العدد 163 -

السنة الرابعة عشرة شعبان 1421هـ – تشرين الثاني 2000م

البيـعة الشـرعية لا تكون إلا للخـليفة

          إن الظاهر والذي لا خفاء فيه عند كل ذي لب وبصيرة وفقه من المسلمين أن البيعة مرتبطة ارتباطاً حتمياً بالخلافة حيث لا خلافة لأحد إلا بالبيعة، فهي الطريقة الوحيدة الشرعية في إيجادها، والأدلة على ذلك كثيرة مستفيضة، فمن ذلك ما روى الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي ولكن ستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول فإن الله سائلهم عما استرعاهم». ومن طريقه أيضاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»، وقال: «من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الاخر» إلى غير ذلك. وكذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم دون إنكار من أحد منهم على ذلك، فقد صار أبو بكر الصديق خليفة بالبيعة ومن بعده كذلك عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين.

====================================

          فهذا كله يدل دلالة واضحة على أنه لا يصبح أحد خليفة أو إماماً أو حاكماً للمسلمين إلا ببيعتهم له لأنها الطريقة الشرعية في تنصيب الخليفة. فإن قيل بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بويع ولم يكن حاكماً بعد ولم تكن له دولة وذلك في بيعة العقبة الأولى والثانية وهو في مكة قبل الهجرة إلى المدينة وقبل إقامة الدولة فيها، فلم حصرتم البيعة في الخلافة فقط؟ والجواب على ذلك:

          أولاً: إن بيعة العقبة الأولى هي بيعة على الإسلام كما جاء في كتب السيرة، لا بيعة حكم ولا مجرد بيعة، وهي خاصة بالنبوة حيث لا يحق لأحد أن يطلب من الناس أن يبايعوه على الإيمان والإسلام إلا إذا كان نبياً موحىً له من الله عز وجل، وبما أن الوحي قد انقطع بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فلا تنطبق على أحد بعده إلى يوم القيامة.

          ثانياً: إن بيعته صلى الله عليه وسلم للأنصار في العقبة الثانية كانت على اعتبار ما سيكون مستقبلاً من كونه سيصبح حاكماً وأميراً ورئيساً للدولة القادمة، فنصوص البيعة تنبئ بذلك، فقد روى أحمد والحاكم وصححه من حديث طويل عن جابر بن عبد الله يوم بيعة العقبة الثانية جاء فيه: «وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة» وروى الإمام أحمد والبيهقي عن عبادة بن الصامت يوم بيعة العقبة جاء فيه: «وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة». وبما أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق إلا بوحي من الله سبحانه في كل أمر من أمور الإسلام، عليه فإن إخباره عن نفسه لأهل العقبة بأنه سيكون الحاكم في المدينة وأن نصرتهم يريدها صلى الله عليه وسلم يوم يأتيهم يثرب، هو أمر قطعي بالنسبة لهم لا ظن فيه وهو حتمي الوقوع لأنه صدر عن نبي يوحى إليه، وإلا يكون الخبر قابلاً للكذب، وهذا ينافي العصمة، فقوله: «إذا قدمت عليكم» للتحقيق أي حين آتيكم وأقدم عليكم كقوله تعالى: (إذا جاء نصرُ الله والفتحُ). لذا فإن قياس غيره عليه صلى الله عليه وسلم في ذلك وأخذهم البيعة من الناس على اعتبار ما سيكون غير صحيح لأنه لا أحد من غير الأنبياء والرسل يستطيع أن يجزم بأنه سيكون هو الحاكم أو الخليفة مستقبلاً حتى نجيز له أخذ بيعة الحكم من الناس، فالأنبياء والرسل معصومون عن الكذب وينطقون بوحي الله عز وجل ولذلك وجب تصديقهم دون غيرهم من البشر فيما ينبئون به.

          ثالثاً: إن ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم من بيعة عقبة أولى وثانية هو فعل لا عموم فيه حتى يشمل غيره، فالعموم في الألفا ظ لا في الأفعال كما هو مقرر في أصول الفقه، قال القشيري: «أطلق الأصوليون: أن العموم والخصوص لا يتصور إلا في الأقوال ولا يدخل في الأفعال». فيسقط الاحتجاج بذلك كله على أن بيعة غير الخليفة تجزئ صاحبها عند الله. بل لا بد أن تكون للخليفة الذي يطبق الشرع فقط لا أي خليفة، فلا يصحّ أن يصف الحاكم نفسه بأمير المؤمنين وبالخليفة وهو لا يحكم بالشرع كما في بعض بلدان العالم الإسلامي اليوم.

          وإن قيل بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بايع الأنصار قبل الدولة فيصح للجماعة أو الحزب أن يبايع أميره ولو لم يكن خليفة ولو لم تكن بيعة حكم بناءً على بيعة العقبة.

          الجواب:ـ أولاً: لا يصح الاستدلال بذلك لأن بيعة العقبة الثانية كانت خاصة لفئة معينة من الناس وهم أهل النصرة والمنعة والذين سمّوا فيما بعد بالأنصار، ولذلك سمّيت بيعتهم بيعة الحرب، أما أفراد كتلته صلى الله عليه وسلم فلم يثبت أنه بايع أحداً منهم قبل الدولة على الحكم أو على غيره فيما أعلم، والذي يؤكد أن البيعة كانت خاصة بأهل الحلقة والقوة والمنعة دون أهل الكتلة أنه صلى الله عليه وسلم حينما هاجر إلى المدينة عسكر في بعض حرار المدينة، وأرسل من يعلم الأنصار بحضوره لا المهاجرين، فاستقبلوه استقبال الزعماء والحكام، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن أنس رضي الله عنه قال: فنـزل نبي الله صلى الله عليه وسلم جانب الحرة، ثم بعث إلى الأنصار فجاءوا نبي الله صلى الله عليه وسلم فسلّموا عليهما وقالوا اركبا آمنين مطمئنين قال: فركب نبي الله ومعه أبو بكر وحفوا حولهما بالسلاح. وفي رواية ثانية له قال: حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر فكمنا في بعض حرار المدينة ثم بعثا رجلاً من أهل البادية ليؤذن بهما الأنصار فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار حتى انتهوا إليهما، فقالت الأنصار: انطلقا آمنين مطاعين، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه بين أظهرهم.

          ثم أمر آخر يبين بأن البيعة كانت لغير أفراد كتلته ما جاء في نصوص البيعة قوله عليه الصلاة والسلام: «أسألكم لنفسي ولأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا» فواضح من السياق أن أصحابه ليسوا من أهل البيعة والنصرة إنما أصحابه تلك الليلة هم أهل كتلته وهم الذين يحتاجون إلى النصرة والمنعة مع النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصح أن تطلب النصرة ممن يحتاجها أو يفقدها ولذلك لم يطلبها النبي صلى الله عليه وسلم إلا ممن يملكها ويقدر عليها وهم الأنصار رضي الله تعالى عنهم.

          وبذلك لا يصح قياس عموم البيعة لعموم الناس على بيعة العقبة.

          ثانياً: إن البيعة المجزئة والمبرئة والمسقطة للإثم هي بيعة الخليفة سواء أكانت بيعة انعقاد أم بيعة طاعة لقوله عليه الصلاة والسلام: «من مات وليس في عنقه بيعة مات مِيتةً جاهلية»، فلفظ “من” في السياق من ألفا ظ العموم، يعني أن هذه البيعة مطلوبة من كل الناس وقد ثبت بمجموع الأدلة أن البيعة المطلوبة من كل الناس هي بيعة الخليفة وخصوصاً بيعة الطاعة.

          وأيضاً فإنه وإن كان لفظ “بيعة” في السياق لفظاً مشتركاً إلا أنه يمكن أن يكون في السياق إضمار أي: ومن مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات مِيتة جاهلة. والإضمار مقدم على الاشتراك كما هو مقرر في أصول الفقه.

          وأضف إلى ذلك أيضاً أن لفظ البيعة في كثير من الأدلة اقترن بالخليفة واشتهر ذلك عند المسلمين، وهذا نقْلٌ لها من معناها المشترك إلى المعنى المفرد والنقل مقدم على الاشتراك أصولاً.

          أما بيعة أفراد الجماعات والأحزاب لأمرائهم، فإنه وإن جاز ذلك على اعتبار معنى البيعة لغةً: العهد، فيمكن أن يتعاقد ويتعاهد رجل لرجل على أمر ما، إلا أنها ليست البيعة المفروضَ على الأمة القيام بها لأنها ليست لخليفة يطبق الشرع يموت تاركها مِيتة جاهلية.

          وأما بالنسبة لما نسمعه ونشاهده في وسائل الإعلام من بيعة يأخذها حكام هذا العصر من شعوبهم أو البطانة من حولهم فإنها بيعة باطلة ولا تجزئ عن البيعة الشرعية المطلوبة في النصوص الشرعية وفي إجماع الصحابة كما أثبتناه آنفاً. ويكفي لبطلانها أن هؤلاء الحكام لا يحكمون بالإسلام، وألفا ظ البيعة التي أجمع عليها الصحابة في بيعة الخلفاء الراشدين هي على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما أن البيعة للخليفة توجب طاعته في غير معصية، وأية معصية أكبر من عدم الحكم بما أنزل الله، فكيف تكون لهؤلاء بيعة وطاعة؟

          مما سبق يتبين أن البيعة الشرعية الواردة في النصوص، المفروضة على الأمة، المبرئة للذمة، والمسقطة للإثم، التي تنجي صاحبها من المِيتة الجاهلية، هذه البيعة هي بيعة الخليفة دون سواه.

          نسأل الله سبحانه أن يكرم هذه الأمة بأداء هذا الفرض العظيم، عودة الخلافة الراشدة، وبيعة الخليفة على كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

          (ويومئذٍ يفرح المؤمنون @ بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *