العدد 200 -

السنة الثامنة عشرة رمضان 1324هـ – تشرين الثاني 2003 م

المحافظون الجدد وتأثيرهم في المجتمع الأميركي (1)

المحافظون الجدد وتأثيرهم في المجتمع الأميركي (1)

في 10/7/2003م، قال عضو الكونغرس رون بول، مخاطباً النواب الأميركيين، حول تأثير المحافظين الجدد، على السياسة الأميركية: «لقد وصلنا إلى هنا؛ لأن الأفكار فعلاً لها نتائج. إن الأفكار السيئة، لها نتائج سيئة. وحتى أفضل النوايا يكون لها نتائج غير مقصودة. يجب علينا أن نعرف بالتحديد، ماهية الأفكار الفلسفية التي أوصلتنا إلى هذه النقطة، ومن ثم، عسى أن نرفضها، ونقرر انتقاء مجموعة أخرى من الضوابط الفكرية».

في 11/8/2003م، قال هاورد دين، مرشح الديمقراطيين الرئاسي: (إن الرئيس بوش رجل يثير الاهتمام، ولكنني أعتقد، ولسببٍ ما، أنه قد تم أسره، من قبل المحافظين الجدد، من حوله).

إن كلا التصريحين يمثلان الإحساس المتزايد بالتوتر بين السياسيين الأميركيين، ومرشحي الرئاسة، والصحفيين، والأكاديميين، وأقطاب الإعلام، على حد سواء، حول التأثير المتنامي للمحافظين الجدد، على السياسة الأميركية. إن تيار المحافظين الجدد هو نسبياً مدرسة غير معروفة الفكر، بين المحافظين الأميركيين، فما بالك بالمفكرين الأساسيين، وقد أصبح اليوم القوة الفكرية الأعظم في السياسة الأميركية.

فمن هم هؤلاء المحافظون الجدد؟ وبماذا يعتقدون؟ وما هو تأثير أفكارهم على أميركا ما بعد 11 أيلول؟ والأهم من ذلك، كم سوف يستمر تأثيرهم على السياسة الأميركية؟.

ما هي حركة المحافظة؟

بشكلٍ عام، يمكن وصف المحافظة، بجسمٍ من الأفكار، التي طالما شكلت التفكير الغربي للحكومات والسياسة. ويهتم المحافظون، بالدرجة الأولى، بالمحافظة على النظام الاجتماعي الحالي، إنهم يحبون أن يسمّوا تجسيد الأفكار والقيم، التي تكوّن المجتمع بنظامه، تقليداً. وبسبب ذلك، فإن المحافظين هم الرعاة الطبيعيين لمصالح الرأسماليين، والجماعات ذات السلطة الأخرى في المجتمع، مثل الأرستقراطيين والمَلَكيين. بالنسبة للعقل المحافظ، فإن التقليد له الغلبة على المنطق والنظرية، حين يكون الأمر متعلقاً بحل المشاكل. قال اللورد هاليشام مرّة: (إن أونصة واحدة من الممارسة تساوي طناً من النظريات)، وبذلك فإنهم لا يمضون الوقت، وهم يفكرون بالمشاكل، أو إصدار النظريات، بل هم يعتمدون على التجربة، والتقليد، والحكمة لحل المشاكل.

إن المحافظين يكرهون الحرية الزائدة، لأنها في نظرهم تساهم في تفكك المجتمع. إنهم يدعون إلى أنه، عن طريق المؤسسات الحكومية القوية، يجب أن تؤمن الحريات للناس، كما إنهم لا يحبذون مبدأ الاستغلال والفردية؛ لأن كلاهما يضعان المصالح الشخصية فوق مصلحة المجتمع والعائلة، وبذلك ينسفان المسؤولية الاجتماعية.

إن المحافظين ينظرون إلى الدين، على أنه ضروري للصياغة الأخلاقية للمجتمع. قال دزرائيلي مرة: «إن الدين يعطي السياسة معناها وكرامتها». إن المحافظين يعتقدون أن حكم القانون حيوي جداً، للمحافظة على النظام الاجتماعي، وغالباً ما يطالبون بعقوبات صارمة، لتطبيقها على من يخالف القوانين.

إن المحافظين هم أبطال الاقتصاد القائم على السوق الحرة، ويدعون إلى أقل تدخل للحكومة في السوق، ولكنهم يعتقدون أن الحكومة يجب أن تكون قوية ومؤثرة، ولكن ليس ضخمة، بالإضافة إلى ذلك، فإنهم يرون أن الحكومة يجب أن تكون خالية من البيروقراطية.

هذه هي الأفكار الأساسية التي تشكل فكرة المحافظين في البلاد الغربية مثل بريطانيا وأميركا. إن المحافظة الأميركية تختلف عن المحافظة البريطانية بأنها تبرر معظم أفكارها بناءً على التاريخ الأميركي. وفي أميركا يمثل الحزب الجمهوري الأفكار المحافظة.

كما أنه يجب أن يلاحظ أن المحافظة هي مدرسة فكرية، وأن هناك عدة أطياف منها، بعضها معتدل، بينما الآخر متطرف جداً في السياسة الأميركية. والمحافظون الجدد يعتبرون على أقصى يمين الحركة المحافظة.

الأفكار التي تشكل فلسفة المحافظين الجدد

إن المحافظين الجدد هم أتباع ليو ستراوس. وهم معروفون غالباً بالستراوسيين. لقد وصل ليو ستراوس، وهو يهودي، من ألمانيا النازية إلى أميركا سنة 1938م، وقام بالتدريس في (المدرسة الحديثة للبحث الاجتماعي)، ثم قام بالتدريس في (جامعة شيكاغو)، حيث استطاع أن يجمع حوالي مئة من طلاب الدكتوراه، الذين أصبحوا لاحقاً أتباعاً للفلسفة الستراوسية، وتقلّدوا مناصب مهمة في العديد من المؤسسات. ويمكن تلخيص النقاط المميِّزة للفكرة الستراوسية بما يلي:

1رفض الحداثة وتفضيل المنطق على التقليد.

إن الستراوسيين يعتقدون أن فلسفة ما قبل الحداثة هي أفضل من فلسفة ما بعد الحداثة، من مثل عصر التنّور. إن الستراوسيين هم قبل الحداثة وضد الحداثة، وذلك ليس باسم الدين (كما في العديد من أشكال الأصولية الدينية في أنحاء العالم) أو باسم التقليد (مثل المحافظين منذ إدموند بورك)، ولكن باسم المنطق، وباسم الفلسفة، ففهمهم للمنطق والفلسفة مختلف عن ذلك في عصر التنّور. إن لذلك تأثيرين، الأول: إن هذه الطريقة في التفكير هي ابتعاد عن المحافظة السائدة التي تقدر التقليد جداّ، بينما، على العكس، يعتبر الستراوسيون المنطق هو الشكل الصحيح الوحيد للتفكير، ويحتقرون الفكر الإمبريالي، وبشكلٍ أقل، التقليد. والثاني: إن ذلك يضع الستراوسيين في مواجهة مباشرة مع فلاسفة ما بعد الحداثة، الذين يعتقدون أن فلاسفة ما قبل الحداثة قد عفا عليهم الزمن، وأنهم ليسوا بذي أهمية، ولذلك فإن الستراوسيين يعتمدون كثيراً على فلاسفة من أمثال بلاتو، هوبز، ولوكه…

2الفلاسفة هم الحكام الطبيعيون للمجتمع.

إن تعاليم ليو ستراوس تركز كثيراً، على طبع المجتمع بالأفكار الفلسفية. في الجوهر، يمكن فقط وصف تعاليمه بأنها فلسفة سياسية، حيث القوة هي ضرورية لتطبيق الأفكار على المجتمع. كما شدّد ستراوس على الحاجة إلى إعادة فهم الأفكار الفلسفية للفلاسفة الكلاسيكيين. ففي رأيه، لم يكن فلاسفة ما قبل الحداثة قادرين على التعبير عن آرائهم بحرية، خوفاً من الاضطهاد، وعمدوا إلى كتابات كانت تتضمن معاني خفية، لقد اعتقد أنه هو فقط من لديه القدرة على كشف تلك المعاني أو الحقائق، وتطبيقها في العالم الحديث. لقد كان يكره فلاسفة العصر الحديث الذين اتهمهم بفتح أبواب المعرفة للناس العاديين، وبذلك يكونون قد قللوا من منصب الفلاسفة. وبهذا، فإن أتباع ستراوس، قد دفعوا إلى اكتشاف معانٍ، أو حقائق جديدة، وأصبح لديهم نهم شديد للسلطة، حتى يستطيعوا تطبيق نسختهم هم للحقيقة في المجتمع.

3الكذب والخداع ضروريان للمحافظة على السلطة.

مثل بلاتو، اعتقد ستراوس أن البعض قادرون على القيادة، بينما الآخرون يجب أن يقادوا. ولكن على خلاف بلاتو، الذي اعتقد أن القادة يجب أن يكونوا أشخاصاً ذوي مقاييس أخلاقية عالية، حتى يستطيعوا أن يقاوموا إغراءات السلطة، فإن ستراوس كان يعتقد، أن أولئك الذين يصلحون للقيادة هم الذين يعلمون أنه ليس هناك أخلاقيات، وإنما هناك فقط، حق طبيعي واحد، حق القوي أن يحكم الضعيف، بعبارة أخرى، فإن ذلك يتطلب خداعاً مستمراً من قبل الحكام، من أجل حكم رعاياهم. في هذا النوع من المجتمع، يتم إعلام الجموع بما يجب أن يعلموا، وليس ما هي الحقيقة. إن فهم الحقيقة هو مسؤولية النخبة الحاكمة، ولا يمكن إسداؤها لغيرها. يعلٌق مايكل لادين، وهو محافظ جديد مشهور، حول الحاجة إلى الكذب، قائلاً: «من أجل أن ننجز أنبل الإنجازات، يمكن أن يجبر القائد على الدخول في الشر».

4استخدام الدين للسيطرة على الجموع.          

الدين، بالنسبة لستراوس، هو الصمغ الذي يبقي على المجتمع واحداً. ومحافظون جدد آخرون، من مثل إيرفينغ كريستول، يحتج بأن فصل الدين عن الدولة كان أكبر خطأ ارتكبه مؤسسو الجمهورية الأميركية. وحول نفس الموضوع، قال مايكل لادين: «إن الموت من أجل بلدك لا يأتي طبيعياً، إن الجيوش الحديثة التي تتشكل من الجماهير، يجب أن تلهَم، وتشجَع، ويتم إعدادها بالعقائد. إن الدين أساسي للمشروع العسكري؛ لأن الرجال قد يجازفون بأرواحهم، إذا ما اعتقدوا أنهم سوف يكافأون للأبد على خدمة بلدهم». إذاً، لماذا المحافظون الجدد هم مع الدين؟؛ ذلك لأن ستراوس اعتقد أن الدين، من أجل فرض القانون الأخلاقي على الجماهير، التي بدونه تكون خارجةً عن السيطرة. وفي الوقت نفسه، شدّد على أن الدين هو فقط للجماهير، وليس على الحكام أن يكونوا ملتزمين به. «المجتمع العلماني في نظرهم، هو أسوأ الأشياء الممكنة» لأنه يقود إلى الفردية، والليبرالية قد تشجع على المعارضة، وبالتالي سوف يضعف ذلك، وبشكلٍ خطير، قدرة المجتمع على التعامل مع التهديدات الخارجية.

5الوطنية العدائية.

لقد تأثر ستراوس كثيراً بتوماس هوبز. ومثل هوبز، اعتقد أن العدائية الأصيلة، في الطبيعة البشرية، لا يمكن ضبطها إلا عن طريق دولة قوية تقوم على الوطنية: «لأن الجنس البشري، بفطرته شرير، إذاً، كان لا بد من حكمه». وكتب مرة: «إن هكذا حكمٌ لا يمكن إقامته إلا حينما يكون الناس متّحدين، ولا يمكنهم أن يتّحدوا إلا ضد أناسٍ آخرين». ومسلطاً مزيداً من الضوء على الموضوع، كتب إيرفينغ كريستول، في مقالةٍ بعنوان: «قناعة المحافظين الجدد» «إن الوطنية هي شعورٌ طبيعي وصحي، ويجب أن يشجع من قبل كلٍّ من المؤسسات الخاصة والعامة. بالتحديد نحن أمةٌ من المهاجرين، إن هذا شعورٌ أميركي قوي». إن كل ذلك يعني أن أميركا بحاجة إلى تهديد مستمر، أو عدو دائم، من أجل تسعير أتون المشاعر الوطنية والقومية. في أعين المحافظين الجدد، كان يجب استبدال سقوط، الاتحاد السوفياتي بسرعة بعدوٍ آخر. واليوم ذلك العدو هو الإسلام.

6الحرب الدائمة تولّد الاستقرار.

اعتقد ستراوس أن النظام السياسي يمكن أن يكون مستقراً فقط، إذا ما جوبه بتهديد خارجي. فعلى خطا ميكيافيللي، يقول إنه إذا لم يكن هناك خطر خارجي، فإنه يجب صنع واحد. في نظر ستراوس، يجب عليك أن تقاتل دائماً لكي تبقى. إن الحرب الدائمة هي ما يؤمن به ستراوس، وليس السلم الدائم. إن هكذا وجهات نظر، من الطبيعي أن تؤدي إلى سياسة خارجية، عدائية، وتهديدية، وإلى سياسة داخلية حيث لا يستهان بالمعارضة ولا يتسامح معها. إن تلامذة ستراوس، المحافظين الجدد، يرون السياسة الخارجية كوسيلة لتحقيق «القدر القومي» كما عرّفه سابقاً إيرفينغ كريستول سنة 1983، الذي يتجاوز الحدود الضيقة «أمن قومي قصير النظر»

إن أي شيء قد يؤدي إلى الاستقرار العالمي، من مثل الأمم المتحدة، أو الحكومة العالمية، هو أمر مكروه، من قبل أتباع ستراوس. في مقالته (قناعة المحافظين الجدد)، كتب إيرفينغ كريستول (إن الحكومة العالمية هي فكرة رهيبة، لأنها قد تؤدي إلى الطغيان العالمي. إن المؤسسات الدولية، التي تشير إلى حكومة عالمية في المدى النهائي، يجب أن ينظر إليها بشكلٍ عميق).

7الريادة الأميركية الخيّرة.

إن ستراوس لم يكتب حول الريادة الأميركية، ولكن تلاميذه قد كتبوا باستفاضة حول هذا الموضوع. فالمحافظان الجديدان، وليم كريستول وروبيرت كايغن، قد أعلنا هذا النفير، في مجلة الشؤون الخارجية (فورين أفّير)، في تموز _ آب سنة 1996 بعنوان (تجاه سياسة خارجية ريغنية جديدة): (الآن، وبما أن الأمبراطورية الشريرة قد هُزمت، فإنه يجب على أميركا أن تطمح كي تمارس ريادة أميركية خيّرة. لأنه لم يحدث سابقاً، أنه كان لأميركا فرصة ذهبية، من أجل الترويج للديمقراطية والأسواق الحرة في الخارج، في الوقت الذي لم يكن وضع الأميركيين فيه من قبل على أفضل ما يكون عليه الآن) وبذلك فإن الهدف (المناسب للولايات المتحدة يجب أن يكون المحافظة على تلك السيادة، قدر المستطاع، أطول فترة ممكنة في المستقبل). كما أن الكاتبين، قد قلّلا من شأن أولئك المتشائمين الذين يحذرون من التوسع الإمبريالي، أو خطر استقطاب أعداء، ودَعَوا، بدل ذلك، إلى زيادة كبيرة في ميزانية أميركا العسكرية (للمحافظة على دور أميركا كسند عالمي)، كما دَعَوا إلى إجراءات لتحميس الشعب الأميركي، ربما عن طريق شكل من أشكال الانخراط العسكري، وسياسة خارجية أخلاقية سافرة تهدف إلى (الدعوة الفاعلة للمبادئ الأميركية للحكم في الخارج).

إن نظرية السيادة لا تسمح بوجود عالم متعدد الأقطاب، عوضاً عن ذلك، إنها تدعم فكرة أن دولة قوية، تملك سلطة، لا مثيل لها، يجب أن تعيد تشكيل العالم الحالي بحسب مصالحها. فعن طريق فرض القوانين، فإن القوة السائدة تستطيع أن تحافظ على موقفها المسيطر على العالم. ومن خلال تبني هذه النظرة، فقد قام المحافظون الجدد بإحداث شقّ في الحزب الجمهوري وأقسام الحكومة، إذ إن العديد من الجمهوريين لا يزالون يعتقدون أن أميركا تستطيع أن تحافظ على منصب القوة العظمى، عن طريق ممارسة سلطتها في عالم متعدد الأقطاب.

هذه بعض أفكار ليو ستراوس، والتي تحدد بدقة معظم التفكير لدى المحافظين الجدد. إن بعض هذه الأفكار متجذرة في وجهة نظر المحافظين عن العالم، من مثل دور الدين في المجتمع، أو توسيع السلطة الأميركية. وبغض النظر، فإن الميزة المعبّرة للفلسفة الستراوسية هي، حتى بمقاييس المحافظين، فعلا متطرفة على أقل التقديرات .

[يتبع]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *