العدد 202 -

السنة الثامنة عشرة ذو القعدة 1424هـ – كانون الثاني 2004م

(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ)

مع القرآن الكريم  ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)

بسم الله الرحمن الرحيم

(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ)

قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً)[النساء/77]

لقد ذكر سيّد في ظلاله كلاماً طيباً حول الحكمة من الأمر بالكف عن القتال، يجدر ذكره لتعلقه بواقع الدعوة الذي يمر به المسلمون اليوم، فقال: أما حكمة هذا، فلسنا في حل من الجزم بها؛ لأننا حينئذٍ نتألى على اللَّه ما لم يبيّن لنا من حكمة، ونفرض على أوامره أسباباً وعللاً، قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقية، أو قد تكون، ويعلم سبحانه أن فيها الخير والمصلحة… وهذا هو شأن المؤمن أمام أي تكليف، أو أي حكمٍ في شريعة اللَّه – لم يبيّن اللَّه سببه محدداً جازماً حاسماً – فمهما خطر له من الأسباب والعلل لهذا الحكم، أو لذلك التكليف، أو لكيفية تنفيذ هذا الحكم، أو طريقة أداء ذلك التكليف، مما يدركه عقله، ويحسّن فيه… فينبغي أن يعتبر هذا كله مجرد احتمال، ولا يجزم مهما بلغت ثقته بعلمه وعقله وتدبره لأحكام اللَّه – بأن ما رآه هو حكمة، أو هو الحكمة التي أرادها اللَّه… فذلك التحرج هو مقتضى الأدب الواجب مع اللَّه. ومقتضى ما بين علم اللَّه ومعرفة الإنسان من اختلاف في الطبيعة والحقيقة.

وبهذا الأدب الواجب نتناول حكمة عدم فرض الجهاد في مكة، وفرضيته في المدينة… نذكر ما يتراءى لنا من حكمة وسبب… على أنه مجرد احتمال… وندع ما وراءه للَّه. لا نفرض على أمره أسباباً وعللاً، لا يعلمها إلا هو.. إنها أسباب.. اجتهادية.. تخطئ وتصيب، وتنقص وتزيد، ولا نبغي بها إلا مجرد تدبر أحكام اللَّه، وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان:

أ- ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد، في بيئة معينة، لقومٍ معينين، وسط ظروف معينة. ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات، تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادةً من الضيم، ليخلص من شخصه.. ولا تعود ذاته محور الحياة في نظره، ودافع الحركة في حياته، .. وتربيته كذلك على ضبط أعصابه، فلا يندفع لأول مؤثر – كما هي طبيعته ­- ولا يهتاج لأول مهيج؛ ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته.. وتربيته على أن يتبع مجتمعاً منظماً له قيادة يرجع إليها في كل أمرٍ من أمور حياته، ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره – مهما يكن مخالفاً لمألوفه وعادته – وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي لإنشاء (المجتمع المسلم) الخاضع لقيادة موجهة.

ب- وربما كان ذلك أيضاً؛ لأن الدعوة السلمية أشد أثراً وأنفذ، في مثل بيئة قريش، والتي قد يدفعها القتال معها، في مثل هذه الفترة – إلى زيادة العناد، وإلى نشأة ثارات دموية جديدة، كثارات العرب المعروفة، وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام، فلا تهدأ بعد ذلك أبداً، ويتحول الإسلام من دعوة إلى ثارات تنسى معها فكرته الأساسية..

ج- وربما كان ذلك أيضاً، اجتناباً لإنشاء معركة ومقتلة، في داخل كل بيت، فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة، هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم، إنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد، يعذبونه هم ويفتنونه، ويؤدبونه! ومعنى الإذن بالقتال ‑ في مثل هذه البيئة – أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت.. ثم يقال : هذا هو الإسلام! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال! فقد كانت دعاية قريش.. إن محمداً يفرق بين الوالد وولده، فوق تفريقه لقومه وعشيرته! فكيف لو كان يأمر الولد بقتل الوالد، والمولى بقتل الولي.. في كل بيت وكل محلة؟

د- وربما كان ذلك أيضاً، لما يعلمه اللَّه، من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم، ويعذبونهم، ويؤدبونهم، هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص، بل من قادته.. ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء؟

هـ- وربما كان ذلك أيضاً، لأن النخوة العربية.. من عادتها أن تثور للمظلوم، وبخاصة إذا كان الأذى واقعاً على كرام الناس فيهم، وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة، فابن الدغنة مثلاً لم يرضَ أن يترك أبا بكر – وهو رجل كريم – يهاجر ويخرج من مكة، ورأى في ذلك عاراً على العرب، وعرض عليه جواره وحمايته، وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار ، في الشعب.

و- وربما كان ذلك أيضاً، لقلة عدد المسلمين حينذاك، وانحصارهم في مكة، حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة، .. حيث كانت القبائل تقف على الحياد، من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها… ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة، ويبقى الشرك، وتنمحي الجماعة المسلمة، ولم يقم في الأرض للإسلام نظام، ولا وجد له كيان واقعي.. وهو دينٌ جاء ليكون منهج حياة..

ز- في الوقت ذاته، لم يكن هناك ضرورة قاهرة ملحة لتجاوز هذه الاعتبارات كلها؛ لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائماً – وقتها – ومحققاً. والأمر الأساسي هو (وجود الدعوة) وجودها في شخص الداعية r، وشخصه في حماية سيوف بني هاشم، فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع.. وكان الداعية يبلغ دعوته – ولا يكتمها، ولا يخفيها، ولا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغها وإعلانها، في ندوات قريش، في الكعبة، من فوق جبل الصفا، وفي اجتماعات عامة.. ولا يجرؤ أحد على خطفه أو سجنه أو قتله! ولا يجرؤ أحد على أن يفرض عليه كلاماً بعينه يقوله، يعلن فيه بعض حقيقة دينه، ويسكت عن بعضها.. وعلى الجملة كان للدعوة (وجودها) الكامل، في شخص الرسول r.

هذه الاعتبارات – كلها – فيما نحسب – كانت بعض ما اقتضت حكمة اللَّه – معه – أن يأمر المسلمين بكف أيديهم، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.. لتتم تربيتهم وإعدادهم، وليقف المسلمون في انتظار أمر القيادة، في الوقت المناسب، وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلها، فلا يكون لذواتهم فيها حظ، لتكون خالصةً للَّه، وفي سبيل اللَّه..

وأياً ما كانت حكمة اللَّه من وراء هذه الخطة، فقد كان هناك المتحمسون يبدون لهفتهم على اللحظة التي يؤذن لهم فيها بالقتال .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *