العدد 203 -

السنة الثامنة عشرة ذو الحجة 1424هـ – شباط 2004م

هؤلاء أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين أنصار اليوم؟

هؤلاء أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم

فأين أنصار اليوم؟

شاء اللّه تعالى أن يرسل محمداً صلى الله عليه وسلم خاتماً للأنبياء والرسل، وأن يجعل رسالة الإسلام خاتمة الرسالات السماوية، وأن يكون عمل الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة منصباً على الدعوة للإسلام، والعمل لتمكين هذا الدين في كيان سياسي تنفيذي هو الدولة الإسلامية.

وهذه الدولة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعمل على إقامتها ليتمكن من تطبيق الرسالة التي جاء بها، يمكن بالعقل الإنساني وبالإبداع الخيالي أن تقوم بعدة طرق ووسائل، ولكنها عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم تقم إلا بطريقة واحدة، وهي العمل الفكري السياسي المحض الذي لا تشوبه الأعمال المادية، وفق كتلة سياسية، تعمل لإقامة الإسلام في كيان سياسي تنفيذي، تكون النصرة والتمكين هي طريقة إقامتها. فما كان دور الأنصار وفضلهم في هذه النصرة، وإقامة الدولة وحمايتها.

وقفة مع نصرة الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم

قال ابن إسحاق: فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم، وإنجاز موعده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب، كما كان يصنع في كل موسم. فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً.

فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، أجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه، وقبلوا منه ماعرض عليهم من الإسلام، ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدقوا. فلما قدموا المدينة إلى قومهم، ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى إذا كان العام المقبل، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة وهي العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب.

عن عبادة بن الصامت، قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثنى عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب، على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف. فإن وفَّيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله عز وجل إن شاء عذب وإن شاء غفر. فلما انصرف عنه القوم، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير، وأمره أن يُقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان يُسمَّى المقرِىء بالمدينة. وكان منزله على أسعد بن زرارة. ثم إنه حدث أن جرت حادثة، أسلم فيها أسيد بن حضير وسعد بن معاذ، بعد أن صدق مصعب فيهما الله تعالى. وبإسلام سعد أسلم قومه، ففشا الإسلام في المدينة حتى لم يبقَ في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً ومسلمة.

قال ابن إسحاق: ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وكان ممن خرج الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك، حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة، من أوسط أيام التشريق، حين أراد الله بهم ما أراد من كرامته، والنصر لنبيه، وإعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله.

فاجتمعوا في الشعب، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. قال: فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق نبياً، لنمنعنك مما نمنع منه أُزُرنا، فبايِعْنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر.

فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنا قاطعوها ‑ يعني اليهود ‑ فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم.

قال كعب بن مالك: وقد كان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخرجوا إلي منكم اثنى عشر نقيباً،ليكونوا على قومهم بما فيهم». فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس.

قال ابن اسحاق: إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري: يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم؛ قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال، وقتل الأشراف، فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة؛ قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف؛ فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفَّينا بذلك؟ قال: الجنة. قالوا: ابسط يدك؛ فبسط يده فبايعوه.

التضحية في سبيل نصرة الإسلام

لقد أدرك الأنصار، رضي الله عنهم وأرضاهم، أن الرسول بحاجة للقوة والمنعة ليقيم الدولة الإسلامية، ولقد اختاروا أن يكونوا ناصري دين الله ورسوله، وأرادوا لمدينتهم المنورة يثرب أن تكون نقطة الارتكاز للدولة الإسلامية، وهذا والله ليس بالأمر الهين، فهو التضحية بكل أنواعها، بدءاً من النفس إلى المال والأرض والأهل والولد.

قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال/74].

ولم يكتف الأنصار بالنصرة لإقامة الدولة بل إنهم احتضنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين الذين هاجروا معه، فواسوهم وقاسموهم المال والأرض والثمر، وضربوا في ذلك أروع الأمثلة فكانوا بحق أنصار الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر/9]، فهل من وصف أروع من وصف الله لهم.

لقد هاجر المسلمون إلى المدينة وتركوا وراءهم أموالهم وبيوتهم، فدخلوا المدينة فقراء لا يملكون شيئاً، فلا بيوت ولا أموال ولا عقار ولا ثمار، ولم يدفعهم لذلك كله إلا الإيمان بهذا الدين واتباع هذا الرسول صلى الله عليه وسلم فضحوا من أجل ذلك بكل شيء، لقد أدرك الأنصار أن نصرتهم لدين الله ورسوله تعني النصرة في كل شيء فهبوا لمساعدة إخوانهم المهاجرين، وقاسموهم الأموال والثمار، وقدموا كل ما يزيل عن المهاجرين الشعور بالغربة والفقر والحاجة، وليتصور الواحد منا كيف تكون حاله لو كان في تلك الحال، يدخل بلداً لا يعرفها، ويعيش فيها لا يجد ما يملك، وليست قصة صهيب عنا ببعيد فقد قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ)[البقرة/207] وقد نزلت هذه الآية في صهيب فإنه أقبل مهاجراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش, فنزل عن راحلته, وانتثل ما في كنانته, وأخذ قوسه وقال: لقد علمتم أني من أرماكم, وايم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بما في كنانتي, ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء, ثم افعلوا ما شئتم. فقالوا: لا نتركك تذهب عنا غنياً وقد جئتنا صعلوكاً, ولكن دلنا على مالك بمكة ونخلي عنك; وعاهدوه على ذلك ففعل; فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ )الآية, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ربح البيع أبا يحيى»; وتلا عليه الآية, وقاله سعيد بن المسيب رضي الله عنهما. وقال المفسرون: أخذ المشركون صهيباً فعذبوه, فقال لهم صهيب: إني شيخ كبير, لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم, فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني؟ ففعلوا ذلك, وكان شرط عليه راحلة ونفقة; فخرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ورجال؛ فقال له أبو بكر: ربح بيعك أبا يحيى. فقال له صهيب: وبيعك فلا يخسر, فما ذاك؟ فقال: أنزل الله فيك كذا; وقرأ عليه الآية.

ولقد ضرب الأنصار أروع الأمثلة في الإيثار والتضحية، فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة قال جاء رجلٌ إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: إنّي مجهودٌ فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والّذي بعثك بالحقّ ما عندي إلا ماءٌ. ثمّ أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك. حتّى قلن كلّهنّ مثل ذلك، فقال: من يضيف هذا اللّيلة رحمه اللّه فقام رجلٌ من الأنصار فقال أنا يا رسول اللّه فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته هل عندك شيءٌ قالت لا، إلا قوت صبياني قال فعلّليهم بشيءٍ فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السّراج وأريه أنّا نأكل فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السّراج حتّى تطفئيه قال فقعدوا وأكل الضّيف فلمّا أصبح غدا على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال قد عجب اللّه من صنيعكما بضيفكما اللّيلة.

وأخرج الترمذي عن أنسٍ قال: لمّا قدم عبد الرّحمن بن عوفٍ المدينة آخى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الرّبيع فقال له هلمّ أقاسمك مالي نصفين ولي امرأتان فأطلّق إحداهما فإذا انقضت عدّتها فتزوّجها فقال بارك اللّه لك في أهلك ومالك دلّوني على السّوق فدلّوه على السّوق فما رجع يومئذٍ إلا ومعه شيءٌ من أقطٍ وسمنٍ.

وأخرج أيضاً عن أنسٍ قال لمّا قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه المهاجرون فقالوا يا رسول اللّه ما رأينا قومًا أبذل من كثيرٍ ولا أحسن مواساةً من قليلٍ من قومٍ نزلنا بين أظهرهم لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنإ حتّى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كلّه فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا ما دعوتم اللّه لهم وأثنيتم عليهم».

وأخرج مسلم عن ابن شهابٍ عن أنس بن مالكٍ قال لمّا قدم المهاجرون من مكّة المدينة قدموا وليس بأيديهم شيءٌ، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كلّ عامٍ ويكفونهم العمل والمئونة، وكانت أمّ أنس بن مالكٍ وهي تدعى أمّ سليمٍ، وكانت أمّ عبد اللّه بن أبي طلحة كان أخًا لأنسٍ لأمّه، وكانت أعطت أمّ أنسٍ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عذاقًا لها، فأعطاها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمّ أيمن مولاته أمّ أسامة بن زيدٍ قال ابن شهابٍ فأخبرني أنس بن مالكٍ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمّا فرغ من قتال أهل خيبر، وانصرف إلى المدينة، ردّ المهاجرون إلى الأنصار منائحهم الّتي كانوا منحوهم من ثمارهم، قال فردّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى أمّي عذاقها، وأعطى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمّ أيمن مكانهنّ من حائطه.

وأخرج البخاري عن يحيى بن سعيدٍ قال: سمعت أنسًا رضي اللّه عنهم قال: دعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم الأنصار ليكتب لهم بالبحرين، فقالوا لا واللّه حتّى تكتب لإخواننا من قريشٍ بمثلها، فقال: ذاك لهم ما شاء اللّه على ذلك يقولون له، قال: فإنّكم سترون بعدي أثرةً فاصبروا حتّى تلقوني على الحوض.

وأعظم به موقف سعد بن معاذ في غزوة بدر عندما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل؛ قال: لعلك يا رسول الله تخشى أن لا تكون الأنصار يريدون مواساتك ولا يرونها حقاً عليهم إلا بأن يروا عدواً في بيوتهم وأولادهم ونسائهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: يا رسول الله، فاظعن حيث شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، ثم أعطنا ما شئت، وما أخذته منا أحب إلينا مما تركت، وما ائتمرت من أمر فأمرنا بأمرك فيه تبع، فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوا الذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبرٌ في الحرب، صدق في اللقاء. لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله. فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشّطه ذلك؛ ثم قال: سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم.

فضل الأنصار

وها هو رسول الله يبين فضل الأنصار إضافة لفضلهم في القرآن الكريم:

فقد أخرج مسلم عن عبد اللّه بن عبد اللّه بن جبرٍ قال سمعت أنسًا قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «آية المنافق بغض الأنصار وآية المؤمن حبّ الأنصار» وفي رواية له أيضاً: «حبّ الأنصار آية الإيمان وبغضهم آية النّفاق».

وله أيضاً عن عديّ بن ثابتٍ قال سمعت البراء يحدّث عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال في الأنصار: «لا يحبّهم إلا مؤمنٌ، ولا يبغضهم إلا منافقٌ، من أحبّهم أحبّه اللّه، ومن أبغضهم أبغضه اللّه».

وأخرج أحمد عن ثابتٍ البنانيّ أنّه سمع أنس بن مالكٍ، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إنّ الأنصار عيبتي الّتي أويت إليها، فاقبلوا من محسنهم، واعفوا عن مسيئهم، فإنّهم قد أدّوا الّذي عليهم، وبقي الّذي لهم». وله أيضاً عن الزّهريّ، قال: أخبرني عبد اللّه بن كعب بن مالكٍ الأنصاريّ، وهو أحد الثّلاثة الّذين تيب عليهم، أنّه أخبره بعض أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج يومًا عاصبًا رأسه، فقال في خطبته: «أمّا بعد يا معشر المهاجرين، فإنّكم قد أصبحتم تزيدون، وأصبحت الأنصار لا تزيد على هيئتها الّتي هي عليها اليوم، وإنّ الأنصار عيبتي الّتي أويت إليها، فأكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم».

وللبخاري: عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما، قال: خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في مرضه الّذي مات فيه بملحفةٍ، قد عصّب بعصابةٍ دسماء، حتّى جلس على المنبر، فحمد اللّه، وأثنى عليه، ثمّ قال: «أمّا بعد، فإنّ النّاس يكثرون ويقلّ الأنصار حتّى يكونوا في النّاس بمنزلة الملح في الطّعام، فمن ولي منكم شيئًا يضرّ فيه قومًا، وينفع فيه آخرين، فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم»، فكان آخر مجلسٍ جلس به النّبيّ صلى الله عليه وسلم.

ولأحمد عن أنسٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«اللّهمّ اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأزواج الأنصار، ولذراريّ الأنصار. الأنصار كرشي وعيبتي، ولو أنّ النّاس أخذوا شعبًا، وأخذت الأنصار شعبًا، لأخذت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار».

وله أيضاً عن أبي قتادة يقول: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: «الأنصار ألا إنّ النّاس دثاري، والأنصار شعاري، لو سلك النّاس واديًا، وسلكت الأنصار شعبةً، لاتّبعت شعبة الأنصار، ولولا الهجرة لكنت رجلاً من الأنصار. فمن ولي من الأنصار، فليحسن إلى محسنهم، وليتجاوز عن مسيئهم، ومن أفزعهم فقد أفزع هذا الّذي بين هاتين، وأشار إلى نفسه صلى الله عليه وسلم».

هؤلاء هم الأنصار الذي جعل الله حبهم من الإيمان، وبغضهم من النفاق، والذين دعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبنائهم، ولأبناء أبنائهم، ولأزواجهم، لما كانوا عليه من الفضل والنصرة والتضحية.

لقد حاورهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقف مؤثر بليغ، بعد حنين، بيّن فيه فضلهم، وحبه لهم، أذكره لكم، لما فيه من الموعظة والعبرة والتذكر، وأختم به هذه الكلمة:

لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا، في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه.

فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء. قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. قال :اجمع لي قومك في هذه الحظيرة. قال: فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة فجاء رجال من المهاجرين فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردهم. فلما اجتمعوا له أتاه سعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «يا معشر الأنصار، ما قالة بلغني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم!» قالوا: بلى، الله ورسوله أمن وأفضل. ثم قال: «ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟» قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ الله ولرسوله المن والفضل.

قال صلى الله عليه وسلم: «أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم. ألا ترضون يا معشر الأنصار، أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً، وسلكت الأنصار شعباً، لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار».

فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرقوا.

هؤلاء هم الأنصار الذين نصروا الدعوة، وحموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا بحق أنصار الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قيل لأنس بن مالك: أرأيت قول الناس لكم: الأنصار, اسم سماكم الله به أم كنتم تدعون به في الجاهلية؟ قال: بل اسم سمانا الله به في القرآن.

لقد عاش الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينالوا حكماً ولم يحصلوا على سلطة، فكانت لهم الجنة بحق على نصرتهم، وهم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في العقبة: إن بايعناك فماذا لنا؟ قال: «الجنة»، ولم يزد عليها شيئاً من متاع الدنيا.

إننا عندما نتذكر الأنصار ومواقفهم، رضي الله عنهم، فإن النفس لتحزن على قلة أنصار هذا الدين هذه الأيام، فأين هم القادرون على نصرة دين الله، وإقامة الخلافة الراشدة؟ أين هم الذين باعوا الغالي والنفيس في سبيل أن يدخلوا الجنة؟

إن العاملين لإقامة دولة الإسلام ويترسمون عمل الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنهم بحاجة لنصرة أمثال الأنصار، رضي الله عنهم، لإقامة هذه الدولة. وإن من واجب أي مسلم اليوم أن يكون من هؤلاء الأنصار، فإن لم يكن منهم، فإن عليه أن يدل عليهم، ويدعوهم لنصرة هذا الدين، فلنبع أنفسنا لله تعالى، وليخلدنا التاريخ كما خلد الأنصار، وليكن نصيبنا من ذلك كله الجنة ليس غير .

أبو الحارث التميمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *