العدد 306-307-308 -

العدد 306-307-308 ، السنة السابعة والعشرون، رجب وشعبان ورمضان 1433هـ

دور الجيوش في التغيير

دور الجيوش في التغيير

 

حسن إسماعيل

طلب النصرة من أهل القوة والمنعة ومنهم الجيوش ثابت في النصوص الشرعية. هذا الطلب مشروط بإسلام من يطلب منهم النصرة، وكذلك فإن هذا الطلب يسبقه قيام الكتلة التي تتبنى أفكار الإسلام وتدعو إليه بأعمال حددها الشارع وتتمثل في تثقيف أفرادها بثقافة الإسلام بشكل مركز، وقيامها بدور التفاعل على أكمل وجه، وذلك بالدخول في صراع فكري مع الأفكار الباطلة والفاسدة وبيان زيفها، وبالمقابل إبراز أفكار الإسلام العظيمة وإظهار علوها وهيمنتها عليها، ويتخلل هذا الدور تبني الدعوة لمصالح الأمة وكشف خطط الاستعمار وعملائه.

 

يهدف حملة الدعوة عند قيامهم بأعمال دور التثقيف والتفاعل إلى إفهام الأمة مبدأها ولتتخذ قضية تطبيق أحكام الإسلام واستئناف الحياة الإسلامية في العلاقات قضية مصيرية. ولكن إذا تبين للدعوة أن القوى المناهضة لها قوية وكبيرة وتستقوي بالكافر المستعمر كما هو حاصل اليوم كان لا بد من اللجوء إلى طلب النصرة من أبناء الأمة الذين تكمن فيهم القوة والمنعة تأسياً بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أدرك أن إحداث اختراق في المجتمع المكي أمر صعب فأخذ يعمل على دعوة القبائل والمجتمعات الأخرى طالباً نصرتها ليبلغ عن ربه، فقد توجه الرسول عليه الصلاة والسلام للطائف يلتمس نصرة ثقيف ولكنهم ردوه وأغروا أشقيائهم واعتدوا على الرسول عليه الصلاة والسلام، وكذلك طلب النصرة من بني عامر بن صعصعة فقد دعاهم إلى الله وقالوا له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء قال: فقالوا له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه.

فالرسول عليه الصلاة والسلام رفض أخذ النصرة من قبيلة بني عامر لأنها مشروطة بأن يؤول الحكم إليهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسوغوا لذلك بأنهم سيكونون عرضة للقتل والاستهداف من العرب عندما ينصرونه عليه الصلاة والسلام.

واستمر عليه الصلاة والسلام في الدعوة وطلب النصرة حتى قيض له نفر الخير من أهل المدينة، وتمت بيعة العقبة الأولى، ثم تلتها بيعة العقبة الثانية (بيعة الحرب). قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة “إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري: يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس”.

أقام الرسول عليه الصلاة والسلام دولته في المدينة كنتيجة لإعطاء النصرة من أهل القوة والمنعة فيها له، بالإضافة إلى أعمال الدعوة التي قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم ومصعب بن عمير (رضي الله عنه).

إن أعمال البطش والتنكيل التي تقوم بها الأنظمة الحاكمة بالكفر ضد حملة الدعوة وأبناء الأمة بشكل عام ليست بحد ذاتها المسوغ الوحيد الذي يدعو إلى طلب النصرة ولكن هذه الأعمال تمثل مؤشراً لحملة الدعوة بأن هذه الأنظمة والقوى المرتبطة بها قد حزمت أمرها وقررت محاربة الإسلام بشكل مكشوف بعد إخفاقها في مواجهة أفكار الإسلام التي يتبناها أبناء الأمة.

لا تكتفي الأنظمة الحاكمة وهي تحارب أبناء الأمة بأعمال القمع التي تنفذها أجهزتها الأمنية والجاسوسية، بل تستعين بشكل خفي بقوى داخلية تتمثل في بعض المفكرين والأحزاب والحركات الملوثة بأفكار الكفر، وكذلك فإنها تستعين بشبكات من المجموعات التي ترى أن مصلحتها تكمن في الإبقاء على هذه الأنظمة التي سهلت لها أعمالها الاقتصادية عن طريق منحها امتيازات بشكل غير مشروع.

أثبتت الوقائع تاريخياً وحالياً بأن المنظومات التجسسية والقمعية التي يسمونها أجهزة أمنية والتي قد تكون على شكل قوات شبه عسكرية أنها تكون قوية بعض الشيء في الأحوال العادية عندما تكون الأمة ساكتة على التجاوزات والموبقات التي ترتكبها هذه الأنظمة، ولكن في حالة التصدي لها فان هذه المنظومات تضعف، وهذا راجع للطبيعة المعقدة لها نسبياً وبسبب سريتها والأدوار المشينة التي تقوم بها، وكل هذا يجعل الترابط بين أفرادها وبين الأفراد وقياداتهم ضعيفة، وقد يحصل الانهيار بشكل حاد ومذهل، والشواهد على ذلك كثيرة، مثل تخلي الأجهزة الأمنية ومنها قوات الأمن المركزي في مصر عن النظام، وكذلك حدث نفس الشيء في تونس.

 نجح حملة الدعوة إلى حد كبير في كشف المفكرين والحركات والأحزاب التي تتعارض مع برنامج الأمة والذي تطلّب تضحيات وجهوداً كثيرة، وكذلك نجحوا في كشف جرائم الأنظمة ومنها الاستعانة بأجهزة سرية وقمعية للعمل ضد مصالح الأمة، وارتباط هؤلاء الحكام بالاستعمار، وأنهم حجر عثرة ويشكلون حائلاً دون قيام دولة الإسلام.

نجاح الدعوة هذا ونظرتها لجنود وضباط جيوش الأقطار الإسلامية بأنهم أبناء هذه الأمة، وأن الأمل معقود عليهم، وهم العنوان الصحيح لطلب النصرة وفق الرؤيا الصحيحة للأحكام الشرعية المتعلقة بذلك، جعلَ الأنظمة تراجع نظرتها وتعيد حساباتها، وبدأ مكر الليل والنهار حيث إنَّ مهمة الأنظمة أصبحت أكثر تعقيداً. فالأمر لا يتعلق بإجراءات تحول دون حدوث انقلاب عسكري من جنس النظام مرتبط بنفس العمالة، أو بانقلاب مدعوم من دولة استعمارية أخرى في إطار الصراعات الدولية.

والذي يسبب المزيد من الإرباك لهذه الأنظمة بأنَّ طبيعة الجيوش وتركيباتها وتشكيلاتها لا يمكن من الناحية الفعلية أن تكون هيكلتها مشابهة لهيكلة أجهزة التجسس السرية.

تفتفت أذهان المخططين والراعين لهذه الأنظمة القيام بإجراءات تهدف -حسب تقديرهم- للاستعانة بهذه الجيوش في المواجهة مع الأمة، أو على الأقل ضمان أن لا تصطف هذه الجيوش مع أبناء الأمة ضدهم.

وأهم هذه الإجراءات تتمثل فيما يلي:

أولاً: بث الدعاية في صفوف الجنود والضباط بأنَّ الأنظمة لا تعادي الإسلام، وأنَّ دساتيرها تنص على أنَّ الإسلام هو دين الدولة الرسمي، وأنَّه أحد مصادر التشريع ويساعدها في ذلك بث المرشدين الدينيين في بعض الجيوش.

ثانياً: نشر المفاهيم الخاطئة التي يعمل على ترويجها بعض العلماء والحركات والتي تقول بأنَّ حكام الأنظمة هم أولياء أمر وطاعتهم واجبة.

ثالثاً: العمل على تعميق مفاهيم طاعة الأوامر العسكرية بغض النظر عن موافقتها أو تعارضها مع الشرع، والإيحاء للجنود والضباط أنّهم بتنفيذهم للأوامر فهم غير مؤاخذين شرعاً في كل الأحوال.

رابعاً: نشر الدعاية بأنّ حكام هذه الأنظمة هم وطنيون، وأنَّ السياسات التي يتبعونها تصب في صالح الوطن، وأنه يصعب على الجنود والضباط لكونهم عسكريين أن يدركوا مغزى هذه السياسات. فهم على سبيل المثال يرّوجون بأن محاربتهم للمجاهدين في باكستان وأفغانستان وتعاونهم مع أميركا والدول الاستعمارية هو مشاركة في الحرب على الإرهاب، وهم يخدمون بذلك بلادهم ولا يخدمون الغرب كما يزعمون.

خامساً: رفع رواتب وعلاوات وزيادة الامتيازات لكبار الضباط والقادة لضمان استمرار ولائهم للأنظمة.

سادساً: بث الأجهزة التجسسية في صفوف الجنود تحت مسميات المخابرات والأمن العسكري، وإرسال التقارير عنهم، والعمل على ترقية الضباط غير المنضبطين بالأحكام الشرعية، والعمل على تسريع إحالة الضباط الذي لا يؤمن ولائهم على التقاعد.

سابعاً: توزيع الأفراد على التشكيلات العسكرية بشكل يُصعِّب ثورة وحدات معينة عليهم، ويكون التوزيع وفق اعتبارات طائفية أو مناطقية أو عشائرية، فعلى سبيل المثال تعيين وزير دفاع نصراني في سوريا، وجعل كبار الضباط في الجيش السوري من الطائفة النُصيرية “العَلوية”.

ثامناً: وضع المعسكرات بعيداً عن التجمعات السكانية وفي أحيان كثيرة تكون مخازن الأسلحة والذخائر بعيد عن متناول أيدي الجنود.

تاسعاً: نشر المفاهيم الخاطئة بأنّه لا يجوز للجنود أن يتدخلوا في السياسة، وأنَّ شرفهم العسكري يملي عليهم ذلك، وأنَّ مهمتهم تنحصر بالدفاع عن الوطن؛ وذلك بتصوير أنّ السياسة مرتبطة بالدجل والأكاذيب والألاعيب.

عاشراً: الإيحاء للجنود والضباط بأنَّ النظام هو صمّام الأمان الذي يمنع استئثار طائفة أو مذهب أو قومية بالحكم في حالة انهياره، علماً أنَّ الأنظمة هي التي تُذكي هذه التخوّفات.

حادي عشر: جعل الجنود والضباط يعقدون مقارنات بين أنظمة بلدانهم وأنظمة بلدان أكثر إجراماً، مثل تباكي حكام الخليج على أهل سوريا ومن قبل على أهل ليبيا لكي يحصل الرضى والقبول بحكامهم.

ثاني عشر: تستغل الأنظمة ارتباطات بعض رموز ما يسمى بالمعارضة التي قد تصل إلى العمالة فتشهّر بهم للبرهنة على وطنية الأنظمة، وللإيحاء للجنود بأن البدائل للنظام أكثر سوءاً.

ثالث عشر: ربط بعض قادة وضباط الجيوش بالأنظمة بشكل محكم، وقد تكون لهم عمالات مباشرة مع الدول الأجنبية.

وبناء على ما سبق يتبين أن الأنظمة تعمل جاهدة لكي تكون الجيوش أداة بيدها في حربها على أبناء الأمة؛ ولذلك كان من المحتم على حملة الدعوة أن يزيدوا من وتيرة التحدي ويدخلوا في صراع فكري من نوع خاص مع هذه الأنظمة محلّه الجيوش .

ولكي يتم النجاح المؤزر بإذن الله في صراع الإرادات بين الأمة والأنظمة، كان على أبناء الأمة ومنهم حملة الدعوة، وهم يعملون على كسب الجيوش لتصطف معهم، التنبه لبعض الأمور والقيام بأعمال تضمن هذا النجاح.

 وهذا يتمثل بما يلي:

أولاً: التيقن بأن طلب النصرة من أهل القوة والمنعة ومنهم الجيوش والعمل على انحيازهم لأمتهم من أعمال الطريقة وليس من الأساليب، ويجب الاستمرار بهذا العمل حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

ثانياً: إن أفراد الجيوش لا ينتمون فقط لأمتهم من الناحية العقائدية وهي الناحية الأهم، بل هم أبناؤها من ناحية النسب، وهؤلاء الجنود والضباط مرتبطون بعائلاتهم وأهاليهم.

ثالثاً: الاستمرار في أعمال الدعوة والتوعية والتثقيف، فكلما زاد وعي الأمة زاد وعي أبنائها من أفراد القوات المسلحة، فهم ليسوا منعزلين عن أهاليهم.

رابعاً: عدم الانزلاق للفخاخ التي تنصبها الأنظمة للأمة بتحويل المعركة لكي تصبح بين الأمة وأبنائها الجنود عن طريق القيام بأعمال القمع والقتل التي تنفذها، والتي قد تشارك فيها وحدات عسكرية من الجيوش وتنسبها للجيوش بصفتها جيوشاً، وذلك كما نجح النظام الجزائري في إحداث مقتلة في الجزائر بعد إلغاء نتائج الانتخابات التي فازت فيها جبهة الإنقاذ، أو كالتي يحاول تكرار ذلك النموذج النظام السوري الآن.

خامساً: تطبيق الأحكام الشرعية المتعلقة بالدفاع عن النفس عندما توجه هذه الأنظمة أجهزتها وعصاباتها، والتي قد تحتوي على أفراد من الجنود المكرهين أو المضللين، والعمل على عدم القيام بمهاجمة قطعات الجيش غير المتورطة في أعمال القمع فهذا حرام.

سادساً : الالتزام بالأحكام الشرعية أثناء الصراع مع هذه الأنظمة سيؤثر حتماً بشكل إيجابي لصالح الأمة، حيث إن مفاهيم الإسلام متأصلة في عقول ونفوس الجنود. كذلك فإن النفس البشرية بشكل عام تنفر من الظلم ولا تميل إلى الشر. فعلى سبيل المثال هدد الأحابيش وهم يمثلون قوة عسكرية مهمة في مكة بعدم القتال إذا تم منع الرسول صلى الله عليه وسلم من دخول مكة بالقوة، وهذا ساهم في عقد صلح الحديبية الذي تضمن أن يعود الرسول عليه الصلاة والسلام على أن يعتمر في العام التالي. وهذا ما حصل في عمرة القضاء في السنة السابعة للهجرة التي كان لها التأثير الكبير في نفوس أهل مكة مما سهل فتحها في السنة الثامنة للهجرة.

فهذا ما حصل من الأحابيش الذي هم ليسوا محلاً لطلب النصرة؛ لكونهم غير مسلمين في تلك الفترة، فكيف بنا أن لا نلتفت لأبنائنا الضباط والجنود الذي يمثلون العنوان الصحيح لطلب النصرة؟.

سابعاً: الرد على ادعاءات الأنظمة بأنها الحامية للطوائف التي لا تعتنق الإسلام بأن الدولة الإسلامية هي دولة لكل رعاياها، وأن المحاسبة لمن يساندون هذه الأنظمة ويقومون بأعمال إجرامية ضد الأمة سيكون على أساس فردي لمن تورط بهذه الجرائم.

ثامناً: ضرب المفاهيم الخاطئة بأن الجيوش لا تتدخل بالسياسة. وأن مهمتها تقتصر على حماية الأوطان وما إلى ذلك من مفاهيم مغلوطة. وذلك بالتأكيد أن الجنود والضباط من أبناء الأمة، ويهمهم ما يهمها، والمحاسبة واجبة عليهم, فقد كان الصحابة يحاسبون بدون أن يتعارض ذلك مع كونهم جنوداً في الجيش الإسلامي. وهو مأمورون بإنكار المنكرات الذي قد يصل إلى قتال الحكام المنتخبين شرعاً إذا ما أظهروا الكفر البواح.

صحيح أنه في ظل دولة الإسلام فإن الخليفة بصفته القائد الفعلي لجميع القطعات العسكرية هو الذي يرسم السياسة الحربية، ويقتصر دور العسكريين على إبداء المشورة والنصح، فهذا لا يعني أن العسكريين مستثنين من فرضية وجوب المحاسبة.

تاسعاً: العمل على تعميق الفجوة بين كبار قادة الجيوش الذين يصرون على البقاء في صف الأنظمة وبين باقي القادة والضباط والجنود، وجعل الجنود ينقادون إلى ضباطهم المخلصين وبالتالي يتم انحيازهم لأمتهم.

عاشراً: تسعى الأنظمة إلى كسب ولاء الضباط عن طريق المال وأساليب المكر قبل الانتقال إلى مرحلة السيف، وعلاج ذلك يكون بتذكير الضباط بتقوى الله، وأن الدنيا لا تغني عن الآخرة، وأن الامتيازات التي تمنحها الأنظمة لهم هدفها الانتقاص من دينهم.

وللتدليل على أنه يجب العمل على كسب الجيوش لتقف مع أبناء الأمة ضد الحكام المغتصبين للسلطة الموالين لأعداء الله ما حدث ويحدث في زمن الثورات القائمة في بعض الأقطار العربية حالياً.

ففي تونس اعتمد نظام ابن علي ومن قبله بورقيبة على أجهزة قمع بوليسية تفوق في عددها قوات الجيش، وكان يرى أنها كافية للمحافظة على النظام. عندما قامت الثورة في تونس وجد النظام أن أجهزة التجسس والقمع لم تفِ بالمطلوب، فحاول الاستعانة بالجيش الذي يرى نفسه أنه حامٍ لأهل وأرض تونس، فكانت المفاجأة للنظام برفض الجيش للأوامر مما اضطر رأس النظام وبعض رموزه إلى الهرب ومغادرة تونس.

أصبحت تونس تدار بواسطة شراكة من حركات تسمي نفسها إسلامية وأخرى علمانية، وظل نظام الكفر مطبقاً، واستمر الارتباط بالأجنبي، ويساعدهم في ذلك المفاهيم الخاطئة المغروسة في نفوس أفراد الجيش التونسي أنهم لا يتدخلون في السياسة.

كذلك في مصر، فعندما قامت الثورة وتزايدت أعداد المحتشدين في ميدان التحرير وفي مدن مصر الأخرى، استعان النظام بقوات شرطية شبه عسكرية (قوات الأمن المركزي) والتي يقدر عددها بعدة مئات من الآلاف، والمهيَّأة من ناحية التثقيف على البطش بالناس، إلا أنها انهارت وبدا عليها التمرد السلبي، فلم يتجاوبوا مع النظام، وأخذ أفرادها يتركون وحداتهم.

عندها لجأ النظام إلى الاستعانة بوحدات الجيش بشكل خبيث من باب أن الجيش مقبول عند أهل مصر أكثر من قوات الأمن المركزي، ولأن معظم شباب مصر قد خدموا في الجيش، ومن باب آخر إيهام الجيش بأن ما يحدث من مظاهرات ضد النظام يستهدف مصر، فلم تنطلِ هذه الحيل على أفراد الجيش المصري، وعندما أدرك النظام أن الجيش لن يطلق النار على المتظاهرين، وبعد محاولة أفراد من الجيش قتل نائبه عمر سليمان تنازل مرغماً عن السلطة وسلم الحكم إلى مجلس عسكري على رأسه المشير حسين طنطاوي.

يعمل المجلس العسكري مستعيناً بحركات المعارضة ومنها حركات إسلامية على الالتفاف على مطالب أهل مصر بغية تسويق دستور كفر لا يختلف كثيراً عن الدستور السابق، ويعمل للإبقاء على هيمنة الكفار خصوصاً أميركا على مصر وأهلها ومقدراتها.

فالجيش المصري ساهم في إزالة رأس النظام وبعض رموزه، وهو قادر على إحداث التغيير الجذري بإقامة الخلافة، لكنه لم يفعل بسبب التضليل وعمليات الالتفاف الشيطانية من قبل العملاء الفكريين والسياسيين في مصر.

أما في ليبيا، فان نظام معمر القذافي الذي جاء إلى الحكم بانقلاب عسكري ضد حكم إدريس السنوسي في الأول من شهر أيلول سنة 1969م، كان يدرك الخطورة التي تكمن في الجيش على نظامه المعادي لأهل ليبيا وعقيدتهم، فجعل الجيش يتكون من كتائب أمنية لا ترابط بينها، وجعل على رؤوس هذه الكتائب أولاده والموالين له. وعندما قامت الثورة انحاز بعض أفراد هذه الكتائب وخصوصاً في بنغازي، وتم تنفيذ إعدامات بالجملة للجنود الذين رفضوا إطلاق النار على أهلهم. ومع استمرار الثورة والبطش العنيف الذي قامت به كتائب القذافي الأمنية التي ظلت متماسكة إلى حد بعيد، وجد الكفار وعلى رأسهم أميركا والاتحاد الأوروبي الفرصة للتدخل عن طريق مجلس الأمن، فبدأت الحملة الجوية على ليبيا، وألجئ الثوار للاستعانة بالقوات الأجنبية. وبعد القضاء على القذافي أسندت الدول الغربية الحكم إلى مجلس انتقالي يرأسه صالح عبد الجليل الذي كان وزيراً للعدل في عهد القذافي.

أما في اليمن، فقد استمرت الثورة فترة ليست بالقصيرة، وكانت سلمية بامتياز، مما أغاظ علي عبد الله صالح وأولاده وأولاد عمه، فقاموا بمهاجمة المتظاهرين في اليمن بواسطة قوات الحرس الجمهوري الموالية للنظام والتي يقودها ابنه.

حدثت انشقاقات في الجيش اليمني، وحصلت اشتباكات بين القوات الموالية والوحدات المنشقة على نطاق ضيق. قدم أهل اليمن تضحيات كبيرة، وأقنعت الدول الغربية علي عبد الله صالح بترك الحكم والتنازل لنائبه وتقاسم الحزب الحاكم كعكة السلطة مع قوى المعارضة الشكلية التي باعت دماء أهلنا في اليمن بثمن بخس، وظل النظام على ولائه للغرب وشريكاً له بالحرب على الإسلام فيما يسمونه زوراً وبهتاناً الحرب على الإرهاب.

أما في البحرين، فقد تم قمع المتظاهرين، وتم الاستعانة بقوات من مجلس التعاون الخليجي، وهذا يدل على أن النظام البحريني لم يكن مطمئناً إلى ولاء القوة العسكرية البحرينية. أما في سوريا، ذات النظام المركب من شبكة من الأجهزة الأمنية القمعية التجسسية، فإن النظام فيها قد تعامل مع الثورة من البداية بشكل دموي وإجرامي ومتلازم مع سلسلة من الأكاذيب. استعان النظام بوحدات معينة من الجيش خصوصاً الفرقة الرابعة ذات الصبغة الطائفية والتي يقودها أخو رأس النظام ماهر الأسد، مضافاً إليها أجهزة الاستخبارات لقتل وإرهاب الناس حيث قصفت درعا وحمص وإدلب بالمدفعية، واجتاحتها مستعينة بأجهزة النظام السرية، وأطلقت النار على الجنود السورين الذين رفضوا إطلاق النار على إخوانهم، ويقول السوريون إن المقابر الجماعية التي تحوي رفات جنود سوريبن هم الذين تم إعدامهم وقتلهم على أيدي النظام. والملاحظ أن ألوية الفرقة الرابعة قد أنهكت بسبب تنقلها الدائم من مكان لآخر في سوريا، ويلاحظ أن النظام لم يرسل قوات تقتصر على الجيش فقط إلى أي مكان في سوريا، بل كان يدمج دائماً بين قوات موالية للجيش مع وحدات المخابرات والشبّيحة، وهو يحرص بكل ما أوتي من قوة على قتل الجنود والضباط المنشقين.

والخلاصة: إن أبناءنا من الجنود والضباط هم أغلى من عيوننا. والأمل معقود بنواصيهم، وهم ذخر للأمة التي لا يمكن إلا أن ينحازوا لها. فمن استعراض ما حدث ويحدث في مصر وتونس والبحرين واليمن وليبيا وسوريا يظهر أن جيوش الأمة بصفتها جيوشاً ليست عدوة للأمة، وإن استطاع هذا النظام أو ذاك أن يوظّف بعض وحداتها في قمع الثائرين في تلك البلدان، مستعيناً بأساليب المكر والمال والسيف والتخويف لأبناء الطوائف التي تعيش في بلاد المسلمين من أن الأنظمة هي التي تحمي هذه الطوائف من المسلمين.

يجب على حملة الدعوة الاستمرار وبدون كلل في العمل على توعية الأمة على أن العدو الحقيقي لها هو الكافر المستعمر، وأن جنود الجيوش هم أبناء هذه الأمة. فكلما ازداد وعي الأمة ازداد وعي جنودها وضباطها، ويقتضي ذلك كشف خطط الأوساط السياسية ومنها المحسوبة على الإسلام التي تخلت عن شعاراتها وتسعى جاهدة لسرقة الثورات بتصوير أن الإسلام لا يتعارض مع الديمقراطية، وأن أقصى ما تسعى إليه هو إحداث تنمية وفق النموذج التركي، كما لو أن الإسلام قاصر عن معالجة الناحية الاقتصادية، وأن مؤشرات النمو الرأسمالية غير زائفة. ويجب الإحاطة بأساليب الأنظمة في استعداء الجيوش لأبناء الأمة، والعمل على إفشال مخططات هذه الأنظمة، والعمل على كسب الجيوش لتنحاز إلى أمتها العريقة بما تحمله من عقيدة صادقة وشريعة سمحة، وبما يمكِّن المسلمين من العيش في دولة واحدة على رأسها حاكم واحد هو أمير المؤمنين الذي يحسن تطبيق الإسلام؛ فينعم الناس بالأمن والرخاء ورغد العيش والكرامة والحرية، والتي نعني بها الأمر المناقض للاستعباد والإذلال، وتعمل على استرداد الأرض من المحتل، بل يتعدى هذا الخير إلى جميع أنحاء العالم عندما تحمل هذه الدولة الدعوة الإسلامية إلى الشعوب المظلومة والمضلَّلة، ويُخلّى بين هذه الشعوب وأنظمة حكمها الكافرة ليعيش الناس كرعايا في دولة الإسلام، إما مسلمين فيظفروا بخيري الدنيا والآخرة، وإما ذميين لهم ما للمسلمين من الإنصاف، وعليهم ما على المسلمين من الانتصاف.

نسال الله أن يكون هذا اليوم قريباً، وما ذلك على الله بعزيز.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *