العدد 202 -

السنة الثامنة عشرة ذو القعدة 1424هـ – كانون الثاني 2004م

تاريخ الاستعمار الغربي في الشرق الأوسط (2)

تاريخ الاستعمار الغربي في الشرق الأوسط (2)

د. عمران وحيد

تدعى أميركا وبريطانيا أن حربهما ضد العراق عادلة وقضيتهما نبيلة. ويستمرون في الجدال بأنهم ببساطة يسعون لإنقاذ العالم من خطر يهدده ولإعادة حكم عادل لشعب العراق، وهذا الفصل يفضح هذا الكذب ويثبت أن للاستعمار علاقة قوية بالحرب ضد العراق، بل هو في الحقيقة القوة الدافعة للحرب.

الصراعات الاستعمارية

إن القسوة والاحتلال صفتان دائمتان في الحضارة الغربية، وقد تفاقمت المشاكل في الشرق الأوسط بسبب قرون من الصراعات الغربية التي تُوِّجَت بكارثة حربين عالميتين. والحال الآن دليل على هذه المنازعات الغربية، كما في الماضي، عندما سعى نابوليون لإضعاف القوة البريطانية بغزو مصر عام 1798. إن العقيدة العلمانية قد شجعت (العالم الحر) على فرض أصوليتهم الاستعمارية على شعوب الشرق الأوسط، وذلك عندما سعت الدول الغربية وراء النفوذ والسيطرة على العالم. فقد بدأ الغزو السياسي للعالم الإسلامي في القرن الثامن عشر، ولا يزال مستمراً حتى القرن الواحد والعشرين. وفي تعبيره المختصر لطموح الدولة في القرن التاسع عشر، تكلم جوزيف تشامبرلين عن الحلم في (إنشاء إمبراطورية) [رونالد هيام “قرن بريطانيا الإمبراطوري 1815 – 1914″، 1976 ص 2]. وهي كلمات توضح طموحات رئيس الوزراء بلير: (أن نجعل من أنفسنا مرة أخرى، قوة على مستوى الدول العظمى الأخرى) و(أن نعزز مصلحة بريطانيا بثبات، وباستمرار، وبقوة). [مارك كيرتيس، القوة الإنجلو – أميركية الخدعة الكبرى، والنظام العالمي”].

كان الساسة البريطانيون مشغولين في القرن التاسع عشر بتدهور الخلافة العثمانية، ومدى تأثير ذلك على نفوذهم، وعلى الميزان الدولي للقوى. قال اللورد بالمرستون (إن المصالح البريطانية توجد في كل الكرة الأرضية) [رونالد هيام “تاريخ بريطانيا الإمبراطوري 1815 – 1914، دراسة حول إمبراطورية وتوسع”، 1976، ص 3]. وكانت هذه هي المصالح التي سعت بريطانيا للحفاظ عليها من الأطماع الروسية والفرنسية، تلك المصالح التي زاد الحصار عليها مع تدهور الخلافة العثمانية. لذلك كان الساسة البريطانيون الاستعماريون يتناقشون فيما إذا كان يلزم إصلاح الخلافة، لتكون على النمط الأوروبي، حتى تصبح محمية أوروبية، أو تقسيمها سلمياً بين الدول الغربية. وقبل أن يصبح اللورد ساليزبوري وزيراً للخارجية عام 1878 قال: (لم يعد الدفاع عن المصالح الإنجليزية من خلال الحفاظ على الحكم العثماني عملياً! لذلك أرى أن الوقت قد حان من أجل الدفاع عن المصالح الإنجليزية بطريقة مباشرة أكثر، وذلك من خلال ترتيبات إقليمية جديدة. أخشى أننا إذا أردنا أن نفعل هذا بعد سنين من الانتظار فقد يحصل أحد أمرين: إما أن فرنسا تكون قد استعادت مركزها، وستحسد أي امتداد لسلطاننا في الشرق الأوسط، أو أن المانيا تكون قد أصبحت دولة بحرية. إن أياً من هذين الاحتمالين سيجعل من الصعب علينا أن يكون لنا موقع مؤقت، بدلا من الموقع الذي من المؤكد أننا سنخسره وهو القسطنطينية) [إيلي كودري “إنجلترا والشرق الأوسط، هدم الإمبراطورية العثمانية، 1914 – 1921″، ص 21].

وفي انعطاف تاريخي غير متوقع، تواجه أميركا تحديات مماثلة لقيادتها العالمية، لأنها أيضا تواجه فراغاً سياسياً ناتجاً عن انهيار قوة عظمى. لقد كان تدهور الخلافة العثمانية، في القرن التاسع عشر، هو الذي أثر على توازن القوى الدولي، وعلى المصالح البريطانية. ولكن في أواخر القرن العشرين، أصبح انهيار الإمبراطورية السوفيتية يشكل البيئة السياسية الدولية، ولا يزال الإنسان يشعر بالآثار البعيدة لهذا الانهيار في القرن الواحد والعشرين. ولاشك أن هذا شغل بال إدارات أميركية متتابعة. فقد قال وزير الخارجية السابق وارين كريستوفر (بوصفنا الدولة العظمى الوحيدة الباقية حتى الآن، فلدينا فرصة لم تسنح من قبل لصياغة العالم الذي نريد) [مارك كيرتيس “القوة أنجلو – أميركية، الخدعة الكبرى والنظام العالمي”، 1998 ، ص 35]. وبعد حوادث 11/9 تحاول أميركا استغلال الفرصة التي سنحت لها لإعادة تشكيل الشرق الأوسط. ويجسد تقرير، أعدته مجموعة الدراسة الرئاسية، طبيعة الحوار الجاري بين رجال الدولة الأميركان في القرن الواحد والعشرين، التحديات الاستراتيجية في عصر ما بعد الحرب الباردة، تحت عنوان مناسب (إبحار عبر العاصفة، أميركا والشرق الأوسط في قرن جديد) فيما يلي: (في 20 كانون ثاني 2001، سيتولى السلطة رئيس جديد، في لحظة محفوفة بالمخاطر في الشرق الأوسط. فبينما معظم دول المنطقة تسعى من أجل علاقات سياسية وعسكرية وثيقة مع الولايات المتحدة، لكن العلاقات العربية – الاسرائيلية تمر في أزمة، فالأصوليون في المنطقة مبتهجون، والمزاج الشعبي في معظم العالم العربي كثير النقد للسياسة الأميركية. وبوجه عام فإن وضع أميركا الاستراتيجي في المنطقة يتسم بالتحديات أكثر من الفرص) جماعة الدراسة الرئاسية، (الإبحار عبر العاصفة، أميركا والشرق الأوسط في قرن جديد)، معهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى، 12 كانون أول 2000، ص 7].

إن ذروة إعادة التفكير في سياسة أميركا الخارجية انعكس في استراتيجية الأمن القومي التي كُشف عنها في أيلول 2002. فقد وصف ماكس بوت، صحفي ومؤلف كتاب (حروب السلام الوحشية وحروب صغيرة وبروز القوة الأميركية)، هذه الاستراتيجية قائلا: (أهم بيان للسياسة الخارجية الأميركية منذ مجلس الأمن القومي 68، وهو الدراسة الصادرة عام 1958 والتي وصفت مبدأ الاحتواء)، [ماكس بوت (مبدأ الأنشيلادا الكبير)، واشنطون بوست، 14 تشرين أول 2002]. فقد وضع القواعد لوجهة نظر عالمية جديدة لفترة ما بعد الحرب الباردة. لذلك يسير الرئيس بوش على خطى أسلافه الذين قاموا أيضا بتغييرات مرحلية لسياسة أميركا الخارجية، ابتداء من مبدأ ترومان إلى مبدأ أيزنهاور، والآن سينسب للرئيس بوش مبدؤه الخاص به للسياسة الخارجية الأميركية. وفي خطابه الموجه للاتحاد في كانون ثاني 2002، عرض ثلاث قواعد أساسية لمبدأ بوش. الأولى تركز على الحفاظ على قيادة أميركا في العالم، فقد أعلنت استراتيجية بوش أنه (ستكون قواتنا على درجة من القوة بحيث تثني عزيمة أي خصم محتمل من مواصلة أي تطوير عسكري أملا في التفوق على قوة الولايات المتحدة أو مساواتها) [ماكس بوت “مبدأ الأنشيلادا الكبير”، واشنطون بوست، 14 تشرين أول 2002]. والثانية، هو أن أميركا ستقوم بضربة وقائية ضد أي تهديدات محتملة، فقد قال الرئيس بوش: (أعداء أميركا يعتبرون جميع العالم ساحة معركة،” وأنذر “، أنه سيلاحقهم حيثما كانوا) [شميت ودونيللي. (مبدأ بوش) 30كانون ثاني 2002]. وقد شرح وليام كريستول، رئيس أركان البيت الأبيض السابق (عكس هاري ترومان، في 1947، سياسة ما بعد الحرب العالمية الثانية من الانسحاب من أوروبا إلى التزام الولايات المتحدة في احتواء ومقاومة الاتحاد السوفييتي.وفي عام 1981، عكس ريغان سياسة الانفراج الدولي الفاشلة، وألزمنا بالسعي من أجل الانتصار على الشيوعية. وليلة الثلاثاء، وضع جورج بوش نهاية لعقد من المسايرة والجبن، وألزم الأمة بالإطاحة بالمستبدين المعادين الذين يسعون لامتلاك أسلحة الدمار الشامل، وهذه المهمة شبيهة بمهمة ترومان وريغان. لن تكون سهلة وبدون ألم، ولكنها جديرة بأمة عظيمة) [ويليام كريستول “دفع الحرب إلى ما بعد الإرهاب” واشنطن بوست 31 كانون ثاني 2002]، والثالثة، كما هو الحال مع كل الأيديولوجيات الرسالية السابقة، فقد تم الإعلان عن السعي المميز لتشجيع المبادئ الديمقراطية الليبرالية . وقال المفكرون بمشروع قرن أميركي جديد: (مبدأ بوش واضح فيما يرفضه، فهو يرفض تعددية كلينتون، فالرئيس لا يستغيث بالأمم المتحدة، ولا يثق بالحد من الأسلحة، ولا يشجع الآمال من أجل “أي عملية سلام”، ولا حتى واقعية ميزان القوى الذي شجّعه والده.بل هو يؤكد على أن السلام والأمن الدائمين، يمكن الوصول إليهما، والحفاظ عليهما، بالتأكيد على القوة العسكرية لأميركا، وعلى المبادئ السياسية الأميركية).

يردد الاستعماريون الأميركان صدى هموم أبناء عمومتهم البريطانيين في القرن التاسع عشر. فهم يسعون، مثل بريطانيا، للمحافظة على قيادتهم في العالم، وعلى السيطرة المطلقة على منطقة الشرق الأوسط. ولأن الحكومة البريطانية أدركت أن السيطرة على البترول (كان جائزة حيوية لأية دولة راغبة في النفوذ والسيطرة العالمي)، [مقدمة حول الشرق الاوسط إف. آر. يو. إس 1947، مجلد 5، ص 569]. فقد كتب وزير الخارجية البريطانية سيلوين لويد في سنة 1956: (يجب علينا المحافظة على سيطرتنا على البترول بأي ثمن) [رسالة من وزير الخارجية البريطاني سيلوين لويد إلى وزير الخارجية الأميركي دالاس، 23 كانون ثاني 1956، إف. آر. يو. إس 1955- 1957، مجلد 8 ص 323]. ولم تكن الولايات المتحدة آنذاك أقل إدراكاً لأهمية البترول. فقد ذكر مجلس الأمن القومي عام 1953 (أن سياسة الولايات المتحدة تكمن في إبقاء مصادر البترول في الشرق الأوسط في أيد أميركية). [محمد هيكل “قطع ذنب الأسد. السويس بعيون مصرية، 1986 ص 38]. وأعلنت وزارة الخارجية الأميركية عام 1945، (أن هذه الثروات تمثل مصدرا ضخما للطاقة الاستراتيجية، وواحدة من أعظم الجوائز المادية في تاريخ العالم…وربما أكبر جائزة اقتصادية في العالم في مجال الاستثمار الخارجي) [تاريخ وزارة الخارجية الأميركية، 1945 مجلد 8، ص 45]. لذلك تسعى أميركا لضمان قيادتها للعالم بضمان سيطرتها على الثروة البترولية في المنطقة، وبذلك (تمنع ظهور تحالف أو هيمنة إقليمية معادية)، [كونيتا ونايت، (مراجعة الاستراتيجة العسكرية، السياسة الخارجية تحت المجهر)، المجلد 4 رقم 3، يناير 1999]. كما جرى وصف ذلك في إعادة نظر رباعية (كل أربع سنوات) لشؤون الدفاع قدمها وزير الدفاع السابق ويليام كوهين إلى الكونجرس الأميركي في أيار 1997. وقد عبر بول وولفويتز أيضاً عن طموح أميركا للسيطرة على العالم في وثيقة خطة تقول إن على الولايات المتحدة (أن تحافظ على آلية منع المنافسين المحتملين من مجرد التطلع لدور محلي أو اقليمي أكبر)، [ماكس بوت (مبدأ الأنشيلادا الكبير)، واشنطون بوست، 14 تشرين أول 2002].

لقد وضعت هذه السياسة أميركا بشكل حتمي في صراع مع الدول الاستعمارية الكبرى وصل إلى درجة الأزمة في الأمم المتحدة، فتفردها دفع الرئيس الفرسي شيراك أن يحذر من الأخطار القادمة عندما قال: (إن العلاقات الدولية في المستقبل أصبحت أيضا في خطر الآن) [الأمم المتحدة هي الإطار الشرعي الوحيد للتعامل مع العراق ايجيبشن جازيت، 18 تشرين أول 2002]. وقد عملت أميركا منذ الحرب العالمية الثانية، وبشكل سرِّي، على تصفية النفوذ البريطاني والأوروبي في المنطقة، وهذا أكثر ما يخشاه شيراك. ففي عام 1947 أبلغت أميركا السفارة البريطانية في واشنطن نهاية الحكم البريطاني في الشرق الأوسط. كتب مايلز كوبلاند يقول (كانت الرسالتان بلاغاً رسمياً أن السلام البريطاني، الذي حافظ على النظام في معظم أجزاء العالم لمدة قرن من الزمان، قد انتهى) [مايلز كوبلاند (لعبة الأمم) 1989 ص 145]. وكان هذا مؤشراً لصراع إنجلو – أميركي عنيف في الشرق الأوسط، بلغ ذروته في لعبة الانقلابات العسكرية الخطرة والانقلابات المضادة. ففي مصر، قامت أميركا بإنهاء نظام حكم الملك فاروق العميل لبريطانيا، وبصراحة لا مبالية يروي مايلزكويلاند القصة: (وجدت وكالة المخابرات المركزية الأميركية الفرصة، قطعنا الاتصالات الرسمية بالـ إس. آي. إس البريطاني)، ومضى يفصل قائلا: (وهكذا، ففي 23 تموز 1952، جاء الانقلاب بدون عقبات، على رأسه رسميا جنرال محمد نجيب. وفي الشهور الستة التالية، كانت الاتصالات الوحيدة مع ناصر، ومجلس ثورته، والمدنيين المسؤولين في الحكومة، تتم من خلال الموثوق بهم في سفارتنا، بما فيهم السفير كافري نفسه) [مايلز كوبلاند “لعبة الأمم” 1989 ص 145].

لذلك فالأزمة العراقية الحالية هي استمرار للصراع بين الدول الكبرى. ففي أوائل القرن العشرين، تنازعت الدول الأوروبية حول كيفية تقسيم أراضي الخلافة فيما بينها. وبعد قرن من الزمان، تنازعت حول تقسيم ثروات المنطقة فيما بينها، حيث تسعى أميركا ضمان حصة الأسد لنفسها. قال الأخصائي الروسي، مايكل ماك فول في معهد كارنيجي إندومنت: (يعتقد الرئيس بوتين وحكومته أن الولايات المتحدة ماضية (في سياستها) قدما سواء كان ذلك بمشاركة روسيا أم بدونها، لذلك فهم يحاولون انتزاع ما استطاعوا من أميركا). وقد لاحظ بول ساندرز، مدير معهد نيكسون أن (البترول هو الأمر الرئيسي.. هناك تشنج واسع في روسيا أنه إذا غيرت أميركا النظام في العراق، فإن كل عقود البترول ستذهب إلى أميركا، وإن روسيا ستهمل) [ايريك بوهليرت «في الأمم المتحدة، كل شئ حول النقود»، 14 تشرين أول 2002]. وفي هذا الإطار نرى الدول الكبرى تتنافس من أجل القوة، متدافعة لضمان مصالحها البترولية في العراق، وهو تدافع يعيد ذكريات استعمار أوروبا لإفريقيا في القرن العشرين. لذلك تسعى سياسة الولايات المتحدة لتصفية نفوذ وسيطرة أي دولة أوروبية في العراق. قال مايكل أو هانلون من معهد بروكنجز أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب (إن المنطقة التي يقع فيها العراق خطرة، بالنسبة لمصالح أميركا، لدرجة أننا لا نستطيع أن نكتفي بالدخول، وإزالة صدام، ونترك للآخرين مهمة الترتيب، فالعراق خلافاً لأفغانستان يقع في قلب العالم العربي، وهي منطقة يعتبر الاستقرار فيها حيويا للمصالح الأميركية) [مايكل أوهانلون، مسؤول كبير، بروكنجز، شهادة أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب، 2 تشرين أول 2002]. لذلك فتغيير النظام في العراق قائم على تحقيق أهدافها في (إعادة تشكيل مناخ) الشرق الأوسط حسب وجهة نظرها [كارل كونيتا وتشارلز نايت (مراجعة الاستراتيجية العسكرية، السياسة الخارجية تحت المجهر)، المجلد 4 رقم 3، يناير 1999]. إن تغيير النظام سيؤدي فعلا إلى تقسيم العراق، وهذا ما حاولت أميركا تحقيقه دون نجاح منذ نهاية حرب الخليج في 1991. فقد أشار بول وولفويتز، نائب وزير الدفاع، إلى استراتيجية أميركا من أجل السيطرة على العراق في أيلول 1998 أمام لجنة الأمن القومي في المجلس الأميركي حيث قال: (إنشاء منطقة آمنة ومحمية في الجنوب، حيث يمكن أن تتجمع وتنتظم معارضة لصدام فيها. فهذا يجعل ممكناً لحكومة مؤقتة أن تسيطر على أكبر حقل نفط في العراق، ويزودها، تحت نوع من الإشراف الدولي، بموارد مالية ضخمة. من أجل أغراض سياسية، وإنشائية، وبالتالي عسكرية) [بيان بول وولفويتز، حول سياسة أميركا تجاه العراق، 18 أيلول 1998]. وقد كشف وزير الدفاع دونالد رامسفيلد وبول وولفويتز بشكل جلي عن السياسة الأميركية في تأييدهما لرسالة يرعاها (مشروع من أجل قرن أميركي جديد، يدعو لإقامة حكومة مؤقتة وحرة في تلك المناطق الشمالية والجنوبية من العراق، التي ليست تحت سيطرة صدام، ويجب أن تكون القوات العسكرية للولايات المتحدة والحلفاء مستعدة لدعم المعارضة العراقية، وأن تستعد للمساعدة في إزالة صدام من السلطة)، [مذكرة إلى قادة الراي مقدمة من توم دونيللي، نائب المدير العام التنفيذي لمشروع من أجل قرن أميركي جديد، 6 تموز 2001].

لا شك أن الأزمة العراقية هي استمرار لقرون من التنافس الاستعماري. ففي أوائل القرن العشرين، قسمت بريطانيا وفرنسا الخلافة العثمانية إلى دول كارتونية، أدت إلى ظهور العراق. وفي أوائل القرن الحادي والعشرين تسعى أميركا أن تحاكي الاستعمار الأوروبي بتقسيم العراق. فمن خلال إخضاع الشعوب بواسطة نشر سمومهم المبدئية، كانوا ولايزالون القوة الكامنة خلف الحركات الوطنية التي أصابت الروح الاسلامية بجروح قاتلة. قد شهدت المأساة المبدئية التي ولدت من النهضة (الأوروبية) العالم الغربي لا يستعمر الشرق الأوسط فحسب، بل أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية، أيضا، وتاريخها مليء بالعهود الزائفة، والمفاوضات الكاذبة، والخداع والمكر، بحيث لم يسبق وأن شهد تاريخ العالم مثل هذه الدرجة من الظلم، والفساد والتفاوت الاقتصادي. فقد قضت الدول الاستعمارية على الخلافة العثمانية في 3 آذار 1924 , وبسقوطها زالت الدولة الوحيدة التي كانت قادرة على إيجاد قيادة فكرية حقيقية، وأن تكون بديلا للرأسمالية الغربية. فبدلا من ذلك، قام الاستعمار بالقضاء على هذه الدولة، وقسم الشعوب التي كانت تربطها الأخوة، والحب والتعاطف، وزاد على ذلك بأن وضع بذور حرب في فلسطين التي كان المسلمون واليهود والنصارى يعيشون فيها في كرامة، وشرف وعدل تحت ظل الإسلام لمدة قرون. ولم يكتف بذلك، بل فرض حكمه من خلال أنظمة حكم مستبدة أقامها على أنقاض دولة الخلافة. أقام هذه الأنظمة لتحمي المصالح الغربية من خلال منع إعادة إقامة دولة الخلافة، حتى ولو تطلب ذلك إسكات أي معارضة سلمية بالقتل والسجن والتعذيب، وذلك لأن الخلافة هي الدولة الوحيدة التي توفر فعلا التحدي المبدئي للرأسمالية الليبرالية الغربية.

لذلك فالاستعمار نشط لأنه جزء لا يتجزأ من الحضارة الغربية. ومبدأ بوش، شأنه شأن الاستعمار الليبرالي الجديد الذي يدعو له روبرت كوبر، هو نتاج العصر، وهو حقبة زمنية بالغ المفكرون الغربيون في وصفها حتى اعتبروها نقلة مرحلية في (عصر المعلومات)، أو (ما بعد العصر الصناعي)، لدرجة أن ألفين توفلر، الدارس لحياتنا المعاصرة، وصفها بميلاد حضارة جديدة. ولكن بينما يبني الغرب بنية تحتية جديدة لإنتاج الثروة التي ستدفع بالحضارة الغربية قدما، لا يزال هذا التقدم قائما على أساس مبدأ علماني متجذر. والمشاكل الاجتماعية التي تراكمت كنتيجة لهذا التغيير المرحلي، لم تكن نتيجة هذه النقلة المرحلية كما حاول بعض المفكرين الغربيين إثباته، ولكنها نابعة من تناقضات الفلسفة الغربية نفسها. فالصراع الاجتماعي في العالم

الأول، شأنه شأن الصراع الاجتماعي في العالم الثالث، هو نتيجة المبدأ العلماني فقط. وأما العولمة فإنما زادت شرور الاستعمار الغربي. فاستقلال الدول المتنامي، وسرعة الحصول على المعلومات، فتح عيون كثير من المفكرين الغربيين على مشاكل الاستعمار العالمي، وقوته الاستعمارية. وإن إقامة مؤسسات دولية أوسع للأمن والازدهار لن ينهي الظلم، لأن هذه المؤسسات قد شكلت في إطار علماني تماما مثلما نشأ الاستعمار من فلسفة علمانية .

[انتهى]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *