الخلافة

          وصلت لـِ « الوعي» المقالة التالية حول تحويل العملات الحالية إلى ذهب وفضة عند قيام دولة الخلافة بإذن الله، وقد سبق لـِ « الوعي» أن نشرت مقالات حول الموضوع نفسه للإخوة القراء، ومن الجدير ذكره أن هذه المقالات بما تحويه من أفكار هي آراء لكاتبيها، وجزاهم الله خيراً على ما بذلوه من دراسة معمقة للموضوع واهتمام بالغ بهذا الأمر الحيوي المتعلق بالنقد في الإسلام.

          نسأل الله أن لا يكون ذلك اليوم بعيداً الذي يعلن فيه خليفةُ المسلمين الأحكامَ الشرعيةَ المتعلقة بالسياسة النقدية التي يتبناها حول اتخاذ الذهب والفضة نقداً للدولة وحول معالجة العملات المحلية الموجودة.

لقد عالجت الأحكام الشرعية المنبثقة من عقيدة الإسلام كافة أمور الإنسان العمليّة، المتعلقة بحياته معالجةً فريدةً، تحقق العدل والأمن والرفاه، والطمأنينة.

وهذا الأمر ـ تنظيم شؤون الإنسان ـ يلمسه المسلم في جميع الأحكام، سواء ما يتعلق منها بتنظيم علاقة الإنسان بربه عز وجل، في العبادات، أو بنفسه في المطعومات والملبوسات، أو بغيره من الناس في المعاملات.

والأحكام الشرعية المتعلقة بأمور المال هي من أحكام المعاملات، والتي تنظم شؤون الإنسان بغيره، مثل البيع، والهبة، والقرض، والصرف…، إلى غير ذلك من معاملات عملية.

ولقد عالج الإسلام تلك المعاملات المتعلقة بشؤون المال معالجة رائعة تبرز فيها عظمة هذا الدين، التي تدل على عظمة الخالق تبارك وتعالى، وتبرز كذلك الجهد الكبير الذي قام به فقهاء هذه الأمة ـ من السلف الصالح ـ في إبراز القضايا المالية التي تحصل بين الناس، وطريقة معالجتها، في حياتهم اليومية.

لكن المدقق في فتاوى واجتهادات علماء السلف، يرى أنها عالجت واقعاً موجوداً، وحوادث تحدث، أو متصورة الحدوث في أرض الواقع، فاجتهدوا مثلاً في ضرب النقود، والأحكام الشرعية المتعلقة بذلك من حيث الوزن، والنوع…، وفي تغير قيمة الفلوس ـ رخصاً أو غلاءً ـ وعلاقة ذلك بمعاملات الناس، وبحثوا في مسألة كساد النقود، وما يتعلق بذلك من أحكام كالدين، والعقود، وبحثوا في مسألة انقطاع النقد داخل الخلافة، والمعاملات الشرعية في كيفية مواجهة هذه المشكلة، وحلها، وإمضاء معاملات الناس.

إلا أن هؤلاء الفقهاء ـ رغم سعة اطلاعهم ودقته ـ لم يتصوروا أبداً غياب دولة الخلافة، ثم حلول نظام الكفر مكانها، ثم عودتها مرة أخرى إلى أرض الواقع. لذلك لم يضعوا أحكاماً شرعية تعالج هذا الواقع الجديد، ومنها الأحكام المتعلقة بشؤون المال، فلم يضعوا معالجة لكيفية تحويل العملات القديمة من عهد أنظمة الكفر، إلى عملات ذهبية وفضية.

لكن السؤال هنا هل تقف الأحكام الشرعية عاجزة عن معالجة هذه الوقائع الجديدة، أم أن الإسلام قادر على استنباط أحكام شرعية عملية لأي أمرٍ مستجد؟

الصحيح أن دين الإسلام بعظمة أحكامه، قادر على استنباط حكم شرعي عملي لأية مسألة تستجد عظمت أم صغرت، وهذا من ميزات هذا الدين التي امتاز بها على كل شرائع الأرض قاطبة.

والاجتهاد في مسألة النقد هذه من حيث غياب النقد الشرعي في ظل أنظمة الكفر، ثم إعادته مرة أخرى في ظل نظام الخلافة، ومعالجة ما عَلَقَ من مشكلات من نظام الكفر السابق؛ هذا الاجتهاد، لا بد فيه من تطبيق طريقة الاجتهاد الشرعية الصحيحة، في فهم الواقع فهماً صحيحاً، ووصفه وصفاً كاملاً دقيقاً غير منقوص، ثم النظر في الأدلة الشرعية التي تنطبق على هذا الواقع انطباقاً صحيحاً، مع بيانٍ لوجه الدلالة التي دلَّت على الحكم الشرعي، واستنباط الحكم الشرعي بناءً على ذلك.

أما بالنسبة للواقع المتصور وجوده عملياً، عند قيام دولة الخلافة (إن شاء الله) فهو: إعادة النقد الشرعي إلى واقع الحياة العمليّة، ومعالجة مشكلة العملات القديمة بين أيدي الناس. والمسألة بهذا الوصف هي بسيطة، لكن المشكلات التي تبرز في الناحية العملية تجعل البحث أوسع في معالجة عدة قضايا تعترض هذه المسألة، من هذه القضايا:

1 ـ  مسألة توفر الذهب والفضة في الأسواق بما يتناسب مع حجم التداول، أي توفر ما يلزم من ذهب وفضة للمصكوكات الجديدة.

2 ـ  معالجة ما يوجد في أيدي الناس من عملات كاسدة.

3 ـ  معالجة مسألة القيمة الشرائية (أو ما تسمى بالقيمة التبادلية) للذهب والفضة كنقود، مقارنة مع السلع والخدمات الأخرى.

هذه الأمور الثلاثة لها ارتباط مباشر بالواقع الذي يراد علاجه، وإذا لم توضع لها حلول ومعالجات فإنه يصعب تطبيق الحكم الشرعي المتعلق بالنقد.

فيجب أن توضع لهذه المشاكل حلول ومعالجات، آخذين بعين الاعتبار، الحرب الاقتصادية على دولة الإسلام من قبل أعداء الأمة، والعقبات المتوقع حدوثها نتيجة لذلك.

وقد يقال إن هذه المسائل تعالج كُلاًّ على حدة، منفصلة غير مجتمعة، لكن المدقق في هذه المسائل يرى أنها كلها ضمن حدود المسألة الواحدة (الأم) غير منفصلة عنها.

أما بالنسبة للقضية الأولى، وهي توفر الذهب والفضة في أيدي أولي الأمر، لضرب المصكوكات؛ فهذا الأمر لابد فيه من الاعتماد أولاً على ما هو موجود ضمن حدود الدولة، في خزينة الدولة، وفي أيدي الناس من التجار والصاغة، وعامّة الناس، وفيما هو موجود في باطن الأرض. وإذا لم تكفِ الكميّة الموجودة داخل حدود الدولة ـ وغالباً أنها لا تكفي ـ فإن الدولة تلجأ إلى الخارج.

ومسألة الاعتماد على ما في أيدي الناس من حلي وسبائك؛ فهذا الأمر لابد فيه من تفهيم الناس ضرورة ذلك أولاً، ثم ضمان حق الناس مقابل ما أخذ منهم، إما عن طريق عقارات، أو أراض من أملاك الدولة، أو عن طريق سندات تحفظ حقهم لحين توفر الذهب والفضة، أو الثروات الزائدة في بيت مال المسلمين مستقبلاً.

ولا بد للدولة أن تبحث في باطن الأرض عن الذهب والفضة، فلا تخلو منطقة في العالم من عيون الذهب والفضة على تفاوت في الكمية، وبما أن المسألة ليست تجارية، بل مصيريّة، فلا تبالي الدولة إن كانت الكمية قليلة أو كثيرة أثناء عملية البحث والتنقيب.

أما موضوع اللجوء إلى الخارج في حال عدم توفر اللازم لضرب النقد، فإن الدولة في الحالة الطبيعية ـ أي في حالة عدم فرض حصار تجاري ـ تبادل ما عندها من سلع بالذهب والفضة، أو بعملة صعبة يمكن بها شراء الذهب والفضة من السوق العالمي؛ أما إذا فرض الحصار التجاري فهنا تلجأ الدولة إلى عملية الالتفاف على هذا الحصار عن طريق حدودها مع الدول، وذلك عن طريق التجار، إي عن طريق إغراء التجار من الدول المجاورة للمجازفة والتهريب من دولهم، أو عن طريق بعض الدول المجاورة بطريق سرّي، وبشكل مغرٍ، فالنظام الرأسمالي يبقى عنده طمعُ المنافعِ والمصالحِ حتى في أي ظرف.

وهذه العملية ـ عملية فرض النظام الشرعي في النقد ـ أرى أنها تمر في مرحلة انتقالية قصيرة؛ أي حتى يتم صك النقود، وجمع ما يلزم للمصكوكات، ولا مانع من الاعتماد على ما هو موجود بين أيدي الناس من عملات كمرحلة انتقالية لازمة، وضرورية لتهيئة الأمور من ناحية عملية وفنية، وليس معنى ذلك إقرار بالحكم الخاطئ الفاسد في مسألة النقود، ولكنها ضرورة تقدّر بقدرها حتى يتم التمكن من الأمر الشرعي بشكله الصحيح، مع الأخذ بعين الاعتبار أقصى سرعة في ذلك. وبعد عملية إنجاز هذا العمل ـ توفر المصكوكات ـ يباشر رأساً بإنزال النقد إلى السوق، ليكون هو أداة التبادل، وأداة تقدير الجهود وغير ذلك من أمور تتعلق بالمعاملات.

وهنا ـ أي عند إنزال النقد الشرعي إلى السوق ـ لابد من معالجة القضيتين الأخريين، وهما.

أ ـ  القيمة الشرائية أو ما تسمّى (بالقيمة التبادليّة) للذهب والفضة مع السلع الأخرى.

ب ـ  ما يوجد في أيدي الناس من عملات محلية كالدينتار الأردني، أو الليرة السورية، أو الجنيه المصري.

أما بالنسبة للأمر الأول: فإن الأصل الشرعي أنه يترك للسوق تحديد الأسعار للسلع والخدمات، وهذا الأمر يتحكم فيه العرض والطلب، وحاجة الناس… وغير ذلك.

ولكن الذهب والفضة فوق كونهما سلعتين كأي سلعة من السلع، فهما نقد، أي بهما تُقوَّم السلع والخدمات، والميزان في ذلك ليس مسألة عرض، وطلب، أو كثرة عرض، وقلة طلب أو بالعكس كما هو في السلع والخدمات. بل إن ميزان الذهب والفضة كنقود مربوط بالوضع الاقتصادي العام للدولة، ففي حال الانتعاش الاقتصادي للدولة، أي: زيادة السلع والثروات داخل حدود الدولة، فإنه تلقائياً ترتفع القيمة الشرائية للنقد، وترتفع كذلك الأجور بالنسبة للعمال، ويكون هذا الأمر أكثر بزيادة كمية الذهب والفضة في السوق، لأنها تعتبر سلعة في ذاتها كباقي السلع.

فمثلاً لو كان الدينار الذهبي يساوي مائة كيلو غرام من البرّ، ثم ازدادت ثروة البلاد من البرّ فإن قيمة الدينار الذهبي الشرائية تزداد، وقد تتضاعف، وهذا معناه أن أجرة العامل قد ارتفعت تلقائياً، لأنه قد ارتفع ما لديه من ذهب وفضة (أي من أجره).

أما في حالة تضاعف كمية الذهب والفضة ـ كنقود ـ في حدود الدولة، فإنه يعني أنه قد تضاعفت الثروة، أي السلع لأن النقد فوق كونه أداة تبادل، هو سلعة كأي سلعة أخرى، وزيادتها تعني انتعاش اقتصادي للدولة، والأصل في هذه الحالة أن ترتفع قيمة الدينار الذهبي الشرائية، لا أن تنخفض، وفي نفس الوقت ترتفع قيمة الأجور، والزيادة في كمية الذهب والفضة في الدولة، في نفس الوقت الذي تزداد فيه السلع والثروات الأخرى، يعني ذلك انتعاشاً اقتصادياً كبيراً، فتزداد مدخرات الدولة من الذهب والفضة، وبالتالي تزيد المشاريع في الدولة، وتنفق في شتى الميادين، وكذلك ترتفع أجرة الجند، وموظفي الدولة الآخرين، ويصدق حديث الرسول صلى الله عليه وسلم      الذي وصف به خليفة المسلمين بأنه “يحثو المال حثياً ولا يعده عداً” ولا نبالغ إذا قلنا إن المسلم قد يمر على الذهب في الشارع ولا يلتفت إليه.

ولكن المسألة في بداية الأمر أي في بداية قيام الدولة الإسلامية، تحتاج إلى شيء من الرعاية، ولا علاقة للأمر بمسألة تحديد سعر السلعة.

فالدولة عندما قامت، قطعت عهداً قديماً فاسداً بكل ما فيه من مآسٍ اقتصادية، وفرضت واقعاً جديداً. وتَرْكُ الأمر في البداية دون تدخل الدولة في وضع قيمة تبادلية للدينار، مقابل السلع والخدمات، قد يحدث بعض البلبلة، أو الفوضى في صفوف الناس، والذي أراه، أنه لا بد من تدخل الدولة في هذه المرحلة الحرجة الحساسة، لتحدد قيمة الدينار التبادلية، مقابل السلع والخدمات الموجودة، والطريقة التي أراها شرعيّة هو عدم إعطاء الدينار أكثر من قيمته السوقية، أي قيمة وزنه من الذهب والفضة، فمثلاً وزن الدينار 4.25 غرام من الذهب الخالص، وهذه كانت تساوي قبل قيام الدولة بيوم كذا وكذا مقارنة بسلع حيويّة، فتقدر الدولة ذلك في بداية الأمر للناس، ثم تترك بعد ذلك الأمور لتسير في نصابها الصحيح.

وقد يقال هنا، إن الرسول صلى الله عليه وسلم     ، لم يضع سعراً للنقد الذهبي والفضي، وإنما ترك ذلك للسوق، فهذا القول صحيح، وهو الأصل (أن الدولة لا تسعّر)، ولكن الفارق بين الواقعين، أن الرسول عليه السلام قد جاء إلى مكة وكانت الدنانير والدراهم موجودة وجرى بها التعامل، وكانت أداة تقدير السلع والجهود، وأقر الرسول ما كان موجوداً، فلم يحدث أمراً جديداً، أما الواقع الجديد عند قيام الدولة، فإنه واقع لا توجد فيه عملة ذهبية ولا فضية، وترك الأمر للسوق ـ كما قلت ـ في بداية الأمر قد يحدث نوعاً من البلبلة عند الناس، وعدم القدرة على التقدير، لأن هذا الميزان يحتاج إلى فترة حتى يصبح في شكله الطبيعي، وهذا الأمر ـ تحديد الدولة لقيمة الدينار ـ هو من باب الرعاية، وليس تسعيراً.

أما القول بأنه يُفرض للذهب سعر عالٍ ليغطي حجم التبادلات التجارية الموجودة داخل الدولة، كأن يكون الدينار مثلاً، يساوي مائة كيلو غرام من البرّ، فتفرض له الدولة سعراً مضاعفاً لتوازن بين ما هو موجود من ذهب وفضة كأداة تبادل، وبين ما هو موجود من سلع وخدمات، فإني أقول أن هذا الرأي يوقع الدولة في متاعب كثيرة، فوق أنه غير شرعي، لأن قيمة الذهب والفضة يحددها السوق، بعد الاستقرار النقدي داخل الدولة، فلو أصبح الدينار بعد الاستقرار مائة ضعف من حيث قوته الشرائية، فلا مانع، ولا يحدث ذلك خللاً، لأنه يكون بشكل متوازن، مع حجم الاقتصاد في الدولة.

ومن المشاكل التي يجرها هذا الأمر:

أولاً:  عمليات التهريب للخارج، نتيجة الفارق الكبير بين سلع الدولة، وبين السلع خارج الدولة، وكذلك إدخال الذهب من الخارج عن طريق التهريب أيضاً.

ثانياً:  يحدث خلل في قيمة مدخرات الناس، فمن كان يملك الذهب والفضة، ترتفع قيمة موجوداته كثيراً، ومن كان يملك العقارات فإن قيمة موجوداته تنخفض بشكل كبير.

ثالثاً:  يصعب على الدولة عملية استبدال العملات المحلية بالذهب والفضة، حسب القيمة الجديدة لهذه العملات مقارنة مع الذهب والفضة.

فلابد للدولة في بداية الأمر من السير في طريقة ضرب عملتها ـ من حيث القيمة التبادلية ـ على ما هو موجود من سعر محلي مربوط مع السعر العالمي للذهب والفضة، ثم بعد ذلك، يخضع هذا الأمر للميزان من حيث قوة الاقتصاد، وضعفه، ومن حيث زيادة كمية النقد وقلتها.

هذا باختصار شديد، ما يتعلق بعملية ضرب النقد الشرعي في دولة الخلافة، أما ما يتعلق بالعملات المحلية الكاسدة، وطريقة معالجة هذا الأمر، فإني أرى أن الطريقة التي اجتهد فيها الأخ في العدد (145) من هذه المجلة، أقرب إلى الصواب مما ذكره صاحب الرأي في العدد (162).

وقد ذهب الأخ صاحب الرأي الأول إلى استبدال ما هو موجود من عملات كاسدة بذهبية وفضية، وإعطاء سندات في ذلك، حتى يتم استبدال هذه السندات في حال توفر الذهب والفضة في خزينة الدولة.

وقد وجدت لهذا الرأي دليلاً شرعياً من القياس. فقد ذكر فقهاء الأحناف، أنه في حال انقطاع النقد فإنه تجب القيمة في المعاملات المالية، قال ابن عابدين في حاشيته: “إذا انقطعت ـ أي النقود ـ بأن لا توجد في الأسواق، ولو وجدت في يد الصيارفة، أو في البيوت، تجب القيمة هنا في آخر يوم الانقطاع وهو المختار”، وقال في تنبيه الرقود: “وإن انقطع بحيث لا يقدر عليه، فعليه قيمتها ـ أي في الدين والعقود ـ في آخر يوم انقطع، من الذهب والفضة، وهو المختار”.

وهناك تشابه كبير بين الواقعين، بين انقطاع النقد، أو كساده، وبين ذهاب الدولة التي كانت تسند النقد، وذهاب قيمته النقدية بين الناس، فالثاني هو بمثابة الانقطاع والكساد، أي لا قيمة له، والعلة التي تجمع الواقعين، هو ذهاب قيمة النقد لسبب عارض، وتعلق معاملات الناس السابقة به.

أما ما ذكره الأخ الكريم في العدد (165): “أنه لا مانع شرعاً من أن تفقد العملة المحلية جزءاً من قيمتها في الفترة الانتقالية عند التحويل”، ثم ذكر في كيفية التحويل: “أن الدولة ستستبدل هذه العملات بعملات ذهبية وفضية، وأن التحويل سيتم حسب القيمة الفعلية لهذه النقود، أي حسب ما يوجد من رصيد ذهبي وفضي في خزائن الدولة”.

والذي أرى، أن هذا الرأي لا يسلّم به شرعاً من عدة وجوه، الأول: هناك فرق بين القيمة الفعلية للنقد، أو القيمة الاقتصادية، وبين القيمة الذاتية.

فالقيمة الذاتية للنقد غير موجودة حقيقة إلا في الذهب والفضة، أو ما يشبهها من حيث أن له قيمة عالمية في ذاته، كالنحاس أو البلاتين… أو غير ذلك، وحتى من ذهب إلى اعتبار الأوراق النائبة عن الذهب والفضة، اشترط استبدال هذه الأوراق في أي وقت ودون عراقيل، وهذا معناه وجود الاستعداد الكامل لذلك، أي وجود من وضع هذه الأوراق النائبة، أي وجود الدولة واستمراريتها.

أما القيمة الفعلية للعملات من غير الذهب والفضة، فهذا يكون بوجود الغطاء الاقتصادي لذلك، فكلما كان الغطاء أكبر، كانت قيمة هذه العملات أقوى، فالدولار الأميركي على سبيل المثال، له غطاء اقتصادي عن طريق دعمه عالمياً من عدة دول اقتصادية عظمى، وهذا بالتالي يعطيه قوة اقتصادية، وثقة.

فليس ما يوجد في خزينة الدولة من ذهب وفضة فقط هو الغطاء، أو الرصيد، أو ما يعطي العملة قيمة فعلية، فقد يكون الرصيد سلع وخدمات عند الدولة، أو بترول، أو غير ذلك، فهذا أيضاً يعطي العملة قيمة فعلية أكبر.

لذلك عندما نضع تقييماً للعملات الكاسدة لا ننظر فقط إلى الرصيد الذهبي والفضي فقط، بل ننظر إلى الثروات الأخرى، فقد يكون في خزائن الدولة ثروات لها قيمة في ذاتها من غير الذهب والفضة.

والحقيقة أن ما يوجد بين أيدي الناس من عملات محلية، قد جرى تقييم سلعهم، وخدماتهم به، والأصل أن تكون هذه العملات مساوية لذلك، ولكن الذي حصل، أن الدولة كانت تنهب مجهودات الناس وسلعهم، وطاقاتهم عن طريق ما تطبعه من عملات، ليس لها رصيد اقتصادي، لا من سلع، ولا من ذهب، ولا فضة، ولا غيره، وكان هذا يسبب تضخماً في داخل البلد، بسبب أن الدولة كانت تشتري بهذه الأموال سلعاً من الخارج، ليس لها غطاء في الداخل.

وبالإضافة إلى سرقة طاقات الناس عن هذه الطريق، كانت تقترض من الخارج، وتسجل ذلك على كاهل الناس، فتنخفض العملة مرة أخرى، وترتفع أسعار السلع والخدمات.

لذلك نقول بأن قسماً ليس قليلاً من قيمة عملات الناس التي بين أيديهم قد سلبت. ومع هذا فإني أرى أن تعامل هذه العملات حسبما كانت قيمتها مقارنة بالسلع والخدمات، حتى وإن كانت الآن كاسدة.

فهذه العملات كانت لها قيمة ثمنية، أي بها كانت تقدر السلع والخدمات، وهكذا حازها الناس وكذلك كانت تنطبق عليها الأحكام الشرعية من حيث الزكاة، والكنز، وغير ذلك، إضافة إلى ما ذكرنا من قياس شرعي على العملة المنقطعة أو الكاسدة، وتعلق حقوق العباد بها، في الدين، والقرض، والهبة… وغير ذلك.

ولا يوجد تحميل ثقيل لكاهل الدولة بهذا العمل، لأنه كما قلت يوجد قسم من قيمة هذه العملات الفعلية، وسرق قسم آخر، والدولة تفعل هذا الأمر ـ الاستبدال ـ على المدى البعيد حسبما هو متوفر من ثروة، وضمن طاقاتها، آخذة بعين الاعتبار معالجة القضايا المصيرية للأمة حسب الأولى فالأولى.

هذا من جهة ومن جهة ثانية، فإن على الدولة أن تستعمل سياسة حكيمة للتعامل مع هذه القضية، وهذا أيضاً من باب الرعاية، فليس من السهل أن تقول للناس قد ذهبت قيمة ثرواتكم بذهاب الدولة التي كانت قائمة، ولا يستبعد عند ذلك أن يقول قسم من الناس نريد رجوع الواقع الأول، أو تجد من الأيدي من تحاول استغلال ذلك. فهذا الأمر بحاجة إلى رعاية فائقة ونظرة متفحصة، وإلى إفهام الأمة كل خطوة من خطوات العمل.

على كل حال هذا ما أراه بالنسبة لهذا الموضوع، والحقيقة أن الموضوع بحاجة إلى دراسة أكبر وتعمق أكثر، وإلى بحث مستفيض ممن له القدرة على ذلك، لتدرس كل المسائل وتعطى لها الاجتهادات الصحيحة.

وقبل أن أنهي هذا البحث المختصر أريد أن أنوه إلى قضيتين، الأولى: أن تطبيق الأحكام الشرعية المتعلقة بأمور الاقتصاد، قد تعترضه بعض المشاكل التي تدبر من أعداء الأمة، مثل محاولة تحطيم اقتصاد المسلمين في حال انفتاح التجارة الخارجية على العالم، وخاصة لنهب ثروة الدولة من الحاجات الأساسية، أو محاولة سحب الذهب والفضة، وقد تفرض الدول العدوّة للإسلام حصاراً تجارياً شاملاً على دولة الخلافة، وهذا الأمر يحتاج بالإضافة إلى حسن التأتي في تطبيق الأحكام، إلى دراية وحنكة سياسية، ويحتاج إلى سياسة اقتصادية داخلية واسعة تشمل الإنتاج وزيادته، وتشمل الاستهلاك وطريقة توزيع السلع والخدمات بالشكل المثالي، الذي يضمن الاستمرارية والصمود، ويحتاج لذلك سياسة صارمة لمراقبة الأمور الحيوية للدولة، من حيث مراقبة التجارة الخارجية، والحدود، وفرض نظام صارم كذلك من العقوبات ضد من يتجاوز حدود المحظور.

القضية الثانية: وهي مسألة رعاية شؤون الناس الاقتصادية بالمبدأ. فالرعاية في الناحية الاقتصادية ليست فقط في النقود، وفي كيفية تحويلها، وإنما على الدولة، وعلى الأمة، في بداية الأمر واجب أكبر من ذلك، وهو الثبات على الحق أمام الأزمات ومعالجتها المعالجة الشرعية، فالرسول صلى الله عليه وسلم واجه أمراً اقتصادياً في المدينة عند قيام الدولة، تمثل بقلة العمل، وخاصة للمهاجرين، وقلة الثروة في أيديهم، ففرض نظاماً من المؤاخاة في بداية هجرته للمدينة، وهذا من الأحكام في الرعاية الاقتصادية.

والدولة في بداية قيامها قد تضطر لفرض سياسات عدة لتستمر في بقائها وخاصة عند إعلان الحرب العسكرية والاقتصادية عليها، مثل المؤاخاة أو ما يشبهها من أحكام شرعية مناسبة حتى ينتهي الحصار وتفرض كذلك سياسة تقشف عامة لمجابهة مسألة النقص في السلع والخدمات، لأنه قد لا تكفي موجودات الدولة من السلع الضرورية إذا ترك المجال أمام الناس لينفقوا كما يشاؤون، وقد تفرض تقنين لبعض السلع والخدمات، وخاصة الحيوية والضرورية منها، وكل ذلك يكون حسب الحال الموجود.

وأخيراً أقول: إن كل هذه العقبات الاقتصادية بأشكالها لن تطول، وفي نفس الوقت لا تحول دون تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي.

أما أنها لا تطول، فبمجرد توحد الأقطار الإسلامية، بما فيها من ثروات وإمكانات هائلة فإن قيمة نقد الدولة ستصبح قيمة عالية، وستصبح الأجور مرتفعة، وسيكون هناك انتعاش اقتصادي ليس له مثيل في الأرض، وستصبح الدولة الأولى في كل شيء؛ في العلم والصناعة والاختراع والابتكار…

أما كونها لا تحول دون تطبيق الإسلام، فهذا متوقف على إيمان الأمة؛ فالأمة التي تريد العزة والرفعة والكرامة، والشرف الرفيع، في الدنيا، ومرضاة الله في الدار الآخرة، لا تقف أمامها جميع قوى الكفر عند تطبيق حكم شرعي في الاقتصاد أو في الحكم أو في غيره، بل إنها تطبقه حتى ولو كانت ما كانت، أو لاقت ما لاقت في سبيل ذلك، والأمر إنما هو صبر ساعة ثم يفرج الله عن الأمة ويؤيدها، ويأخذ بيدها.

وإن هذا الأمر يهيئ له الباري تعالى أسباب النجاح في الاستمرارية تماماً كما هيأ له أسباب النجاح عند قيامه.

وستجد بإذن الله من المجتهدين، ومن الخبراء الاقتصاديين بالآلاف بين صفوف الأمة القادرين على وضع الحلول لكل مشكلة تعترض سبيل المسلمين.

قال تعالى: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون) نسأل الله سبحانه أن يهيئ أسباب النصر، وأن يأخذ بيد حملة الدعوة لإقامة هذا الفرض الكبير “الخلافة الراشدة على منهاج النبوة” وأن يهيئ لهذه الأمة قيادة راشدة كأبي بكر، وعمر، وعثمان وعلي، يشفي بهم صدورنا وصدور قوم مؤمنين. اللهم اجعل ذلك قريباً إنك سميع مجيب.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

أبو المعتصم ـ بيت المقدس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *